سلاطين الجور
بسم الله الرحمن الرحيم
عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: “فَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ عَادِلٌ هُدِيَ وَهَدَى فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً وَأَمَاتَ بِدْعَةً مَجْهُولَةً وَإِنَّ السُّنَنَ لَنَيِّرَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ وَإِنَّ الْبِدَعَ لَظَاهِرَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ،وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَضُلَّ بِهِ فَأَمَاتَ سُنَّةً مَأْخُوذَةً وَأَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَةً، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: “يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْإِمَامِ الْجَائِرِ وَلَيْسَ مَعَهُ نَصِيرٌ وَلَا عَاذِرٌ فَيُلْقَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا تَدُورُ الرَّحَى ثُمَّ يَرْتَبِطُ فِي قَعْرِهَا”.1
قسّم الإمام علي(عليه السلام) الأئمة الذين يراد بهم هنا السلاطين والحكّام إلى قسمين: الإمام العادل والإمام الجائر، وهذا التقسيم ورد في الكتاب العزيز وغير واحدٍ من الأخبار.
فعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: “لا يُصلح الناس إلا إمام عادل وإمام فاجر، إن الله عز وجل يقول: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَ﴾2 وقال: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾3“.4
صفات سلاطين الجور:
وهي كما بينها الإمام علي(عليه السلام):
أولاً: هو شر الناس عند الله تعالى.
ثانياً:ضالّ ومضلّ للأمة.
ثالثاً:يميت السنن الإلهية.
رابعاً:يحي البدع المتروكة.
خامساً:يلقى في جهنم يوم القيامة ويدور فيها كما تدور الرحى ثم يرتبط في قعرها.
وفي مقابل ذلك نقف أمام السلطان العادل الذي هو أفضل العباد عند الله تعالى لأنه هادٍ ويهدي إلى الحق، ويقيم السنن، ويميت البدع المجهولة.
نتائج أعمال سلاطين الجور:
إنّ أولى النتائج المترتبة على وجود سلاطين الجور ظلم العباد، وهلاك البلاد، وذلك من خلال استبدادهم، وخنقهم حرية الشعوب، وامتهان كرامتها، وابتزاز أموالها، وتسخيرها لمصالحهم الخاصة.
من أجل ذلك كان ظلم الحكام أسوأ أنواع الظلم وأشدّها نُكراً، وأبلغها ضرراً في كيان الأمة ومقدراتها.
عن الإمام الصادق(عليه السلام): “إن الله عز وجل أوحى إلى نبي من الأنبياء، في مملكة جبّار من الجبابرة: أن أئتِ هذا الجبار فقل له: إني لم أستعملك على سفك الدماء، واتخاذ الأموال، وإنّما استعملتك لتكفّ عني أصوات المظلومين، فإني لن أدع ظلامتهم وإن كانوا كفاراً”.5
وعلى هذا الأساس كانت الوظيفة الأساس لأنبياء الله تعالى رفع الظلم الذي يمارسه الطغاة والجبابرة والسلاطين الجائرين فها هو إبراهيم(عليه السلام) يمضي قدماً متحدياً النمرود الذي إدّعى الربوبية، ودعا الناس إلى عبادته دون الله تعالى، فتحدّاه إبراهيم(عليه السلام) وأثبت عجزه من أن يكون ربّاً، فكانت الكلمة الحق منه في وجه هذا السلطان الجائر أقوى سلاح في المواجهة وذلك عندما خاطبه مبينّاً عجزه أمام قدرة الله تعالى في مقابل قدرته التي دعته إلى ظلم الناس والاعتداء عليهم.
فقال له (عليه السلام):﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ فأجابه النمرود:﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾. فما كان من النمرود إلا أن أحضر سجينين أطلق سراح أحدهما وأمر بقتل الآخر، ليثبت قدرته على الإحياء، وهنا تحداه إبراهيم(عليه السلام) بأمرٍ آخر فقال:﴿فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ وكانت نتيجة هذا التحدّي:﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.6
والحال نفسه مع نبيّ الله موسى(عليه السلام) في دعوته فرعون إلى الحق والكفّ عن استضعاف الناس وتمزيق صفوفهم وذبح أبنائهم واستحياء نسائهم، وعدم الفساد في الأرض.
فكانت مواجهة الأنبياء(عليهم السلام) واحدة من أعظم أنواع جهادهم وتضحياتهم، فسفكت دمائهم، وأبيحت أرزاقهم، ولم يمنعهم ذلك من الاستمرار في قول الحق والدفاع عنه بكل الوسائل.
وعلى هذا النهج استمر أمير المؤمنين(عليه السلام) لإكمال مسيرة الأنبياء والرسل، فوقف في وجه الظالمين والمستبدين.
يقول(عليه السلام) مبنّياً عزمه على اقتلاع رمز الفساد والجور من الأرض معاوية بن أبي سفيان: “وسأجهد في أن أُطهّر الأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس حتى تخرج المدرة من بين حبّ الحصيد”.7
مسؤولياتنا أمام سلاطين الجور
ليس للإنسان أن يقف مكتوف اليدين والسكوت أمام ظلم السلاطين وجورهم، بل إنّ الواجب يفرض على الإنسان خصوصاً المؤمن أن يواجه كما واجه الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) وعدم الركون إلى الظالمين، ونصرة المظلومين.
يقول الإمام الصادق(عليه السلام): “لا يحضرنّ أحدكم رجلاً يضر به سلطان جائر ظلماً وعدواناً، ولا مقتولاً إذا لم ينصره، لأنّ نصرة المؤمن على المؤمن فريضة واجبة إذا هو حضره”.8
وعنه(عليه السلام): ” العامل بالظلم، والمعين له، والراضي به، شركاء ثلاثتهم”.9
لذلك كانت نُصرة المظلوم، وحمايته من عسف الجائرين،من أفضل الطاعات، وأعظم القربات إلى الله عزّ وجلّ، وكان لها وقعها الجميل، وآثارها الطيبة في حياة الإنسان المادية والروحية.
وقال(عليه السلام): “ما من مؤمن يعين مؤمناً مظلوماً إلاّ كان أفضل من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام، وما من مؤمن ينصر أخاه وهو يقدر على نصرته إلاّ نصره الله في الدنيا والآخرة، وما من مؤمن يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته إلاّ خذله الله في الدنيا والآخرة”.10
فكيف للإنسان ولعقله أن يسكت عن الجرائم التي يرتكبها السلاطين سواء ما ذكر منها في التاريخ، وما نشهده اليوم في هذا العالم حيث نرى بشاعة ظلمهم وعدوانهم وسفكهم لدماء الشعوب وإسكاتهم تحت عناوين متعدّدة.
وروي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): أنّ الله عزّ وجلّ يقول: “وعزّتي وجلالي لأنتقمنّ من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمنّ ممّن رأى مظلوماً فقدر أن ينصره فلم ينصره”.11
وأوصى الإمام علي (عليه السلام) ولديه الحسن والحسين(عليهما السلام) بقوله: “وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً”.12
عِبرة من سلاطين الجور
يدور محور الحديث في هذه العبرة عن العاقبة التي نزلت بواحدٍ من أولئك الجبابرة والسلاطين الذين ظلموا وأفسدوا في الأرض وهو الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي جرت معه الحادثة التالية والتي نذكرها باختصار.
يُحكى أن هند بنت أبيها كانت أحسن زمانها، فوصف للحجّاج حسنها،فأرسل إليها لخطبتها، وبذل لها مالاً كثيراً وتزوّج بها، وأمهرها مائتي ألف درهم، واختلفت معه بعد رؤيتها لكثرة ظلمه، ووقع خصام بينها وبينه، فطلقها الحجاج.
ثم بلغ الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان خبرها فطلب منها الزواج، فقالت له: والله لا أملّ العقد إلا بشرط، فإن قلت ما هو الشرط؟فقلت:أن يقود الحجّاج محملي إلى بلدك التي أنت فيها، ويكون ماشياً حافياً.بحليته التي كان فيها أولاً.
فلما قرأ عبد الملك ما كتبته إليه ضحك ضحكاً شديداً، ووافق على طلبها، وأمر الحجاج بامتثال ما طلبته ولم يخالف. فركبت عند محمل الزفاف، وركب حولها جواريها وخدمها، وأخذ الحجاج بزمام البعير يقوده ويسير به. ولما وصلت إلى بلد الخليفة رمت بدينار على الأرض ونادت: يا جمّال:إنّه قد سقط منّا درهم فارفعه لنا،فنظر الحجاج إلى الأرض فلم يجد درهماً، فقال:إنّما هو دينا، فقالت: بل هو درهم، فقال: بل دينار، فقالت: الحمد لله، سقط منّا درهم(إشارة إلى الحجاج) فعوّضنا الله عنه بدينار(إشارة إلى الخليفة الأموي). فخجل الحجاج وسكت.
فكان كما قالت له رغم جبروته وعظمة سلطانه يساوي درهماً في أخر أيامه.
فلينظر كل سلطان جبار جائر لطاغيةٍ مثل الحجاج كيف أذلّه الله على يدهِ امرأة ضعيفة لا تملك من أمرها شيئاً، بعد أن كان جبّاراً متجبراً ظالماً، لا تأخذه في سبيل شهواته وتزواته رأفةً بأحد من عباد الله.
وهذه هي حال كل ظالم في هذه الحياة الدنيا، وفي مقابل ذلك فإن الله يعطي المؤمن من عباده المظلومين في هذه العاجلة قبل الآجلة ما يعوّضه فيها عن بعض الظلم الذي وقع عليه صابراً محتسباً.
والحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المصادر والمراجع
1- نهج البلاغة، الخطبة:163.
2- سورة الأنبياء:شطر من الآية:73.
3- سورة القصص:شطر من الآية:41.
4- بحار الأنوار، العلامة المجلسي،ج24.
5- الوافي:3/162.
6- سورة البقرة:الآية:258.
7- نهج البلاغة، الكتاب:44.
8- قرب الإسناد، الحميري:55.
9- بحار الأنوار، المجلسي:16/209.
10- وسائل الشيعة،الحر العاملي:12/268.
11- كنز العمال، المتقي الهندي:3/505.
12- بحار الأنوار:42/245.