لا اختار إلا ما اختاره الله لك من الشهادة في سبيله

شريط الذكريات يمرّ أمامي سريعاً كالحلم، عامٌ مرّ وكأنه الأمس القريب لرحيل روحي ونبض قلبي وثمرة فؤادي وقرة عيني الشهيد الشاب السعيد الغريب الوحيد.. (جعفر).
(جعفر) هذا الاسم الذي طالما كنتُ أترنّمُ بذكره، وأتباهى بإيمانه والتزامه وبرّه، وحسن خلقه وكريم خصاله في كلّ حين.
(جعفر) كم كنتُ أغبطُ نفسي عندما أنادَى باسمك (أمّ جعفر) حتى كدتُ أنسى حروف اسمي..
قمري الشهيد: أجد قلمي عاجزاً عن المداد، وحروفي لا تنتظم في اتساق، كيف والخطب جلل، والرزء عظيم، والفراق موجِع، ورحيلك ليس كأي رحيل؟!
يوم الفاجعة، والحال والأحوال فيه مع عظمها فإنها كلها بعين الله سبحانه، كم من الألطاف الإلهية التي حفّتنا، وكم من الرحمات الربانية التي تنزّلت علينا مع هذا الابتلاء، فنحمده على حسن بلاءه، ورضاً بقضائه.
ربّ.. وهبتني إياه هبة رحمةٍ وإحسان، ثمّ قبضته إليك واسترجعت الوديعة بلطفٍ ورضوان، فلك الحمد يا حنّان يا منّان.
بنيّ … أنا أعلم حقّ اليقين بأنّك في جوار ربّك ترفل في النعيم والراحة الأبديّة في جنّتك البرزخية بجوار محمد وآل محمد، لقد نلتَ غاية المنى، أدركت أقصى درجات العلا، فهنيئا لك هذا المقام.
لن أكدر صفو هناءك يا بنيّ، فأنا -إن شاء الله- صابرة راضية مسلّمة بقضاء الله كما أوصيتني، وكما عهدتني.. وإن رأيتني أبكي فبكاء حنينٍ واشتياق.. لا بكاء جزعٍ واعتراض -حاشا لله- وأنت حتماً تعلم ذلك فأنت حيّ حاضرٌ تشهد الحال. أراكَ تحيطني بحنانك، بلطفك، بدعائك.
بنيّ.. لقد قلّدتني أغلى وسام (أمّ الشهيد)، ولي الفخر والعزّ والكرامة باسمك ومقامك وشهادتك المباركة.
بنيّ.. أقولها لك بالفم الملآن “لو خُيّرتُ بين أن يفرج عنك وتعود إلى أحضاني وبين أن تقتل وتستشهد لما اخترتُ إلا ما اختاره الله لك من مقام الشهادة والحياة السرمديّة”.
لقد فزتَ بشهادةٍ مميزةٍ تليق بك، رسمتها بإيمانك الثابت وعقيدتك الراسخة وصبرك الجميل وخصالك النبيلة.. وسعيتَ إليها وطلبتَ منّي الدعاء لك لتنالها. فأنا لم أذخرك لأيام الدنيا الزائلة، بل أردتُك لله وفي سبيل الله.
ربّ.. وهبتني إياه هبة رحمةٍ وإحسان، ثّم قبضته إليك واسترجعت الوديعة بلطفٍ ورضوان، فلك الحمد يا حنّان يا منّان.
ربّ.. تقبّل منّا هذا الشهيد الغريب الذي واسى أهل البيت عليهم السلام بدءًا من سجنه وغربته وعذاباته.. إلى وحدته حين القتل بلا ناصر ولا معين.. وبلا وداعٍ لأهله وأقاربه.. ثمّ قطع وتينه، ورهن جثمانه الطاهر وانتهاءً بخفاء قبره مواساة لمولاتنا الصديقة الكبرى فاطمة سلام الله عليها.
ربّ اعلِ درجاته ومقامه عندك في أعلى عليين، فعندك نحتسبه يا رب العالمين، واجعله لنا شفيعا ومشفعًا، واجمعنا به في جوارك في مقعد صدقٍ مع أوليائك الطاهرين.
بقلم: والدة الشهيد جعفر سلطان
الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد المجاهد جعفر سلطان
29 مايو/آيار 2024



