ضرورة التفقُّه في الدّين لدى العاملين
عن الإمام الصادق عليه السلام: “سارعوا إلى طلب العلم، فوالذي نفسي بيده، لحديث واحد في حلال وحرام تأخذه من صادق، خير من الدنيا وما حملت من ذهب وفضة”1.
يعتبر التفقُّه في الدين حصن العامل وملاذه والخلفية الدينية والقانونية التي ينطلق منها، والجبل الراسي الذي يستند إليه في كافة قراراته وأفعاله، لأنه من الطبيعي أنّ ترك التفقّه في الدين سيؤدي بالعامل إلى أن يكون محكوماً للأهواء والمزاج وبعض الأعراف الخاصّة والسلوكيات العرفية والتشبه بالآخرين وسوى ذلك من المصالح والاستحسانات التي لا يمكن أن تشكّل نوعاً من الخلفيات الثقافية، وقد نهى الله عن التعلّق بها فضلاً عن نتائجها الأخروية، وقد عدّ أمير المؤمنين أنّ ترك التفقه في الدين يُرجع المرء جاهليّاً بل من جفاة الجاهلية، فقد ورد عنه عليه السلام: “ليتأسَّ صغيركم بكبيركم، وليرأف كبيركم بصغيركم، ولا تكونوا كجفاة الجاهلية: لا في الدين يتفقّهون، ولا عن الله يعقلون”2.
منزلة التفقُّه في الدين في الروايات
1- التفقُّه كمال الدين: عن أمير المؤمنين عليه السلام: “أيها الناس اعلموا أنّ كمال الدين طلب العلم والعمل به، وأنّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال”3.
فالكمال الذي ننشده جميعاً لا سيّما العاملين الذين نذروا أنفسهم للعمل بمسيرة الإسلام فرع مقدّمتين أساسيتين:
الأولى: طلب العلم،
والثانية: العمل به.
فالعلم بلا عمل حجّةٌ على صاحبه، بل يتحوّل سعيراً يحرقه، والعمل بلا علم يبعد صاحبه عن الصراط السوي والجادّة المستقيمة.
ويؤيد ذلك ما ورد عن أبي عبد الله عليه السلام: “لا يقبل الله عملاً إلا بمعرفة، ولا يقبل المعرفة إلا بعمل، فمن عرف دلّته معرفته على العمل، ومن لم يعمل فلا معرفة له، إنّ الإيمان بعضه من بعض”4.
وفي الحديث دلالة واضحة على الذين يعتبرون أنّ الكمال يكون بالمال فيقول لهم إنّ المال الذي هو حاجة وضرورة حياتية ومعيشية لا غنى عنها لا يرقى ليكون بضرورة العلم ومقامه.
2- التفقُّه أفضل العبادة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ما عُبد الله تعالى بشيء أفضل من الفقه في الدين”5، لأنه منارة كافّة العبادات، وأي عمل يتقرّب المرء به إلى الله له فقهه الخاصّ وأحكامه الخاصّة، وبالتالي فعلينا اليوم أن نتجه نحو تقوية الفقهالموضوعيّ ليكون هناك فقه خاصّ بالتعليم وآخر بالإدارة وآخر بالطبيب والمريض وما شابه، حتى يشمل الفقه موضوعيّاً كافّة مرافق الحياة.
3- التفقُّه دعامة الدين: ومعنى ذلك أنّ المؤمن لا سيّما العامل إذا لم يتفقّه في الدين فمثل دينه كخيمةٍ بلا دعامة لا تؤدّي دورها ولا يرغب فيها أحد.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّ لكلّ شي ء دعامة، ودعامة هذا الدين الفقه”6.
ومن هنا يجب علينا جميعاً أن نُحدّث ما نعلمه ليكون مواكباً لمتطلّبات العصر وشاملاً لكافّة الاحتياجات ليتمكّن من الإجابة الوافية عن كلّ الأسئلة التي يسألها الناس.
4- التفقُّه هو الخير الذي يريده الله: عن أمير المؤمنين عليه السلام: “إذا أراد الله بعبدٍ خيراً، فقّهه في الدين، وألهمه اليقين”7.
وفي حديثٍ آخر يربط الإمام الباقر عليه السلام بين العلم والخير فيقول فيما أوصى به لابنه الإمام الصادق عليه السلام: “يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً، قلت: جعلت فداك والله لأدعنّهم والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً”8.
وفي حديثٍ عن الإمام الكاظم عليه السلام يعدّد فيه فضائل التفقّه في الدين فيقول: “تفقّهوا في دين الله فإنّ الفقه مفتاح البصيرة، وتمام العبادة، والسبب إلى المنازل الرفيعة والرُّتب الجليلة في الدين والدنيا، وفضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب،ومن لم يتفقّه في دينه لم يرضَ الله له عملاً”9.
5- التفقّه روح العبادة: يعتبر التفقّه ركيزة العبادة الأولى، فالعبادة بلا تفقّه لا روح فيها، وهو ما نجده في العديد من الروايات التي قرنت بين التفقّه والعبادة. فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “قليل الفقه خير من كثير العبادة”10. ولأنّ التفقه مقدّمٌ رتبة على العبادة نقرأ عن لسان الإمام عليّ عليه السلام: “لا خير في عبادة ليس فيها تفقّه”11…….
تخصيص وقت للتفقّه
تأفّف النبيّ من المسلم الذي لا يخصّص وقتاً لتعلّم أحكام الشريعة والتفقّه في الدين، والتأفّف يعني إنزعاج النبيّ من المسلم الذي يصدر عنه الأمر السيِّئ بينما ينبغي أن تتوقّع منه الحسن.
فعنه صلى الله عليه وآله وسلم: “أفٍّ لكلّ مسلم لا يجعل في كلّ جمعة (أي أسبوع) يوماً يتفقّه فيه أمر دينه، ويسأل عن دينه”12.
وهذا الحديث يدلّ على أمرين:
1- أنّ التفقّه لا ينبغي أن يقتصر على تعلّم الأحكام الشرعية فقط، بل هو تعلّم كلّ مسائل الدين، وفي مقدَّمتها العقيدة الحقّة والخصال الحميدة.
2- أنّ المسلم إذ استعصت عليه مسألة ما في أيّ باب من أبواب الشريعة فإنه يبادر إلى السؤال ولا يرضى لنفسه الجهل وعدم المعرفة.
لكن يظهر من الحديث التقصير غير المغفور للمرء الذي لا يخصّص وقتاً لطلب العلم.
عاقبة عدم التفقّه
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: “تفقّهوا في دين الله، ولا تكونوا أعراباً، فإنّ من لم يتفقّه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة، ولم يزكِّ عمله”13.
فالعامل غير المتفقّه في أحكام دينه من الطبيعي أن لا ينظر الله إليه لأنه لم يتقيد بأحكام دين الله ولم يَسِرْ على منهاج الشريعة الغرّاء، ومعنى أنّ الله لا يزكي له عملاً أنّ العمل الذي يزكيه الله هو العمل القربوي الذي كانت نيته لله تعالى، ومع عدم التفقّه لا يمكن اعتبار العمل قربويّاً.
خصائص التفقّه وآثاره:
يظهر من خلال تتبّع الروايات وجود العديد من الخصائص الخاصّة بالفقيه، إلى جانب العديد من الآثار التي ينبغي أن تنعكس على سلوك المتفقّه في دين الله تعالى، منها:
إيجابيّات التفقه
1- القصد في العمل: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ما ازداد عبد قطّ فقهاً في دينه إلا ازداد قصدًا في عمله”14.
2- الورع: عن الإمام عليّ عليه السلام: “الورع شيمة الفقيه”15.
3- إصلاح المعيشة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من فقه الرجل أن يصلح معيشته…”16.
4- عدم الغرور: عن الإمام عليّ عليه السلام: “إنّ من الحقّ أن تتفقّهوا، ومن الفقه أن لا تغتروا”17.
5- الحِلْم والقصد في الكلام: عن الإمام الرضا عليه السلام: “من علامات الفقه الحِلْم والعلم والصمت”18.
- كتاب وتزودوا في شهر الله، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
المصادر والمراجع
1- المحاسن للبرقي، ج 1، ص 356.
2- نهج البلاغة، ج2، ص 77.
3- الكافي للكليني، ج 1، ص 30، ح 4.
4- مشكاة الأنوار، ص 236.
5- ميزان الحكمة، ج3، ص 2454.
6- المصدر نفسه.
7- غرر الحكم ودرر الكلم للقاضي الآمدي، الحكمة 4133.
8- الكافي، الشيخ الكليني، ج1، ص306.
9- ميزان الحكمة، ج3، ص 2454.
10- المصدر السابق، ج3، ص 2459.
11- المصدر السابق، ج3، ص 2459.
12- ميزان الحكمة، ج3، ص 2454.
13- بحار الأنوار، ج7، باب أصول المتيقن.
14- كنز العمال: 5404.
15- غرر الحكم: 995.
16- كنز العمال: 5439.
17- نهج السعادة: 3/29.
18- الاختصاص: 232.