إكتساب الأخلاق الفاضلة
اعلم أن إصلاح أخلاق النفس وملكاتها في جانبي العلم والعمل، واكتساب الأخلاق الفاضلة، وإزالة الأخلاق الرذيلة، إنما هو بتكرار الأعمال الصالحة المناسبة لها ومزاولتها، والمداومة عليها، حتى تثبت في النفس من الموارد الجزئية علوم جزئية وتتراكم وتنتقش في النفس انتقاشا متعذر الزوال أو متعسرها، مثلا: إذا أراد الإنسان إزالة صفة الجبن واقتناء ملكة الشجاعة كان عليه أن يكرر الورود في الشدائد والمهاول التي تزلزل القلوب وتقلقل الأحشاء، وكلما ورد في مورد منها وشاهد أنه كان يمكنه الورود فيه وأدرك لذة الإقدام وشناعة الفرار والتحذر انتقشت نفسه بذلك انتقاشا بعد انتقاش حتى تثبت فيها ملكة الشجاعة، وحصول هذه الملكة العلمية وإن لم يكن في نفسه بالاختيار لكنه بالمقدمات الموصلة إليه – كما عرفت – اختياري كسبي.
إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن الطريق إلى تهذيب الأخلاق واكتساب الفاضلة منها أحد مسلكين:
المسلك الأول: تهذيبها بالغايات الصالحة الدنيوية، والعلوم والآراء المحمودة عند الناس، كما يقال: إن العفة وقناعة الإنسان بما عنده والكف عما عند الناس توجب العزة والعظمة في أعين الناس والجاه عند العامة، وإن الشره يوجب الخصاصة والفقر، وإن الطمع يوجب ذلة النفس المنيعة، وإن العلم يوجب إقبال العامة والعزة والوجاهة والانس عند الخاصة، وإن العلم بصر يتقي به الإنسان كل مكروه، ويدرك كل محبوب، وإن الجهل عمى، وإن العلم يحفظك وأنت تحفظ المال وإن الشجاعة ثبات يمنع النفس عن التلون والحمد من الناس على أي تقدير سواء غلب الإنسان أو غلب عليه بخلاف الجبن والتهور، وإن العدالة راحة النفس عن الهمم المؤذية، وهي الحياة بعد الموت ببقاء الاسم وحسن الذكر وجميل الثناء والمحبة في القلوب. وهذا هو المسلك المعهود الذي رتب عليه علم الأخلاق، والمأثور من بحث الأقدمين من يونان وغيرهم فيه. ولم يستعمل القرآن هذا المسلك الذي بناؤه على انتخاب الممدوح عند عامة الناس عن المذموم عندهم، والأخذ بما يستحسنه الاجتماع وترك ما يستقبحه، نعم ربما جرى عليه كلامه تعالى فيما يرجع بالحقيقة إلى ثواب أخروي أو عقاب أخروي كقوله تعالى: (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة)[1]، دعا سبحانه إلى العزم والثبات، وعلله بقوله: (لئلا يكون) وكقوله تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا)[2]، دعا سبحانه إلى الصبر وعلله بأن تركه وإيجاد النزاع يوجب الفشل وذهاب الريح وجرأة العدو، وقوله تعالى: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور)[3] دعا إلى الصبر والعفو، وعلله بالعزم والإعظام.
المسلك الثاني: الغايات الأخروية، وقد كثر ذكرها في كلامه تعالى، كقوله سبحانه: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة)[4]، وقوله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)[5]، وقوله تعالى: (إن الظالمين لهم عذاب أليم)[6]، وقوله تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات)[7]، وأمثالها كثيرة على اختلاف فنونها. ويلحق بهذا القسم نوع آخر من الآيات، كقوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير) فإن الآية دعت إلى ترك الأسى والفرح بأن الذي أصابكم ما كان ليخطئكم وما أخطأكم ما كان ليصيبكم، لاستناد الحوادث إلى قضاء مقضي وقدر مقدر، فالأسى والفرح لغو لا ينبغي صدوره من مؤمن يؤمن بالله الذي بيده أزمة الأمور، كما يشير إليه قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه) فهذا القسم من الآيات أيضا نظير القسم السابق الذي يتسبب فيه إلى إصلاح الأخلاق بالغايات الشريفة الأخروية، وهي كمالات حقيقية غير ظنية يتسبب فيه إلى إصلاح الأخلاق بالمبادئ السابقة – الحقيقية من القدر والقضاء والتخلق بأخلاق الله والتذكر بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا ونحو ذلك.
آية الله الشيخ محمد الريشهري – ميزان الحكمة
المصادر
[1] البقرة: 150.[2] الأنفال: 46.
[3] الشورى: 43.
[4] التوبة: 111.
[5] الزمر: 10.
[6] إبراهيم: 22.
[7] البقرة: 257.