ثقافة

الإتقان في العمل

قال تعالى: ﴿…صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾1.

من الصفات التي يحتاجها أيّ مجتمع لنموّه وكماله وتطوّره هي تحلّي أفراده بإتقان أعمالهم وإنجازها وفق المسار الصحيح الذي وُضع لها، فلو أنّ كلّ فردٍ من أفراد المجتمع أتقن ما فعل وأنجزه على خير ما يرام لصلحت أحوالهم وانتفت خلافاتهم ووفّروا على أنفسهم الكثير من الخلافات والنزاعات، والحقُّ يُقال إنّ هذه الميزة من المزايا التي ما زالت تنقص الكثير من شعوب منطقتنا، بل أكثر من ذلك فإنّ هذه الميزة تحتاج للكثير من الثقافة والمعرفة التي ينبغي على الأمّة تعلّمها أوّلاً حتى تستطيع أن تتقن ما تنجز بأفضل من يجب إنجازه.

معنى الإتقان:

من الطبيعي أن يكون لكل عمل إتقانه الخاصّ به، فالسلعة التجارية لها إتقانها والعمل الرياضي له إتقانه والعمل الإداري كذلك وهكذا، لكنّ ما نريد لفت النظر إليه هنا هو الاتقان الذي ينبغي على العاملين التميُّز به، والذي يعني تحقيق الهدف المرسوم وفق الخطّة المدروسة بمراعاة الإمكانات والظروف والوقت.

فالإتقان يعني أنّ العمل الذي يمكنك فعله بساعة فليس من الإتقان أن تنجزه بساعتين فضلاً عن أن تنجزه بيوم، كتسويف بعض العاملين بعض المراجعين وعدم إعطائهم أجوبة صريحة حول ملفّاتهم وأعمالهم.

والإتقان يعني أنّ العمل الذي يمكنك أن تنجزه بتكلفة قليلة ليس من الإتقان أن تنجزه بتكلفة أكبر، فالنشاط الذي ينجزه غيرك بمئة دولار لا يمكن أن نسمّي إنجازه بمئتي دولار أو أكثر إتقاناً.

والإتقان يعني أنّ الفعل الذي يمكنك أن تنجزه بعشرة أفراد ليس من الإتقان أن تنجزه بعشرين شخصاً، فهناك البعض الذي يُطالب بعديد كبير ويتركهم بلا مهامّ ولا يستفيد منهم إلا نادراً فهو بذلك يهدر الطاقات ويُضعف غيره ممّن هم أحوج منه إلى هذا العديد.

والإتقان يعني أنّ تحقيق نسبة 90% من الأهداف المرسومة ليس إتقاناً، فالكتاب الذي تصدره لكي يقرأه ألف شخص لا بدّ من مراجعة كافّة خطواته إذا تبيّن أن الذين طالعوه لم يتجاوزوا 900 شخص، ولا يمكن ترك تقييم أيّ عمل بلحاظ أهدافه.

كما أنّ الإتقان وقبل كافّة العناوين المتقدّمة يعني أنّ الوصول إلى الأهداف ينبغي أن يكون عبر الوسائل المشروعة، أمّا تحقيق الأهداف عبر الوسائل والآليات غير المشروعة كالكذب والغشّ والتزوير وما شاكل فهذا ليس إتقاناً بل هو فشلٌ صرف.

الإتقان في كلّ شيء:

كما أشارت الآية المتقدّمة ﴿…صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾2. إنّ الإتقان هو حالة متكاملة بين جميع أفرادها فعلى سبيل المثال إنّ الكتاب المتقن هو الكتاب الذي أُتقنت كافّة خصائصه، في موضوعه وشكله وإخراجه ونوع خطّه وحجمه وسلاسة عبارته وتماسك فقراته وحجمها، وغير ذلك من عشرات المسائل الأخرى التي يعتبر التفريط بها أو بأيٍّ منها خروج الكتاب عن إتقانه، وكذلك الكلام في المحاضرة والمؤتمر والجلسات والسهرات العلمية والدروس الدينيةوالأنشطة والمناسبات وغير ذلك ممّا يمكن عدّه وإحصاؤه.

قراءة في رواية

عندما توفّي سعد بن معاذ لَحَده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ذلك يقول الإمام الصادق عليه السلام: “إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزل حتى لحد سعد بن معاذ وسوّى اللبن عليه وجعل يقول: ناولني حجراً، ناولني تراباً رطباً، يسدّ به ما بين اللبن، فلمّا أن فرغ وحثا التراب عليه وسوىقبره قال صلى الله عليه وآله وسلم: إني لأعلم أنه سيبلى ويصل إليه البلاء، ولكنّ الله يحبّ عبداً إذا عمل عملاً أحكمه”3.

ومن اللافت هنا عدّة أمور:
1- أنّ العمل الذي حرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على إتقانه إنما كانت نتيجته تحت الأرض وليست ظاهرة للعيان، وذلك لأنّ الإتقان ليس أمراً تفعله ليراه الآخرون ويمتدحوك عليه، بل هو خصلةٌ وفضيلةٌ تتميّز بها ولا تشعر ببراءة ذمتك أمام الله دون إنجازها.

2- يعلّمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الإتقان يعني أن لا تنظر إلى مآل الفعل في المستقبل، فهو قال بصريح العبارة إنه يعلم جيداً أنّ مصير هذا التراب المتراكم سيؤول إلى البلاء، إلا أنّ إتقان العمل أمرٌ مطلوب بذاته، فلو نظر المرء إلى مستقبل الأشياء قبل فعلها وما ستؤول إليه لبقي الجميع جلساء منازلهم لا يقومون بأيّ عمل.

3- أنّ الله تعالى كما يحبّ العمل المتقن فإنه يحبّ العبد الذي يتقن عمله، لأنّ الإتقان بلا شكّ خلاصة الكثير من الخصال والمزايا التي يتميّز بها الإنسان، فالإنسان الفوضويّ أو غير المنظّم أو الذي لا يراعي حرمة الوقت وحريّات الآخرين ولا يتمتع باللياقة المطلوبة والبعد الإنساني لا يمكن أن ينجز عملاً متقناً ومحكماً.

وفي الختام لا بدّ من الإشارة إلى مسألة وهي أنّ إتقان العمل لا يعني عدم تطويره بشكلٍ دائم ومستمرّ فإنّ ما يعتبر أمراً متقناً هذا العام لا يعني أنه كذلك بعد هذا العام، بل يجب استقبال كافّة الملاحظات الواردة بشأنه ومحاولة تداركها فيما بعد حتى يبقىهذا العمل محافظاً على مستواه وإتقانه.

  • كتاب وتزودوا في شهر الله، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.

المصادر والمراجع

1- سورة النمل، الآية 88.
2- سورة النمل، الآية 88.
3- الأمالي، ص 468.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى