هل سَلِمَ القرآن من التحريف؟
إنّ طرح هذا السؤال يقع في السياق الطبيعي لمن ثبت عنده أنّ القرآن هو معجزة، وبالتالي هو كتاب الله وكلمته، وعليه فلا بدّ من التأكّد من صيانة القرآن من التحريف بسبب الأهميّة البالغة المترتّبة على اعتماد آياته.
معنى التحريف
للتحريف معنيان أساسيان:
1- التحريف المعنوي: أي أن يُفسَّر القرآن بغير المعاني المرادة، وبالتأكيد، فإنّ السؤال السابق لا يطال هذا النوع من التحريف الذي لا يضرُّ وقوعه في كون القرآن معجزة، كتفسير الآيات القرآنية التي تتحدّث عن يدَي الله، ووجهه، وعينه، والساق1، بما يؤدّي إلى تجسيم الله تعالى.
2- التحريف اللفظي: وله عدّة معانٍ، ما يهمُّنا منها في ما يتعلّق بالسؤال السابق معنيان:
الأول: التحريف بالزيادة, بمعنى أنّ بعض المصحف الذي بين أيدينا ليس من الكلام المنزل من الله تعالى.
الثاني: التحريف بالنقيصة, بمعنى أنّ المصحف الذي بين أيدينا لا يشتمل على جميع القرآن المنزل من الله تعالى.
فما الدليل على عدم تحريف القرآن بهذين المعنيين؟
الدليل على عدم تحريف القرآن بالزيادة
إنّ الدليل على عدم تحريف القرآن الكريم من ناحية الزيادة هو تواتر نقله من زمن رسول الله إلى عصرنا الحالي بما يولِّد القطع بعدم حصول زيادة.
ومعنى التواتر: “خبر جماعة كثيرين يستحيل عادةً تعمّدهم الكذب، وخطؤهم في فهم الحادثة، ويحصل بإخبارهم العلم”2.
وتواتر القرآن الكريم هو في درجة عالية بسبب اهتمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليه السلام والصحابة الكرام رضي الله عنه بالقرآن الكريم كتابةً، وحفظًا، وضبطًا، وما يؤكّد على هذا الأمر أنّه في معركة اليمامة في عهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قتل سبعون حافظًا للقرآن الكريم، وقيل أربعماية من حفّاظه.
إضافةً إلى التواتر، فإنّ الزيادة في القرآن إن كانت بسورة كاملة، فإنّ معناه إمكان بل وقوع الإتيان بسورة كسور القرآن الكريم، وإن كان بزيادة بعض الكلمات، أو المطالب في داخل السور، فإنّه يؤدّي إلى اضطراب السبك ونظام الكلام، وكلا الأمرين مخالف للإعجاز البلاغيّ في القرآن الكريم.
الدليل على عدم تحريف القرآن بالنقيصة
بعد أن أثبتنا عدم وجود زيادة في القرآن الكريم يمكن لنا أن نستدلّ بالآيات القرآنية نفسها على عدم وجود أيّ نقيصة فيه.
أدلّة القرآن على عدم الزيادة
1- قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾3.
إنّ هذه الآية تدلّ على تدخّل إلهيّ خاص لحفظ القرآن الكريم، كما حصل في تنزيله، وإنّ هذا الحفظ هو في الحاضر والمستقبل بقرينة ﴿حَافِظُونَ﴾ التي هي اسم فاعل يدلّ على زمن الحاضر والمستقبل.
وقد أكّد القرآن الكريم على حفظه من الله تعالى بمؤكِّدات لفظيّة، فاستخدم “إنّ” التي هي حرفُ تأكيد، كما أضاف إليها لام التأكيد قبل “حافظون”، وما ذلك إلا لمزيد العناية بتأكيد هذا الحفظ.
المراد من الذكر ولا يخفى أنّ المراد من كلمة ﴿الذِّكْرَ﴾ في هذه الآية هو القرآن الكريم, بقرينة ما سبق هذه الآية، وهو قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾4، فمن الواضح أنّ المراد من الذكر الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو القرآن الكريم.
ونحن نؤكّد على هذا المعنى، حتى لا يتوهّم البعض بأنّ المراد من الذكر هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه الذي أُطلق عليه في القرآن أنّه “ذكر” في قوله تعالى: ﴿قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ﴾5.
2- قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾6، فالآية تدلّ على نفي الباطل عن القرآن الكريم, باعتباره مسوَّر بحصنٍ آمنٍ، ولا شكّ أنّ التحريف هو من الباطل الذي حُصِّن منه القرآن.
أدلّة السُنّة النبويّة على حفظ القرآن
باعتبار ما ثبت من عدم وجود زيادة في القرآن الكريم، فإنّه يمكن أن نتمسّك بالآيات التي تعطي حجيّة واضحة ثابتة لكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾7، إضافة إلى ثبوت عصمته التي نتحدّث عنها لاحقًا.
وعليه يمكن الاستدلال على عدم وقوع التحريف في القرآن الكريم في النقيصة، فضلاً عن الزيادة بـ:
أ- الحديث المتواتر عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّي تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إنْ تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي”8.
فالأمر بالتمسّك بالكتاب، وكون من تمسّك به لا يضلّ أبدًا، يفيدان أنّه مصان من التحريف، فإنّ تأبيد نفي الضلالة في المستقبل كلّه لمن تمسّك بالكتاب يفيد بشكل واضح أنّه لن يحرّف في كلِّ الزمن الآتي.
ب- ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأكّده أئمة أهل البيت عليه السلام، بجعل القرآن الكريم الميزان والمعيار لمعرفة مدى صحّة الأحاديث، كما في الحديث النبويّ: “تكثر الأحاديث لكم بعدي، فإذا رُويَ لكم عني حديث، فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فاقبلوه واعلموا أنّه منّي، وما خالفه فردّوه”9.
فكيف يصحّ جعل القرآن ميزانًا لمعرفة الأحاديث الصادقة من الكاذبة في كلِّ الأزمان مع كونه قد حُرِّف؟!.
معنى حفظ القرآن من التحريف
بعد أن ثبت كون القرآن يمتاز عن بقيّة الكتب السماوية، كما غيرها، بوساطة التدخّل الإلهيّ لحفظه، يأتي السؤال حول معنى هذا الحفظ الإلهيّ:
فهل يعني بأنّ أحدًا لا يمكن له أن يطبع القرآن محرَّفًا, بمعنى أنّه إذا أراد أن يفعل ذلك فإنّ الله تعالى يتدخّل ويشلّ يده؟!
بالتأكيد ليس الأمر كذلك.
إنّ حفظ القرآن الإلهيّ لا يخرج عن المسار الاختياريّ الذي رسمه الله تعالى للإنسان.
إذًا، ما معنى حفظ الله تعالى للقرآن من التحريف؟
إنّ هذا الحفظ الإلهيّ تجلّى بصياغة القرآن صياغة إعجازيّة ينتفي الداعي معها للتحريف من قبل أيّ اتجاه، أو مذهب من المذاهب، والاتجاهات الإسلاميّة، ومع ضمان عدم تحريفه في المجتمع الإسلامي من
قِبَل المسلمين، ومعه ينتفي التحريف من غيرهم.
وتوضيح ذلك: إنّ المتعمّق في آيات القرآن الكريم التي يمكن أن تكون مسارًا للاختلاف السلبيّ، يُلاحظ أنّها لم تكتب بصور زجاجيّة, بمعنى أنّها إمّا أن يُفهم منها معنى محدّد، أو تكسر ولا تكون، بل كُتِبَ على أساسين:
الأول: إمكان توجيهها إلى أكثر من معنى بحسب الاتجاهات المتعدّدة، بغضّ النظر عن صحة التوجيه.
الثاني: إنّه مع إمكان ذلك التوجيه، إلاّ أنّ من أراد الحقّ فإنّ القرآن الكريم يوصله إليه.
مثال
ولتوضيح الفكرة، فلنتأمّل الآيات التي اختلف في كون مورد نزولها هو الإمام علي عليه السلام وسائر أهل البيت عليهم السلام، أو في دلالاتها على موقعهم الخاص عند الله تعالى، فإنّها لم يرد فيها الاسم بوضوح، فلم يقل الله تعالى: “إنّما وليّكم الله ورسوله وعليّ”، ولم يقل الله تعالى: “يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك في ولاية علي…”، ولم يقل عزّ وجل: “إنّما يريد الله ليذهب عن علي وفاطمة والحسن والحسين الرجس”.
ولو كان الله تعالى قد ذكر ذلك بالتفصيل لما كان مستغربًا أن يحرّف القرآن، وتحذف منه تلك الأسماء، إذ كيف يتحمّل من أمر بلعن الإمام علي عليه السلام على منابر المسلمين عشرات السنين أن يكون اسم علي عليه السلام في تلك الآيات.
من هنا كانت صيانة القرآن مختلفة، إذ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾10.
إنّ المتأمّل في هذه الآية يدرك أنّ المراد منه شخص محدّد، وليس الحديث عن قضيّة عامة, لأنّه لم تجر العادة أن يؤتي المسلم زكاته وهو راكع، وهذا ما يؤكّد أنّ نزول الآية كان بعد تصدُّق الإمام علي عليه السلام بخاتمه على الفقير.
ولكن مع ذلك، فإنّ البعض فسّر هذه الآية بأنّ المراد من الراكعين الخاشعون.
وهكذا فإنّ من يقرأ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾11، فإنّه يجد فيها تأكيدًا على مسألةٍ في غاية الأهميّة تتعلّق بأصل الرسالة، وأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لديه حذر من تبليغها لما قد تُحدث من تداعيات سلبيّة بعد التبليغ، وهذا الأمر ينسجم مع ما أكّد كون مورد نزولها هو إعلان ولاية الإمام علي عليه السلام في الغدير.
ولكن مع ذلك فإنّ البعض حملها على تبليغ ما تبقّى من آيات قرآنية.
وهكذا بالنسبة لآية التطهير التي يُلاحظ المتتبّع لها، وللآيات السابقة عليها، كيف أنّ الله تعالى غيّر ضمير المؤنّث بضمير المذكّر.
قال تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾12.
وهذا له دلالة على أنّ المراد في آية التطهير ليس نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل آخرون فيهم ذكور على الحدّ الأقلّ، ولكن مع ذلك فإنّ البعض استفاد من وجود آية التطهير ضمن آيات نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليتحدّث عن مورد نزول آخر.
إنّ هذه أمثلة عمليّة على صيانة القرآن الكريم بحيث يظهر الحقّ فيه، ويتحمّله الآخرون.
- كتاب يسألونك عن الأنبياء، سماحة الشيخ أكرم بركات.
المصادر والمراجع
1- أنظر بركات، أكرم، يسألونك عن الله، ط1، بيروت، بيت السراج، 1433 هـ، ص 12-18.
2- بركات، أكرم، دروس في علم الدراية، ط2، بيروت، دار الصفوة، 2009، ص34.
3- سورة الحجر، الآية 9.
4- سورة الحجر، الآية 6.
5- سورة الطلاق، الآيتان 10-11.
6- سورة فصلت، الآيتان 41-42.
7- سورة الحشر، الآية 7.
8- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج1، ص2
9- السرخسيّ، أصول السرخسيّ، ج1، ص365.
10- سورة المائدة، الآية 55.
11- سورة المائدة، الآية 67.
12- سورة الأحزاب، الآية 33.