الحصار لكلّ القوى الإقليمية التي تسعى للتطبيع يتكامل في أهم بقعة في مركز العالم القديم، وفرصة التغيير الإيجابي في بنية النظام الإقليمي لمصلحة شعوبه أصبحت أكثر احتمالية.
يتسارع التصعيد العسكري ببعده الاستراتيجي في المواجهة التي يخوضها محور المقاومة مع النظام الغربي في ساحة فلسطين المحتلة، ولم يتوقف الأمر مع الرد الإيراني العسكري الواسع ليلة 13-14 شهر نيسان/أبريل الماضي، فكانت المفاجأة مع إصدار المقاومة الإسلامية في البحرين بياناً أعلنت فيه عن عمليتها العسكرية الأولى ضد الكيان الصهيوني باستهداف مدينة أم الرشراش (إيلات)، ثم تبع البيان تصعيد واضح من اليمن بعد كلمة السيد عبد الملك الحوثي بالانتقال إلى المرحلة الرابعة من التصعيد اليمني باستهداف حركة كل الناقلات البحرية المتوجهة إلى الكيان مهما كانت جنسيتها.
هذا الانتقال إلى مستوى جديد من المواجهة ما كان ليحصل لولا مجموعة من العوامل المتضافرة مع بعضها البعض ضمن الاستراتيجية الأميركية التي تعمل في سباق مع الزمن بعد مضي قرابة 7 أشهر على عملية “طوفان الأقصى”، في محاولة مستمرة لاحتواء النتائج الزلزالية للعملية، والتي وصلت إلى داخل الولايات المتحدة مع اندلاع الثورات الطلابية في أهم الجامعات الأميركية وتمددها إلى بقية دول النظام الغربي في أوروبا وآسيا، والخشية من تضعضع ما تم بناؤه من سرديات سياسية تاريخيّة حاكمة لشعوب النظام الغربي.
أولى هذه العوامل هي يقظة الوعي المتمدد داخل الشعوب الغربية، وخصوصاً لدى جيل جديد من الشباب المحكوم باستبداد ناعم مُحكم بتفاصيله الإعلامية والسياسية والاقتصادية.
العامل الثاني هو إدراكه حجم الحراك العميق المكتوم حتى الآن لدى جيل جديد من الشباب في الدول التي تعتبر ضمن حلقة البيئة الآمنة المحيطة بالكيان، وخصوصاً في مصر والسعودية، عدا عن الأردن الذي يشهد غلياناً واضحاً هو الأخطر على الكيان.
الثالث هو انتقال أوسع عدد من دول العالم لمناهضة السياسات الأميركية بشكل متباين تبعاً لموقعها وقدرتها، ولكن الإدراك العام لقادة هذه الدول هو أنها تحتاج إلى نظام عالمي جديد يتيح لها الفرصة للتخلص من التهديدات المتعاظمة لسياسات للولايات المتحدة وأثرها في الحياة الاقتصادية لهذه الدول. وهنا يأتي العنوان الفلسطيني باعتباره حامل رمزية المواجهة ونتائجها، ومن خلاله يمكن الولوج إلى نظام دولي أكثر حرية وعدالة للدول.
الرابع هو معرفة الإدارة الأميركية حجم المأزق الكبير للكيان ولمجمل الدول التي تدور ضمن الفلك الأميركي في منطقة غرب آسيا من جراء تراكم المكتسبات التي حققتها قوى المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن والعراق وسوريا، ومعهم إيران التي ثبَّتت معادلة جديدة بالرد المباشر والواسع على اعتداء الكيان على قنصليتها في دمشق، وهي قوى لا يمكن تجاوزها في أي محاولة أميركية لبناء نظام إقليمي مهدد لها. على العكس، فإن ما تعمل عليه من محاولات لبناء نظامها الإقليمي الخاص المتوسع يشكل تهديداً للوجود الأميركي في منطقة غرب آسيا.
الخامس هو الانقسام الأميركي المزمن بين الجمهوريين والديمقراطيين، وحتى بين اليساريين واليمينيين الديمقراطيين أنفسهم، والذي يشكل أحد عوامل التآكل الداخلي للإمبراطورية وفقاً للدراسة التي نشرتها مؤسسة راند “مصادر الديناميكية المتجددة” بتكليف من البنتاغون الأميركي، والتي كتب عنها ديڤيد إغناتيوس في صحيفة “واشنطن بوست”، وهذا الانقسام له تداعياته على الانتخابات الأميركية القادمة، وهي الأخطر في تاريخ الولايات المتحدة.
هذه العوامل الأساسيّة تدفع الإدارة الأميركية إلى العمل بشكل متسارع على تثبيت واقع استراتيجي متجدد يعتبر امتداداً للواقع السابق بعناوين وأوجه جديدة، ابتداءً من الميناء العائم مقابل غزة، ومحاولات استخدام ورقة التهديد باجتياح مدينة رفح كورقة ضغط على حركة “حماس” للقبول بشروط الهزيمة لمصلحة الكيان، مع ضغوط كبيرة على السعودية للإعلان عن التطبيع مع الكيان كجائزة بديلة من الهزيمة، وتعزيز المحيط الإقليمي الآمن للكيان في عمق النظام العربي المتعدد الأوجه والأشكال.
أصبح من الواضح الآن حجم المأزق الذي دخل به النظام الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة بعد المواجهة الأخيرة التي خاضها بشكل مفاجئ في إثر عملية “طوفان الأقصى”، وسقوط معظم الرهانات حتى الآن على تحويل مسار العمليات العسكرية بتفكيك التناغم المتصاعد بين قوى المقاومة في إدارتها للمواجهة العسكرية، والتي وصلت إلى مرحلة الحصار الكامل للكيان مع الإعلان عن الانتقال إلى المرحلة الرابعة للحصار البحري.
هذا المأزق ليس فقط للنظام الغربي الذي يعدّ الركيزة الأساس لبقاء الكيان، إنما يمتد إلى النظام العربي الذي يعدّ الركيزة الثانية لاستمراره كسورٍ واقٍ له من جهة، والعمل على دمجه في بيئة اجتماعية تاريخيّة لا تستطيع تقبُّله من جهة أخرى.
من هنا يأتي أهمية بيان المقاومة الإسلامية في البحرين وإعلانها دخول المعركة حول فلسطين، بغض النظر عن مكان عملية إطلاق الطائرة المسيرة غير المعلن، ولكن البيان بحد ذاته يحمل رسالة واضحة الدلالة والرمزية، موجهة إلى دول الركيزة الثانية للكيان من قبل قوى المقاومة باكتمال حصارها للنظام الإقليمي الذي يتم العمل على ولادته عبر استكمال حرب إبادة منضبطة في غزة والضفة في ما بعد.
هذه الصورة العامة للمواجهة مع النظام الغربي تدفع إلى السباق بين ضرورة حصول تسوية عامة في منطقة غرب آسيا وفقاً للنتائج المترتبة على تداعيات “طوفان الأقصى”، والإقرار بالواقع الجديد بعنوان هدنة طويلة غير معلنة، وباستمرار المعركة بمستويات منخفضة مع اقتحام الجيش الصهيوني لرفح، رغم أنه لن يغير من النتائج التي تحققت، بل إن استمرار النظام الغربي في سياساته الخشنة سيدفع بالمزيد من الخسائر والتآكل وتعاظم الأثمان بفعل التعاضد المتعاظم بين القوى الدولية والشعبية التي أدركت أنها بتآزرها يمكنها أن تغير البنية السياسية الدولية من بوابة “فلسطين حُرَّة”، فما كشفته المواجهة المديدة هو ترابط كل الملفات الإقليمية والدولية، ولا حل لمشكلاته إلا من بوابة الحل في فلسطين، والذي سيتحقق على مراحل.
الحصار لكلّ القوى الإقليمية التي تسعى للتطبيع يتكامل في أهم بقعة في مركز العالم القديم، وفرصة التغيير الإيجابي في بنية النظام الإقليمي لمصلحة شعوبه أصبحت أكثر احتمالية على مدى السنوات القادمة، ولا يمكن أن يُنجز هذا التغيير إلا إذا ترافق مع حصول تغيير داخلي حقيقي في البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية.