الإمام الخميني القائد الفقيه
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على محمد وآل محمد.
ربما ينصرف إلى أذهان الكثير من الناس الجانبُ الثوري والجهادي والشجاعة عند سماع اسم الإمام الخميني (قدِّس سرُّه)، وهذا أمر طبيعي؛ حيث إنّ الناس تلتفت أكثر إلى الجوانب الأكثر ظهوراً في الشخصيات، والسيد الإمام تميّز في هذا العصر بهذه الثورة التي لم يكن لها مثيل في تاريخ العلماء، وحتى الأعداء عندما يسمعون اسم الإمام فإنه ينصرف إلى أذهانهم ثورته المباركة، فالثورة الإسلامية مرتبطة -إلى الأبد- باسمه المبارك.
وهناك مميزات أخرى جمعها الإمام الراحل كالعرفان والزهد والعبادة وقيام الليل، وهي أيضاً مما تأتي في الأذهان عند سماع اسمه المبارك.
ولكنّ هناك جانباً آخر لا يقل أهمية -إن لم نقل أنّه الأساس في شخصية الإمام- عن الجوانب الأخرى ربما أُغفل ولم يركّز عليه بالقدر الكافي، ألا وهو الجانب العلمي والحوزوي في شخصيته المقدسة.
ونستطيع أن نقول بأنّ انتصار الثورة الإسلامية على يد السيد الإمام، واستمرارها، وتحقيق أهدافها، لم يكن ليتحقق أصلاً، -أو لا أقل لم يتحقق بالصورة المطلوبة الكاملة- لولا كونه (رضوان الله عليه) عالماً فقيهاً متبحراً في علوم أهل البيت (عليهم السلام).
والهدف من هذه المقالة المختصرة تسليط الضوء على ارتباط الجانب العلمي والفقهي بالجانب القيادي في شخصية الإمام (رحمه الله).
محورية العالِم في الروايات الشريفة
عند الرجوع إلى النصوص الشريفة نرى التركيز الكبير على مسألة العلم والعلماء، وأنها تعطيهم منصباً عظيماً جداً هو استمرار لمنصب الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، فإليك بعض هذه النصوص:
1- عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إنّ العلماء ورثة الأنبياء، وذلك أنّ الأنبياء لم يورِّثوا درهماً ولا ديناراً، وإنّما ورّثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ شيئاً منها فقد أخذ حظاً وافراً؛ فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه، فإنّ فينا أهل البيت في كلّ خَلَف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين»(1).
2- عن ابن نباتة قال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «تعلّموا العلم فإنّ تعلّمه حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وهو أنيس في الوحشة، وصاحب في الوحدة، وسلاح على الأعداء، وزين الأخلاء، يرفع الله به أقواماً يجعلهم في الخير أئمة يقتدى بهم»(2).
3- وعن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «لا خير في العيش إلا لرجلين: عالم مطاع، أو مستمع واع»، وعنه (صلَّى الله عليه وآله) في لفظ آخر: «لا خير في العيش إلا لمستمع واع أو عالم ناطق»(3).
4- وعن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «العالم بين الجهّال كالحي بين الأموات، وإنّ طالب العلم ليستغفر له كلُّ شيء حتى حيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، فاطلبوا العلم فإنّه السبب بينكم وبين الله (عزَّ وجلَّ)، وإنّ طلب العلم فريضةٌ على كلِّ مسلم»(4).
5- وعن أمير المؤمنين صلوات الله عليه أنّه قال: «أيّها الناس لا خير في دين لا تفقّه فيه، ولا خير في دنيا لا تدبّر فيها، ولا خير في نسك لا ورع فيه»(5).
6- وفي تحف العقول: عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه -في خطبة له عن العلم- قال: «واعلموا أنّ صحبة العالم واتباعه دينٌ يدان الله به، وطاعتُه مكسبة للحسنات ممحاة للسيئات، وذخيرة للمؤمنين، ورفعة في حياتهم، وجميل الأحدوثة عنهم بعد موتهم»(6).
فلنتأمل في هذه النصوص وغيرها، وما فيها من بيان لمقام العالم، والمنزلة التي أعطيت له، والمسؤولية التي ألقيت على عاتقه وهي مسؤولية الأنبياء (عليهم السلام)، فالروايات اعتبرت العالم، (وارث الأنبياء)، وبعلمه يجعله الله تعالى (إماماً يقتدى به في الخير)، وأنّ العالم (كالحي بين الأموات)، وأن اتباعه وصحبته (دين يدان الله به).
الإمام الراحل (قدِّس سرُّه) وطلب العلم
وما كان إمامُ الأمّة ليغفل عن هذا الشرف العظيم، والمقام الكبير، الذي لا يمكنه أن يؤدي دور الأنبياء إلا من خلاله، ألا وهو طلب العلم، والتفقّه في دين الله تعالى، ولذلك بدأ السيدُ الإمام حياته العلميّة منذ صغره، ولم يرضَ بالدرجة الدنيا من العلم التي يحصل عليها غالبية طلابِ الحوزة بل نال درجة الاجتهاد وهو في سنِّ الشباب، ووصل إلى مقام المرجعية الكبرى، وإن تأّخر في طرح مرجعيته للنّاس كعادة كثير من الفقهاء لدعم المرجعيات السابقة عليها.
الاشتغال بالعلم على طول المسيرة
يتصوّر كثيرٌ من الناس أنّ الفقيه والمرجع يدرس فترة من الزمن وإذا ما وصل إلى درجة الاجتهاد تخلّى عن طلب العلم والمطالعة ولم يحتج إليها، كما هو الحال بالنسبة إلى الطبيب والمهندس وغيرهما من أصحاب العلوم، ولكن هذا التصوّر خاطئ جداً، فإذا كان الطبيب مثلاً حتى يحافظ على مهنته يحتاج إلى الممارسة الطبيّة فإنّ الفقيه حتى يحافظ على فقاهته واجتهاده يحتاج إلى ممارسة الاستنباط، وهذا لا يكون إلا بالاستمرار في الدرس والتدريس والمطالعة أو الكتابة وما شابه ذلك من الاشتغال بالعلم.
والعلماء يقضون كلَّ عمرهم في ذلك من دون مبالغة، وأهل الخبرة أدرى بذلك الأمر، وعندما نأتي إلى السيد الإمام (قدِّس سرُّه) نرى حياته لا تخلو من ذلك وفي أحلك الظروف التي مرَّ بها الإمام ولك ثلاثة شواهد سريعة:
1- الشيخ المقدسي يقول: “كان الإمام يقضي أيام فصول الصيف في مدينة محلات، وينهمك في جميع أوقاته بالبحث والمطالعة والتحقيق والتأليف، وقليلاً ما كان يوافق على استقبال أحد، وقد عرفنا بعد الثورة أنَّه كان منشغلا في تلك الأيام بالدراسة والتحقيق لكتاب وسيلة النجاة للمرحوم السيد أبو الحسن الإصفهاني، دون أن يخبر أحداً إلى ذلك الزمان بذلك، وبأنّه يكتب حاشية على هذا الكتاب”(7).
2- يُنقل عن الشيخ المنتظري قوله: “في خضم تصاعد أوار الجهاد ونشاطات النهضة، وعندما كان الأهالي يأتون إلى الإمام في منـزله في قم لزيارته ومراجعته بشأن النشاطات الجهادية، في أحد تلك الأيام زرته لأمر ما فوجدته مشغولاً بكتابة الدروس التي كان يلقيها فقلت: هل أنتم تنشغلون يا سيدي بكتابة الدروس في خضم هذه الأوضاع؟ فأجابني: لا ينبغي السماح للنشاطات الجهادية أن تضرّ بعملنا الأصلي -نحن طلبة العلم- وهو الدرس والبحث والنشاط العلمي”(8).
3- نُقل عن السيد أحمد ابن الإمام في حادثة استشهاد السيد مصطفى الخميني (رحمه الله) أنّ الإمام قال: “لقد وهبنا الله نعمة وقد استرجعها الآن”، ويقول السيد أحمد: كان الإمام في تلك الأيام منشغلاً بمطالعة أحد الكتب التدريسية، فقلت في نفسي: إن هذه المصيبة التي نزلت بنا اليوم ستذهل الإمام عن المطالعة؛ إذ إنّه فقد مثل هذا الابن العزيز، ولن يتمكن من المطالعة، لكنّي رأيته وقد وضع ذلك الكتاب أمامه! فقلت لعلّه يتشاغل به دون أن يقرأ منه شيئاً، لكنني بعد أن دقّقت في الأمر ولاحظت محل العلامة الموضوعة في داخل الكتاب وجدت أنّه قد قرأ في ذلك اليوم ثلاثمائة صفحة من هذا الكتاب”(9).
وقد جمع السيّد الإمام بين علوم كثيرة وكان متفوّقاً فيها، فبالإضافة إلى الفقه والأصول كان (قدِّس سرُّه) مجتهداً في الفلسفة وفي العرفان النظري فضلاً عن العرفان العملي الذي تميّزت به شخصيته المباركة، وقد ألّف في ذلك مجموعة من الكتب وأكثرها كتبها في سنّ الشباب، فألّف في الفلسفة والعرفان والأخلاق، وفي الفقه والأصول بالإضافة إلى ما قُرِّر له من دروس.
تقوية الحوزة العلمية
ومن المعروف عن السيد الإمام اهتمامه الشديد بتقوية الحوزة العلمية في قم المقدسة بعد رحيل مؤسسها الشيخ الحائري، فعمل جاداً على حثّ السيد البروجردي على المجيء إلى حوزة قم لكونه من أكبر العلماء في زمانه ليوحّد الحوزة ويقويها، ومن ناحية عملية حضر السيد الإمام دروس السيد البروجردي رغم كون الإمام مجتهداً كبيراً في وقته، وكان الهدف من ذلك تقوية مرجعية السيد البروجردي، وعندما تحقق هذا الهدف ترك حضور دروسه.
وكان (قدِّس سرُّه) يعتقد أنّ الحوزة العلمية هي أساس الإسلام في عصرنا فبدونها يضيع الإسلام وينمحي، وأنّ العلماء يقومون بدور الأنبياء (عليهم السلام) كما تقدم في الروايات الشريفة، يقول (قدِّس سرُّه) في هذا الشأن: “لا يوجد شك أنَّ الحوزات العلمية والعلماء الملتزمين كانوا على طول التاريخ الإسلامي الشيعي أهمّ قاعدة قوية للإسلام في الوقوف أمام الهجمات والانحرافات، وبذل علماء الإسلام جهدهم طوال حياتهم للترويج لمسائل الحلال والحرام الإلهية دون أيّ تدخل أو تصرف. ولولا الفقهاء الأعزاء لما كنّا ندري ما هي العلوم التي كانت تقدّم اليوم لعامة النّاس تحت عنوان علوم القرآن والإسلام وأهل البيت (عليهم السلام)”(10).
ويشير بذلك إلى استقلال الحوزة العلمية الشيعية عن السلطات والأنظمة ما ضمن طهارة هذه الحوزات ونظافة منهجها وعطائها، رغم تعرض العلماء والفقهاء طول التاريخ إلى المضايقات والتهديدات، بل والتشريد والسجن والقتل، وهناك علماء وفقهاء كثر نالوا مقام الشهادة في سبيل الحفاظ على خطّ الحوزة العلمية.
وحتى بعد انتصار الثورة الإسلامية المباركة على يده (رضوان الله عليه) أصرّ على أن تبقى الحوزة المباركة على استقلالها، مما يدلّ على بعد نظره (قدِّس سرُّه) بشأن الحوزة العلمية وأهمية استقلالها.
وينقل آية الله كاشاني قولاً للإمام يدلّ على تأكيده على محورية العلماء فيقول: “قال الإمام في إحدى لقاءاتنا معه: اعلموا أنّ شعبنا من أفضل الشعوب، علينا إصلاح أنفسنا فإن لم نصلحها ننتهي، وسيأتي من هو أفضل منا. الحالة العلمائية لن تزول وإذا زالت فإنّ كلّ من عداهم زائل”.
إخلاصه واتباعه لغيره من المراجع قبل مرجعيته
ومما يرتبط بنظرة الإمام (قدِّس سرُّه) تجاه الحوزة هو تواضعه للفقهاء والمراجع وتعظيمهم، سواء المتقدمين عليه في السن أم المناظرين له، فقد عرف عنه مثلاً منعه البات والتام عدم السماح لأحد بذكر أحد من الفقهاء بسوء حتى لو كان يختلف معه في بعض الأمور ووجهات النظر، ونقل عنه أنه سمع مرة أن أحدهم اغتاب أحد المراجع فمرض بسبب ذلك ثلاثة أيام.
وله مواقف عديدة يركّز فيها على أهمية أن يكون للحوزة قائد يرجع إليه، فكان يُرجِع الناس إلى السيد البروجردي حتى لو كان يخالفه في الرأي، وذلك حفاظاً على المرجعية وقوتّها.
ومما يرتبط بهذه المسألة قوله مخاطباً السيد الحكيم: “أنا أحد أتباعك ومن المطيعين لأوامركم، مرنا نطيعك، أصدر أوامرك ونحن ننفذها، فكيف تتصورون أنْ ليس ثمة من يطيعك في حين أنني أنا أحد مطيعيك”.
وفي مورد آخر عندما أراد الرئيس العراقي آنذاك عبد السلام عارف زيارة النجف واللقاء بالمراجع دون دعوة السيد الحكيم بهدف إضعافه، وقدّمت دعوة للسيد الإمام عبر أحد الوسطاء فردّ عليهم الإمام وقال ضمن كلامه: “إنّ السيد الحكيم هو رئيس الحوزة العلمية في النجف، وأنا هنا طالب حوزوي لا أكثر، فالقرار بشأن مثل هذه الأمور هو من شأن السيد الحكيم”(11). هذا والسيد الإمام في وقته كان من الطبقة الأولى من مراجع التقليد.
أسس قيام الجمهورية الإسلامية
كان مشروع السيد الإمام (قدِّس سرُّه) هو نفسه مشروع الأنبياء، وهو إقامة حكم الله في الأرض، وقد بذل كلَّ ما في وسعه من أجل تحقيق هذا الهدف المقدّس، وقد ذكر الشيخ الجوادي الآملي أنّ رسالة النبي (صلَّى الله عليه وآله) لها ثلاثة واجبات، مستنداً فيها إلى آيات القرآن الكريم، وهي تلاوة الوحي الإلهي، وتزكية القلوب، وتعليم الناس الكتاب والحكمة، وعندما تحْدثُ هذه الوظائف الثلاثة في فعلها، يحدث تغيّر اجتماعي، وفي غير هذه الحالة فلا… فالتحولات الاجتماعية مرهونة بتحقق هذه الأركان الثلاثة(12).
وهذا يعني أنّ القائد قبل القيام بالثورة الاصطلاحية يجب أن يهيئ الناس لذلك الأمر؛ وفي الحقيقة إنّ تأسيس الحكومة الإسلامية مجرّد وسيلة وطريق لحفظ الهدف الإلهي، لا أنّها غاية تقف عندها الأهداف المقدسة.
وكانت أوّل خطوة للسيد الإمام للقيام بذلك -كما تقدم- هو انخراطه في الحوزة العلمية المباركة منذ صغر سنه، ولبيان ارتباط هذا المشروع الإلهي العظيم بالعلم والفقاهة، لا بدّ من التعرّض إلى أسس هذا المشروع بشكل إجمالي:
الأساس الأول: إسلامية المشروع
والمقصود بذلك أنَّ إقامة العدل والقسط وحكم الله في الأرض لا بدّ من أن يرتكز على الدين وأحكام الإسلام، وإلا لو كان المرتكز غير ذلك فإنّه لن يكون مشروعاً إسلامياً كما هو واضح.
الأساس الثاني: وجود قيادة مدركة لتفاصيل هذا المشروع، وعارفة لإمكان تحقيقه من عدمه، ومؤمنة بأهمية تحقيقه على أرض الواقع، وتمتلك الحكمة الكبيرة في كيفية تطبيقه.
الأساس الثالث: وجود قاعدة جماهيرة مؤمنة بهذا المشروع الإلهي، ومستعدة لبذل دمائها من أجل تحقيقه.
الأساس الرابع: دعوة القيادة للقاعدة الجماهيرية للمساندة في تطبيق هذا المشروع عبر بيان الخطوات العملية اللازمة والمحققة لأهدافه الإلهية.
بعد ذكر هذه الأسس نقول:
لا يمكن تحقيق هذا المشروع الإلهي إلا من خلال توفّر هذه الأسس المذكورة، والأساس الأول والثاني يقتضي معرفة تامّة بالأحكام الفقهية الناشئة عن اجتهاد، ولا يقتصر في هذه المعرفة على جانب معين من أبواب الفقه، بل من اللازم معرفة مجمل الأبواب الفقهية، لأنَّ أيَّ باب يحتمل أنَّ له دخالة في تحقيق أهداف المشروع لا بدَّ من معرفته.
وقد يتصور البعض بأنَّ الاجتهاد في باب الولاية والقضاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلاً كافٍ في تحقيق ذلك الهدف الكبير، ولكنه تصورٌ خاطئ؛ لأنّنا نتكلم -حسب الفرض- عن مشروع الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، وهو المشروع الذي يراد منه تحقيق الهدف الذي من أجله خُلق الإنسان، وهو العبادة وتوحيد الله تعالى، وبالتالي لا بدّ من أنْ تكون كلُّ جوانب المشروع واضحةً لدى من يريد تطبيقه.
ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ المقام يحتاج إلى التعمق في الجانب العقائدي والأخلاقي، ولكن كلامنا فعلاً يرتبط بالجانب الفقهي.
فنعود ونقول بأنّه يحتاج المنفذ لهذا المشروع أموراً عديدة لتحقيق غرضه أهمها:
أولاً: الاجتهاد في كلّ باب له مدخلية في تحقيق هذا المشروع.
ثانياً: معرفة الهدف الكبير للمشروع بدقة، ومعرفة الأولويات وتشخيصها تشخيصاً دقيقاً.
ثالثاً: معرفة ما يمكن أن يتنازل عنه شرعاً عند تزاحم الأولويات مما لا يمكن أن يتنازل عنه.
رابعاً: معرفة الحلول الناجعة والمقبولة شرعاً عند مواجهة التحديات التي لا بدّ منها.
وبناء على ما تقدم يمكن الاستدلال على ضرورة أن يكون ذلك القائد فقيهاً مجتهداً.
السيد الإمام ومشروعه الإلهي
وكان السيد الإمام (قدِّس سرُّه) يدرك جيداً الأسس المتقدمة، ويدرك ضرورة وجود هذه الشروط التي من أهمّها الاجتهاد والفقاهة، وعليه يمكن القول بأنَّ سعيه (قدِّس سرُّه) لطلب العلم والوصول إلى درجة الاجتهاد كان لأداء التكليف الإلهي الذي ينتظره، ولتطبيق هذا المشروع العظيم.
ومما يدلُّ على ذلك، إصرار الإمام على أن يكون شكل النظام إسلامياً بحتاً، (الجمهورية الإسلامية) من دون إضافات، وقد نظّر (قدِّس سرُّه) لهذا المشروع عندما كان في النجف الأشرف، وألقى دروساً وطبعت في كتاب تحت عنوان (الحكومة الإسلامية).
وكان من أهمّ أسس النظام الإسلامي في الجمهورية الإسلامية هو ولاية الفقيه، فالفقيه هو الحاكم الفعلي والشرعي للبلاد، وكلّ شيء من دون إذنه وإمضائه لا قيمة له شرعاً، وهذا الأساس دليل على أنّ المشروع الإلهي لا يتحقق بالشكل المطلوب إلا من خلال العالم الفقيه.
حكومة غير الفقيه
ولو كانت الدولة الإسلامية معتمدة على غير الفقيه، بمعنى أنَّ كلمة الفصل عند الاختلاف، وعند رسم السياسة العامة للدولة عند غير الفقيه، لَترتّب على ذلك محذورات كثيرة منها:
المحذور الأول: لا يؤمن من الوقوع في المحذور الشرعي؛ حيث يفترض أنّ الشخص غير مجتهد، ونعني بغير المجتهد عدم وجود علم لهذا الشخص برأي الشارع المقدس، فقوله وفعله غير حجة شرعية.
المحذور الثاني: عدم ثقة النّاس بقوله ما دام غير حجّة شرعية مما يهدّد الاستقرار، ويلزم منه الفوضى؛ لأننا نتكلّم عن حكومة إسلامية يفترض فيها أنَّ القاعدة الجماهيرية فيها مؤمنة بالشرع فقط، ولا تؤمن بما يخالف الشرع.
وأمّا رأي الفقيه وتشخيصه وإن كان يحتمل الخطأ أيضاً، إلا أنَّ قوله حجة شرعية، وهو أقرب إلى الواقع، والناس المتديّنة بطبيعتها تنقاد لقول الفقيه، لكونه ممضى شرعاً، فلا يلزم محذور الفوضى، ولذلك نرى في جميع الحكومات الأرضية، لا تستقر أبداً، وأمّا الحكومة الإلهية فإنها وإن كانت تواجه بعض المشاكل ولكن أغلبها من الخارج، أو بتحريض منه. والبحث طويل في هذه النقطة وليس هنا مجال التعرض له.
ونستطيع أن ندعي بأنّ أقدر الناس على جمع الناس وحفظ المجتمع من الفوضى هو الحاكم الفقيه إذا توفرت فيه بقية الشروط من الحكمة والشجاعة وغيرها، وفي الجمهوريّة الإسلامية خير شاهد على ذلك.
المحذور الثالث: بما أنّ فعل غير الفقيه أبعد عن الشرع من فعل الفقيه، وهذا يعني كثرة وقوعه في الخطأ، وبالتالي يحسب ما يصدر منه على الإسلام حيث الكلام عن الحكومة الإسلامية، مما يؤدي إلى تشويه سمعة الإسلام ونسبة ما ليس منه إليه، وهذا ما نجده في زماننا ممن يلصقون أنفسهم بالإسلام ويدعون أنّهم يريدون تطبيق الحكومة الإسلامية، مما أدّى إلى تشويه الإسلام عند كثير من الشعوب غير المسلمة، بل حتى عند المسلمين أنفسهم، ونحن نرى كثيراً من الشباب المسلم يقف ضدَّ الإسلاميين، وسرت مواقفُهم من حرب على الإسلاميين إلى حرب على الإسلام، لأنّهم ربطوا بين ما يصدر من أولئك المدعين للإسلام وبين الإسلام نفسه، وقد أشار السيد الإمام (قدِّس سرُّه) إلى هذا الأمر في بعض كلماته.
وهذا الأمر ربما حصل أيضاً في الدولة الصفوية التي حكمت باسم التشيع وشوّهت التشيع الحقيقي؛ لأنّ الحاكم لم يكن فقيهاً عالماً، نعم حاول بعض الفقهاء كالمحقق الكركي تصحيح بعض الانحرافات، إلا أنَّ النظرة السلبية التي كانت حول الدولة الصفوية سرت إلى التشيع، ولا زال كثيرٌ من الناس بقصد وبدون قصد، يحاولون ربط أيّ حكومة إسلامية تحكم باسم التشيّع بالحكومة الصفوية، حتى لو كان منهجها يختلف تماماً عن دولة الصفويين، مع العلم بأنّ أغلب الفقهاء لم يتعاونوا ولم يعترفوا بالدولة الصفوية، ومن دخل في سلك الدولة كان يريد من ذلك تخفيف السلبيات التي كانت تحصل فيها، ومحاولة تقويمها.
ومن غير الإنصاف ما نجده من البعض الذين يشبِّهون ثورة السيد الإمام ودولته المظفرة بالدولة الصفوية، ويتغافلون متعمدين عن أنّ الإمام الراحل (قدِّس سرُّه) إنّما ثار على حاكم شيعي وهو الشاه المقبور، وكان يعتبر وجود الشاه ونظامه تهديداً حقيقياً للإسلام.
ولو كان يصحّ أن ننسب جميع أتباع المذهب الإمامي للدولة الصفوية بسبب حكمها باسم التشيع، فيلزم منه صحّة نسبة أتباع المذهب السني إلى الدول التي حكمت باسم التسنن، كالدولة الأموية والدولة العباسية والدولة العثمانية، وهو خلاف الإنصاف.
إشكالات وردود:
قد تطرح عدّة إشكالات على ما تقدم نذكر بعضها:
الإشكال الأول: إنّ أغلب الأنبياء (عليهم السلام) لم يؤسسوا في زمانهم حكومات إسلامية، ألا يدلّ ذلك على أنّ إقامة الحكومة الإسلامية الذي هو مشروع السيد الإمام (قدِّس سرُّه) لم يكن -على الأقل- ضرورياً؟
الجواب: إن تأسيس حكومة يحكمها النبي أو الوصي ليست غاية تقف عندها الغايات، وإنما هي وسيلة لإقامة حكم الله في الأرض وتوحيده، وما دام إقامة حكم الله في الأرض هدفاً رئيساً للمشروع الإلهي، فحيث لا يمكن لغير المعصوم والفقيه تحقيق ذلك الهدف، فلا بدّ من أن يكون المعصوم أو الفقيه هو الحاكم، وهذا يعني ضرورة وجود مثل هذه الحكومات التي يحكمها النبي أو الوصي أو الفقيه.
وأما عدم تحقق هذا الأمر على يد أغلب الأنبياء (عليهم السلام) فإنّه لا يدلّ على عدم ضرورته وأهميته، وإنما الشروط لم تتوفر لهم، ومن أهمّها أنّ أغلب الناس في زمانهم ليسوا مؤمنين بالله تعالى. ولا شك في أنّ من أقسام التوحيد هو التوحيد في الحاكمية، فالحكم لله، وهو وحده سبحانه يختار من يصلح لهذا المنصب الخطير.
وعدم تحقق الحكومة الإلهية لا يعني توقف مشروع الأنبياء (عليهم السلام)، لأنّه -كما قلنا- مجرّد وسيلة، فإذا عدمت هذه الوسيلة يبقى التكليف باستخدام الوسائل المتاحة، ولهذا نقل عن السيد الإمام (رضوان الله تعالى عليه) أنّه كان يقول بأنه إنما يقوم بالتكليف، سواء حصل انتصار مادي وأقيمت الدولة الإسلامية أم لا، وهذا هو الحال عند غيره من الفقهاء، فإنهم مستمرون في تحقيق المشروع الإلهي بكل الوسائل المتاحة والمشروعة.
وما نراه من ويلات على الإسلام إنّما هو بسبب إبعاد الأئمة (عليهم السلام) عن هذا المنصب، وبعدهم الفقهاء العدول.
الإشكال الثاني: إذا كان المشروع الإلهي لا يتحقق إلا بقيادة الفقيه، فيلزم منه توقف هذا المشروع في البلدان التي لا يوجد فيها فقيه، وهو خلاف المسؤولية الملقاة على عاتق المؤمنين؟
الجواب: باختصار نقول، بأنّ الضرورة تقدر بقدرها، ونعني بذلك: أنّ القيادة الكبرى هي للأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، فمع وجودهم لا يكون وزن لقول غيرهم، ومع عدم وجودهم يتنزل إلى الفقهاء، والفقهاء يأخذون القرارات على ضوء ما وصلهم من المعصومين (عليهم السلام)، ولا يجوز لهم التصدي لأي أمر إلا إذا كان مأذوناً فيه شرعاً، وهذا هو مورد الخلاف في سعة ولاية الفقيه بين الفقهاء.
فلو فرض عدم وجود الفقيه، فيتنزل الأمرُ إلى بقية المؤمنين، لكن على ضوء ما وصلهم من الفقهاء، ولا يجوز لهم التعدي عن ذلك، ولكن في الواقع الفقهاء موجودون في كلّ زمان، فلو فُقِد الفقيه في بلدٍ فهذا لا يعني استقلال غير الفقيه بالتصرف، بل يجب عليه الرجوع إلى الفقيه الموجود في بلد آخر في تحديد تكليفه الشرعي.
الإشكال الثالث: بما أنَّنا فعلاً نتكلّم عن مشروع فيه جانب سياسي واجتماعي فيما يتعلق ويرتبط بأمر الحكومة ومواجهة مشاكلها التي لا تنتهي، فحينئذٍ نقول الأقدر على إدارة ذلك هو من يمتلك الخبرة والحنكة السياسية كما هو واضح، وأما الفقيه فإنه خبير في المسائل الفقيهة النظريّة البحتة، ولا قدرة له على إدارة دولة.
وهذا الإشكال من الإشكالات المتكررة، وتصدر من الكثير بقصد سيء، يهدف إلى فصل الدين عن السياسة، وإلى عدم الالتزام بالأحكام الشرعية، ولكن نقول في الجواب باختصار:
إنّ اشتراط الفقاهة في القيادة اتضح أهميتُه ممَّا تقدم؛ وأنّ تطبيق المشروع الإلهي الذي هو محلُّ الكلام لا يمكن إلا من خلال من يعرف تفاصيل ذلك المشروع وليس هو إلا الفقيه.
فنقول هنا: شرط الفقاهة ليس هو الشرط الوحيد في القيادة، بل هو أحد أهمِّ الشروط، فيشترط فيه الحكمة والخبرة والشجاعة والعدالة وغيرها، وحينئذٍ يكون الفقيه لديه ما لدى غيره -على فرض كون الغير حكيماً وخبيراً ومحنكاً- وزيادة، بل حتى الصفات المشتركة بين الفقيه وغيرها يكون فيها الفقيه متفوقاً، فإنّ الحكمة مثلا مع الفقاهة والعلم بأهداف المشروع بلا شك أشدُّ من الحكمة الخالية عن الفقاهة والعلم، وكذلك الخبرة والشجاعة والعدالة.
ودعوى أنَّ الفقيه لا قدرة له على إدارة دولة فيرده:
أولاً: هل يشترط أن يكون من يدير دولة خالياً من العلم، بحيث يكون العلم والفقاهة مانعاً من ذلك!! أليس من الجهل أن نعتقد بأنَّ الخبير السياسي وصاحب الحكمة والخبرة قادرٌ على إدارة الدولة فإذا ما صار فقيهاً منعه ذلك من إدارتها!! إنه استخفاف بالعقول.
ثانياً: نكرّر ونقول بأنّنا نتكلم عن مشروع إسلامي، وليس عن مجرد قيام دولة بأيّ شكل كانت، فكيف يصحّ القول بأنّ غير الفقيه قادر على إدارة مشروع إسلامي بينما الفقيه عاجز عن ذلك.
ثالثاً: أثبتت التجارب عبر التاريخ أنّ غير الفقيه عاجز عن إدارة الدولة، بمعنى أنّ الأهداف الإسلامية المرجوّة من قيام الدولة لا تتحقق، ودائماً تنحرف، هذا إذا افترضنا أنّها قامت من الأول على أسس صحيحة.
بينما لدينا في التاريخ -وهذا ما يتجاهله الكثير عمداً أو غفلة- تجارب الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، فلدينا حكومة النبي سليمان (عليه السلام)، وحكومة نبينا محمد (صلَّى الله عليه وآله) حيث أوجد تغييراً في كلّ المقاييس وحوّل حياة الناس من جحيم إلى جنّة لو حافظوا على ما أسسه (صلَّى الله عليه وآله).
ولدينا حكومة الأمير (عليه السلام) حيث لا يستطيع منصف إلا أن يُكْبِرها ويعظّمها، حيث تحققت العدالة الكاملة.
ومن تجارب الفقهاء في عصرنا الحاضر التجربة الفريدة والنادرة لحكومة الولي الفقيه التي أسّسها إمامنا الراحل(رضوان الله عليه)، ولا زالت مستمرة تحت قيادة آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي (حفظه الله)، والتي أثبتت طوال هذه المدة أنّ الفقيه أقدر من غيره على الحفاظ على مبادئ الدين والإسلام رغم التحدّيات الكبيرة التي نشهدها جميعاً، بحيث لو كان الأمر بيد غير الفقيه لضاعت الجهود والدماء، وضاعت أهداف الإسلام الكبرى.
النتيجة والخلاصة
أنّ السيد الإمام (قدِّس سرُّه) بدأ حياته العلمية الحوزوية ليحقّق من خلاله المشروع الإلهي الكبير، وكان يدرك أنّه بغير طريق العلم والفقاهة لا يمكن تحقيق ذلك بالصورة المطلوبة، وقد وصل (قدِّس سرُّه) لأعلى المراتب الحوزوية العلمية في سنِّ مبكرة من عمره الشريف.
ثمّ سعى (قدِّس سرُّه) ووظّف كلّ ما أعطاه الله تعالى من مميزات ومواهب لتحقيق ذلك المشروع ووُفِّق لذلك أيّما توفيق، وأثبت للعالم أجمع بأنَّ الفقيه العالم ليس فقط قادراً على تحقيق المعجزات بل هو أقدر على ذلك من أيِّ شخص آخر.
ونختم الكلام بهذه الأحاديث عن موت الفقيه من كتاب الكافي الشريف:
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء»(13).
وعن علي بن أبي حمزة قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) يقول: «إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها، وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله، وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدُّها شيء؛ لأنّ المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها»(14).
وعن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ما من أحد يموت من المؤمنين أحبّ إلى إبليس من موت فقيه»(15).
فسلام على روح الله الخميني يوم ولد ويوم رحل إلى ربّه ويوم يبعث حياً، وحفظ الله خليفته القائد الإمام الخامنئي، وأطال في عمره، ومتّع المسلمين ببركات أنفاسه الشريفة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
المصادر والهوامش
- (1) بصائر الدرجات، للصفار، ص30-31.
- (2) البحار، ج1، ص166.
- (3) نفس المصدر، ص168.
- (4) نفس المصدر، ص172.
- (5) نفس المصدر، ص174.
- (6) نفس المصدر، ص175.
- (7) قبسات من سيرة الإمام الخميني – في ميدان التعليم الحوزوي والمرجعية، ص98.
- (8) نفس المصدر، ص96.
- (9) قبسات من حياة الإمام الخميني – الحياة الشخصية، ص16.
- (10) منهجية الثورة الإسلامية، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني (قدِّس سرُّه) ص 296.
- (11) قبسات من سيرة الإمام الخميني – في ميدان التعليم الحوزوي والمرجعية، ص77-79.
- (12) الإمام الخميني ثورة العشق الإلهي، ص237-238.
- (13) الكافي ج1 ص38.
- (14) نفس المصدر.
- (15) الكافي، ج1، ص38.