
تتطور الأنا البشرية كموجود حي يجتاز عدّة مراحل من أجل الوصول إلى نقطة الكمال والاكتمال، وفي ضوء ذلك تتبلور المسارات التكاملية لحركة الإنسان من خلال ثلاثة مستويات متتالية ومترابطة، وهي:
المستوى الأول: حركة النفس في دائرة المبادئ: لا مناص من أن تستند كل حركة إرادية عاقلة على مبادئ أولية، تستبطن الدوافع الذاتية الداخلية التي تنبعث من رائها تلك الحركة، والمشكلة الأساسية التي تواجه حركة الإنسان في هذا المستوى تتمثل في دورانه حول نفسه، من دون أن يحاول الخروج عن هذا المستوى إلى المستوى الذي يليه، وهو ما عناه الأمير (ع) بقوله: (المتعبد على غير فقه كحمار الطاحونة يدور ولا يبرح)، وهذه هي الإشكالية والمحنة التي تعترض حياة وتدين الكثير من الناس المؤمنين، فهم سرعان ما يعلقون في المستوى الأول، ويعجزون عن مغادرته ومفارقته، إلا بعد أن يوهن العظم ويشتعل الرأس شيبا، ولا يبقى في الحياة متسعاً للتغيير والتطوير.
المستوى الثاني: حركة العقل في دائرة الوسائل: بعد أن نحدّد المبادئ الأولية التي تحكم وتضبط حراكنا الإنساني، ننتقل إلى المستوى الثاني من الحراك التطوري للذات الإنسانية، فنعمل على تحديد الوسائل التي تسهم في انتقالنا إلى الطور اللاحق، ولكن هنا -ومع الأسف- يستعيد الكثير من عباد الله المؤمنين نفس الإشكالية المتقدمة في المستوى الأول، فيبقون منشغلين بتحديد الوسائل، ويختلفون فيما بينهم على الأهم والمهم والأفضل والأسوء منها، وهو ما يبقيهم في محلهم من دون حراك فعلي للتطور والإرتقاء، وهذا ما عناه تعالى بقوله عن البعض من الناس: (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون) [التوبة 126].
المستوى الثالث: حركة الروح في دائرة الغايات: دائماً ما يكون نظر الروح إلى الأمر أكثر دقة وأعمق فهماً وأكثر وعياً، لأنها الأقدر على التجرّد عن ملابسات النفس والعقل في فهم الأشياء والحكم عليها، ومن هنا حينما يتجرّد الإنسان روحياً لا يعود أسيراً لتقصيراته النفسيه أو قصوراته العقلية، وهو ما حاول أن يكشف عنه الأمير (ع) بقوله: (لأن العالم تأتيه الفتنة فيخرج منها بعلمه، وتأتي الجاهل فتنسفه نسفاً، وقليل العمل مع كثير العلم خير من كثير العمل مع قليل العلم والشك والشبهة). ومن أجل ذلك ترى الإنسان في آخر حياته يصبح أكثر وعياً بالاختلافات، وأشدّ إدراكاً للتباينات، كما أنه يكون أكثر هدوءاً وانضباطاً في التعاطي والتعامل مع المواقف الانفعالية والعاطفية التي تمرّ به، لأن تركيزه صار ينصبّ أكثر على الغاية التي تكمن من وراء العمل، وليس على الوسائل والمبادئ.