النظرة التوحيدية في مشروع الشيخ عيسى قاسم
التوحيد أساس دعوة الأنبياء
العلماء ورثة الأنبياء يسيرون على خطّ الله تعالى ونهجه، ويؤدون الأمانة الثقيلة التي حمّلها إياهم الله (سبحانه وتعالى)، وأهمّ الأمور وأساسها في مشروع الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) هو الدعوة إلى توحيد الله تعالى ونبذ عبادة غيره، يقول (عزَّ وجلَّ): {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}(1). ويقول (سبحانه وتعالى): {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}(2)، وغيرها من الآيات الكثيرة.
وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: «كانت شريعة نوح (عليه السلام) أن يُعبد الله بالتوحيد والإخلاص وخلْع الأنداد، وهي الفطرة التي فطر الناس عليها، وأخذ الله ميثاقه على نوح (عليه السلام) وعلى النبيين (عليهم السلام) أن يعبدوا الله تبارك وتعالى ولا يشركوا به شيئا»(3).
يقول الشيخ مكارم الشيرازي: “يبيّن تاريخ الأنبياء أنّهم بدأوا دعوتهم جميعاً من التوحيد ونفي الشرك ونفي عبادة الأصنام أياً كانت، والواقع فإنّ أيّ إصلاح في المجتمعات الإنسانية لا يتيسّر بغير هذه الدعوة، لأنّ وحدة المجتمع والتعاون والإيثار كلها أمور تسترفد من منبع واحد وهو توحيد المعبود، وأمّا الشرك فهو أساس كلِّ فرقة وتعارض وتضاد وأنانية، وما إلى ذلك،”(4).
ويقول الشيخ السبحاني: “التوحيد ونبذ الشرك من أهمّ المسائل الاعتقادية التي تصدّرت المفاهيم والتعاليم السماوية على الإطلاق، ويعدّ أساساً لسائر التعاليم والمعارف الإلهية العليا التي جاء بها أنبياء الله ورسله في ما أوتوا من كتب”(5). وأما العلامة الطباطبائي فيقول: “وأمّا الإسلام فقد وضع قانونه على أساس التوحيد”(6).
ويقول الشيخ القائد: “«قولوا لا إله إلا الله تفلحوا»…. هذه هي الكلمة الأولى التي جاء بها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وسلم، وانبثقت منها وسارت على خطّها كلّ رسالته بكلّ ما في تلك الرسالة العظمى من تفاصيل، هذه رسالة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وسلم، وهي رسالة كلّ الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين، صلوات الله وسلامه على جميع أنبيائه ورسله”(7).
معيار الشخصية الرسالية
وعلى ما تقدّم لا بدّ لنا لتقييم أي شخصية من الشخصيات أن نرى مشروعها الذي تصبو إليه، هل يتوافق مع مشروع الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، أم أنّه في وادٍ آخر وله أهداف أخرى لا تتوافق مع المشروع الإلهي؟ هل يحمل همّ إيصال هذا المشروع إلى الناس، أم له هموم أخرى؟ هل نظرته للتوحيد شاملة لكلّ أنحاء الحياة أم مقتصرة على بعض جوانبها الضيقة؟
وبقدر ما يقترب ذلك المشروع مع مشروع التوحيد فإنّ الشخصية صاحبة المشروع تكون حينئذٍ عظيمة، وتستحقّ الاتباع، وبالعكس تماماً لو كان مشروع تلك الشخصية بعيداً عن مشروع التوحيد فإنّها تكون شخصيّة منحطّة، ويجب الحذر منها والابتعاد عنها.
مشروع التوحيد
والتوحيد الذي نحن بصدد البحث عنه له جوانب متعددة، فهو لا يقتصر على الجانب النظري العقيدي، بل يشمل ما يدلّ عليه وهو الجانب العملي الرسالي والسلوكي، فإنّه قد يكون شخص ما صاحب نظر عميق في التوحيد النظري، ولكنّه لا يحمل مشروعا عمليا لتحقيق ذلك الأمر النظري.
ونحن هنا نتكلم عن شخصية عظيمة عملاقة أثبتت طوال عقود أنّها صاحبة مشروع إلهي تسعى بما ملكت من طاقة وعلم ووعي أن توصل هذا المشروع إلى الناس كلّ النّاس، وحملت همّ الأمّة المحارَبة من كلِّ الدنيا وهي الأمّة الإسلامية، ألا وهي شخصية سماحة آية الله القائد الشيخ عيسى أحمد قاسم، يقول (حفظه الله): “دعوتنا من دعوة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وسلم بالرجوع إلى منهج التوحيد الذي لا يفرّق بين أمّة وأمّة، ولا شعب وشعب، ولا عنصر وآخر، وعلمه كامل، وعدله شامل. منهج لا تسجد فيه جباه العباد إلا لربّ العباد، ولا تخضع الرقاب إلا لمالكها، والنفوس إلا لبارئها، نحن الإسلاميون لا نرضى أن يتخذنا أحدٌ أرباباً -عليٌ (عليه السلام) حرق من أراد أن يؤلّهه- ولا نرضى بأنْ نتّخذ من الآخرين أرباباً، وعلينا إذا رفض الغيرُ منهجَ الحقّ والعدل والتوحيد، بأنْ نُشهِدَ الدنيا كلّها قولاً وعملاً بأنّا مسلمون، لا نقبل العبودية إلا لله، ولا نرى الربوبية إلا له، ولا يتجه سعينا أبداً لأن نكون أرباباً للغير، ولا نعطي يدنا لمن أرادوا أن نتخذ منهم أرباباً من دون الله أو معه”(8).
ومن الإجحاف بحقِّ هذه الشخصية أن نقول أننا نستوعب نظرتها الثاقبة، ومشروعها الخالد، ولا أبالغ إذا قلت بأنّ كلمات الشيخ في خطب الجمعة وغيرها لا تخلو من ذكر التوحيد تصريحاً أو تلميحاً، وقد جمعت مقداراً كبيراً من تلك الخطب تصلح لتأليف كتاب كبير عن التوحيد بكلّ تفاصيله، واحترت في كيفية تلخيص تلك الكلمات وانتخاب بعضها في كلّ عنوان لكثرتها، ولكن نحاول في هذه المقالة المختصرة أن نسلّط الضوء على بعض الملامح التوحيدية لمشروع هذه الشخصية، من هذه الكلمات والخطب والمواقف التي صدرت منها، ونترك الأكثر لفرصة أخرى.
نظرته لمكانة التوحيد في المنظومة الإسلامية
ما دمنا نتكلّم عن النظرة التوحيدية في مشروع الشيخ فلا بدّ من أن نلاحظ أولا الجانب النظري لمسألة التوحيد؛ لأنّ أي مشروع مهما كان هادفا لا بدّ له من تنظير صحيح لأسسه، فما هي نظرته لقيمة التوحيد ومكانته؟
يقول (حفظه الله) في إحدى خطب الجمعة: “إنَّ التصور التوحيدي يمتنع أن تجاريَه فكرة أخرى صدقاً ورقيّاً وانعكاساً بالشفافية والسمو على مجموعة الدوافع وجعلها منظومة متناغمة الأطراف، مولِّدة للحركة الصاعدة بالمستوى الفعلي لإنسانية الإنسان، من خلال المسار التوحيدي لذات الفرد والمجتمع، وهو مسار في صعود دائم لا ينقطع ولا تدرك غايته”(9).
فالتوحيد إذاً من حيث اليقين به كفكرة وعقيدة من المسلّمات التي لا شكّ فيها ولا في صدقها، وكونها الأساس لقيمة الإنسان ومكانته، وهذه نقطة مهمة يشير إليها الشيخ، فنحن يجب علينا لمعرفة مستوى إنسانية أي إنسان أن نقيسه من خلال التوحيد، والكلام عن “منظومة متناغمة الأطراف”، وهذا يعني في كلّ مجال يدخله الإنسان؛ في المسجد، في العمل، في السياسة، في الاقتصاد، وغيرها من الميادين، نقيس هذا الإنسان من خلال علاقته بالتوحيد، فقد يكون شخص تاجر أفضل من متصدٍّ لعمل إسلامي، بسبب العلاقة بالتوحيد.
ويقول في خطبة أخرى: “معرفة التوحيد التي تأخذ بالقلب إلى الإيمان بالرسالة وإلى الإيمان بالولاية، هذه المعرفة هي الأهم والتي تُمثل المنطلق الكبير، وهي المؤمِّنة على طول الخط لحركة الإنسان بأن تستقيم وتصمد على خط الهدف، وتكون خطاها ثابتةً راسخة”(10).
حقيقة التوحيد
وفي كلمة أخرى يبيّن فيها حقيقة التوحيد يقول: “الإنسان وأيُّ شيء في الكون ينفصل عن التوحيد تماماً يكون من العدم المطلق، لو انفصلت المسيرة البشرية على الخط الإرادي عن الله، عن قوانين الله، عن فطرة الله، عن أخلاقيات الله، عن هدى الله، عن علم الله لحظة لغرقت في العدم الكامل، وأقول ذلك بكلّ يقين”(11). وهذه الكلمات تحمل في طياتها فهماً عميقاً لمسألة توحيد الله تعالى، حيث إنّ الله تعالى هو واجب الوجود، ومن وجوده كلّ وجود، فلا أثر لشيء إلا من خلاله تعالى.
ويقول في محلّ آخر: “كل المحاور عداه سبحانه وهمية، كلّ الآلهة من غيره سراب، كلّ ما في الكون من صغير وكبير وعباقرة وعلماء وفلاسفة عدمٌ بالأصل، و فقر محض أصلاً. والوجود الحق ليس هو إلا الله، والعالم ليس هو إلا الله، والحكيم ليس هو إلا الله، ومنبع الخير كلّه ليس هو إلا الله فإن كان تمحور حوله كان الخير، وكان الهدى، وكان العلم، وكانت البركة، وكان الأمن، وكان الاستقرار، وكان الكمال”(12).
ويشير بهذه الكلمات إلى الوجود الحقيقي المستقل الذي منه ينبع كل وجود، فالعلم والقدرة وكل خير منه سبحانه، وهذا المعنى يجعل من يتعقّله يعيش العلاقة مع الله تعالى في كل وجوده، ويوحّده في كلّ أموره، ويرى نفسه عين الفقر والحاجة والفاقة إلى الغني المطلق.
لا يمكن معرفة كنه الله
كون الإنسان العادي لا يعرف الله تعالى حقَّ المعرفة أمرٌ يقرّه وجدان كلّ الناس، ولكن كيف ذلك بالنسبة إلى الأنبياء (عليهم السلام)؟ كيف بأعظم وأقرب مخلوق لله تعالى وهو المصطفى (صلَّى الله عليه وآله)، هل يتمكن (صلَّى الله عليه وآله) من معرفة كنه الله وحقيقته؟ يقول الشيخُ لا يمكن ذلك، فما هو الدليل والسبب؟ يقول (حفظه الله): “قلب النبي الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) وهو لا يعيش ذرّة ولا أقل من ذرّة من الشكّ في الله (عزَّ وجلَّ)، قلبٌ كلّه يقين، قلب كلّه نور من نور الله، قلب كلّه معرفة بالله، لكن ذلك شيء وأن يدرك النبي (صلَّى الله عليه وآله) اسماً من أسماء الله الحسنى، صفة من صفات الله العليا بحقيقتها، ذاك شيء آخر، فإنّ الله غير محدود، والنبي (صلَّى الله عليه وآله) محدود، ولا يمكن للمحدود أن يدرك غير المحدود.
كنه الله لا يعلمه نبيٌ مرسل، ولا ملك مقرّب، فوق كلّ العقول، فوق كلّ البصائر، فوق كل الرؤى (سبحانه وتعالى)”(13).
لا تفويض للخلق في شيء
ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: «لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين»، قال(الراوي): قلت: وما أمر بين أمرين؟ قال: «مثل ذلك: رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته ففعل تلك المعصية فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الذي أمرته بالمعصية»(14).
من المسائل المهمة التي وقع الاختلاف الشديد فيها ولها علاقة وثيقة بفهم التوحيد، هي مسألة فعل العباد، حيث ذهبت الأشاعرة إلى القول بالجبر، وذهبت المعتزلة إلى القول بالتفويض، وذهبت الإمامية للأمر بين الأمرين كما في الرواية، وتمثيل الإمام (عليه السلام) في الرواية يتناسب مع نفي الجبر.
وفهم الأمر بين الأمرين من الأمور الصعبة على عوام الناس، ولعله لذلك الإمام (عليه السلام) اكتفى بالتمثيل. وللعلماء كلام واسع في بيان ذلك، يمكن أن نستفيد من بعض كلمات الشيخ في هذا المجال حيث ينفي التفويض -وإن لم يكن في مقام الرد على المفوّضة- ولكن فهمه الدقيق للتوحيد وعلاقته العميقة بالله التي يترجمها في أقواله تصلح للردِّ على ذلك، فيقول مثلا -وهو يتحدث عن السياسة في الإسلام- ضمن كلام طويل: “تبتدئ المسألة السياسية في الإسلام، من النظر إلى الولاية التكوينية لله (سبحانه وتعالى) ومعنى الولاية التكوينية لله: هو أنّ خلق كلّ شيء من عطائه، وأنّ شيئاً ما كبر أو صغر، لا يمكن أن يأتي من غير الله ومن غير عطائه، وأنّ ديمومة كلّ شيء واستمراريته، في أصل وجوده، وفي صورة نظامه الداخلي، وفي ما يربطه من نظامٍ جزئيٍ أو شاملٍ كاملٍ، كلّ ذلك إنّما يكون بديمومة العطاء من الله (عزَّ وجلَّ)، وباستمرارية الفيض من الله (سبحانه وتعالى)، فكوننا كلّه لو انقطع عنه المدد الإلهي لحظة لغرق في بحر ظلام العدم، هذا الكونُ بأراضيه وبما في السموات والأرض وما بينهن إنما يعيش في كلّ لحظةٍ من لحظاته بفيضٍ من عطاء الله (عزَّ وجلَّ)، الذي لا ينقطع و لا ينضب، لا نضب من مَعين والله مَعينه، قلبك ينبض بالله، عينك تطرف بالله، لسانك ينطق بالله، كل خليّةٍ من خلاياك، وكل ذرّةٍ من ذرّات وجودك، تستمر في نظامها الخاص بفيضٍ من الله بعطاءٍ من الله، يتدفق آناً بعد آن، هذا من ولاية الله التكوينية”.
وفي عبارة أخرى للشيخ أكثر وضوحاً يقول: “فليس من فعلٍ أملكُ أسبابه فيما يتراءى لي هو تحت يدي، الفعل لا يكون مقدورا للعبد وإن ملك من الأسباب ما يملك؛ فلا مالكية له إلا بتمليك من الله، أقول: لا فاعلية للعبد ولو عندئذ إلا بتوفيق من الله (سبحانه وتعالى). فليس حيث تكتمل الأسباب يخرج الفعل عن قدرة الله، فحتى بعد أن تكتمل الأسباب يبقى الفعل محكوما بإرادة الخالق العظيم تبارك وتعالى”(15).
وخلاصة كلامه أن العبد لا يستغني عن الله تعالى في شيء من وجوده بعد خلقه، بل تبقى الحاجة والفقر خلافاً لقول المعتزلة.
وكلامه هذا يؤكد ما ذكرناه من أنّ التوحيد دائماً وأبداً هو المحور والأساس لكل رؤى الشيخ ومنطلقاته في الدعوة والعمل، حيث إنه في الفقرة الأولى يتكلم في بحث عن السياسة وأول شيء يذكره هو التوحيد بهذا المعنى الدقيق.
شمولية التوحيد لنواحي الحياة
كلمات كثيرة للشيخ يؤكّد فيها أنّ مسألة التوحيد لا تختصّ بجانب معين من حياة الناس، وإنما حيث إنّ التوحيد هو أساس الدعوة وأساس المشروع الإلهي، والمشروع الإلهي لم يترك جانباً من حياة الناس إلا وتدخّل فيها، فالتوحيد إذاً يعمّ كلّ شيء، فالإنسان في كلّ حركاته وسكناته مطالب بالتوحيد، ولا يقتصر الأمر على مجرد الاعتقاد البسيط بوحدانية الله سبحانه، يقول (حفظه الله): “فكما أنّه لا رب بالحقّ إلا الله، فإنّه لا معبود للخلق إلا الله، وربّ الصلاة والصوم والحج، هو ربّ الجهاد والثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد وربّ كلّ فاعلية ونشاط.
فنداء الأنبياء نداءٌ للبشرية كلّها بالتزام منهج العبادة الكاملة المستوعبة لساحات الحياة جميعها؛ لأنّ هذا هو المنسجم مع إفراده سبحانه بالربوبية وتوحيده، لا أن تأتي العبادة المترتبة على التوحيد الشامل في زاوية أو أكثر من زوايا الحياة بلا استيعاب لكلّ ما لها من مسافات ومساحات”(16).
المنطلق في كلّ شيء هو التوحيد
ويقول في خطبة أخرى: “القضية أنّ التوحيد يجب أن يبقى مهما كان الزمن، وأنّ حركة الحياة يجب أن تنطلق دائماً من قضية التوحيد، وأن تلتزم مساره، وأن تتمسك دائماً به؛ لأنّ التوحيد هو الحقيقة الأولى ولا حقيقة إلا ومرجعها إلى هذه الحقيقة”.(17)
وللتوحيد أقسام عديدة وكثيرة، والالتفات إلى قضية التوحيد في كل شيء يحتاج إلى نظرة ثاقبة متبصرة للهدف الذي من أجله خلق الإنسان، وفاهمة للتوحيد فهماً عميقاً واعياً.
وخلال ردّه على من يكفّر الشيعة، يعدد الشيخ أقسام التوحيد التي قامت عليه مدرسة التشيع تحت عنوان “توحيد لا شوب فيه” فيقول: “المسلمون كلّهم موحّدون، ومنهم أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، وتوحيد هؤلاء الأتباع وهم الشيعة الاثنا عشرية نقي خالص لا شوب فيه؛ ففي هذه المدرسة لا اثنينية، ولا تعدد على مستوى الذات الإلهية المتعالية، ولا تعدد في الصفات خارجاً، ولا بين الذات والصفات كذلك، ولا مثلية ولا تشبيه، ولا تجسيم ولا تعطيل، ولا جبر ولا تفويض وإنما هو أمر بين أمرين، والجبر مستلزم للظلم، والتفويض مستلزم للعزل، ولا محدودية من مكان أو زمان أو غيرهما. وكما تقول هذه المدرسة بتوحيد الذات والصفات تقول بالتوحيد في الفاعلية والخلق والتدبير والرزق، والتوحيد في التشريع، والتوحيد في العبادة والطاعة وأن لا عبادة لغير الله، ولا طاعة لأحد إلا بإذنه ومن أجله. وإجمالاً ليس من حيثية من حيثيات التوحيد الصادق الدقيق إلا وتُلزم به عقيدة هذه المدرسة التي تعتمد كتاب الله وسنّة المعصومين (عليهم السلام) هادياً ودليلاً، ولا تخرج على فطرة الروح والعقل ومسارهما القويم”(18).
ويمكن أن نذكر هنا بعض الموارد التي وردت على لسان الشيخ مما يدل على سعة نظرته للتوحيد، وجعله المحور في كلّ عمله ونشاطه وجهاده في سبيل الله تعالى.
1- وحدة العالَم:
عندما يتحدث عن أهداف الرسالة الخالدة للنبي (صلَّى الله عليه وآله)، يجعل أولها وحدة العالم، وليس وحدة المسلمين أو المؤمنين فقط، ويشير إلى أنّ المحور لوحدة العالم هو التوحيد فيقول: «وحدة العالم: والمحور هو توحيد الله (سبحانه وتعالى)، ولا شيء يوحّد هذا العالم، ويرتقي به، ويعالج مشاكله كما هو محور التوحيد، وهذا موضوع بحث طويل لسنا بصدده.{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا}(19) وهو خطاب القرآن الكريم لكل العالم، لكل الملل، لكل الناس كذلك. «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» كما هي الكلمة عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)وسلم”(20).
وهذه بالضبط دعوة الأنبياء التي أشرنا إليها في مقدمة الحديث، فكثيراً ما يغفل المؤمن في دعوته إلى الله تعالى بقية الناس الخارجين عن الإسلام، بينما يركز الشيخ هنا على كل الملل وكل الناس، كما كانت دعوة الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، وحينئذٍ ينبغي للمبلغ عدم إغفال هذه المسألة ووضعها في الحسبان دائماً.
وفي تعليق له على آية الاعتصام بحبل الله يقول: “الآية… فيها تركيز على أن الخلاص ليس له أكثر من منهج واحد وهو الإسلام، وإن يقدّ حركة الحياة يحقق أهدافها ويسعد بها الإنسان دنياه وآخرته، وأن يقدّها أي منهج آخر من صنع الأرض وإن انتسب زوراً إلى الإسلام تكثر عذابات الإنسان هنا وفي الآخرة. وإن أي تفرق عن منهج الله يلازمه الاختلاف وتصارم المصالح، والدخول في الصراع، وما يمكن أن يحقق الوحدة الحقيقية المستقرة الخيرة هو خط التوحيد وحده، ومنهج الله لا غير”(21).
والمؤمنون أولى بغيرهم من التمسك بهذا النهج الإلهي في كلّ ميادين حياتهم، فإذا كان المنطلق لكل مجموعة توحيد الله تعالى فإنّ الوحدة الحقيقية لا من بدّ أن تتحقق، يقول (حفظه الله) في محلٍّ آخر: “ثمّ إذا كان الإسلام يمحور كلّ حركة الإنسانية حول محور التوحيد فإنّه إذا تمحورت كلّ الحركة حول المحور الواحد الصحيح فلا بدَّ أن ينتج ذلك اتحاد النّاس المنشدِّين إلى ذلك المحور”.
وإذا ما انحرف البعض ولو في بعض شؤونهم عن خطّ التوحيد فإنّ الوحدة المدعو إليها ستكون بعيدة المنال. وهذا ما يدعونا إلى لنظر بجدّ في نياتنا وأهدافنا الحقيقية لكل خطوة نخطوها، هل هي لله أم لغيره.
ويكمل الشيخ في هذا الموضوع محذراً من أن تكون الوحدة المرجوة على غير خطّ التوحيد فيقول: “وكما يمنع الإسلام حالة الشتات يمنع حالة التمحور والتوحد على الباطل، وأنّه لا تعاون على شر أو خطأ، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} اعتصام بما به الاعتصام من الخطأ والجهل والظلم ولا اعتصام إلا بحبل الله. يطلب بعضنا من البعض الاتحاد ولكن يسبق كل ذلك سؤال: الإتحاد على ماذا؟ الاتحاد على أطروحة غربية؟ على أطروحة شرقية؟ أو انّ الاتحاد الحق، الاتحاد المطلوب هو الاتحاد الذي يعني الاعتصام بحبل الله؟ فلنتعلم أنّ الاتحاد دائماً يطلب بأن يكون بالاعتصام بحبل الله، ولنتعلم أن لا نغالط من قبل الآخرين بطلب الاتحاد بشكل مطلق.
والآية الكريمة الأخرى في شطر منها تقول {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، إذاً نحن أمام مطلب ديني واضح وهو أن نتحد ويكون هذا الاتحاد خاضعاً لرؤى الدين وأحكام الشريعة. ولا اتحاد على الإطلاق على ما فيه منافاة الدين وأحكام الشريعة. فكل صوت وكل راية تدعو الى الالتفاف بها، على المسلم أن يتحقق من أمرها، أهي راية تخضع لشريعة الله، وتقدّر أحكامه، وتعترف بالعبودية له أو تتنكر لشيء من ذلك، وإذا أراد أن يبقى على خطّ إسلامه فلا يتبعنّ أحداً من غير إذن الله على الإطلاق”(22).
2- الطبقيّة الاقتصادية:
في ربط دقيق وعجيب بين الطبقية الاقتصادية ومسألة التوحيد يتحدّث الشيخ في إحدى خطبه، ويشير إلى العلاقة الوثيقة بين المسألتين، ويتبيّن من خلال كلامه أنّه صاحب نظرة ثاقبة وأنّه -كما تقدم- جعل التوحيد أساس نظرته للحياة، فبعد أن يتحدّث عن المشكلة العمالية والظلم الذي يقع على الجاليات المستضعفة مثل الباكستانيين والهنود في دول الخليج، ويتحدّث عن سياسة المتاجرة بالبشر والرقّ الجديد المغلف بالبشر، يقول (حفظه الله): “هدف الإبقاء على الطبقية الاقتصادية الفاحشة لا يليق ببلد إسلامي أبداً، فإنّ الإسلام ربط بين حرب الكفر وحرب الطبقية الاقتصادية الفاحشة، ذلك لأنّه ما ولدت طبقية اقتصادية فاحشة إلا ووُجد من بين الناس عابد ومعبود، الطبقة المترفة هي المعبود هي الربّ من ناحية عملية، هي التي تفرض القوانين، هي التي توجّه سير التاريخ، هي التي تفرض هيمنتها في كلّ شيء، والفئة الثانية الفئة المسحوقة، فئة تتلقى وتستجيب، وهي في موقع الضعف وفي موقع الوهن، الطبقة المسحوقة المستضعفة لا بدّ أن تكثر فيها عبادة الطبقة المترفة، وتنسى الله (سبحانه وتعالى)، باختصار إذا كان الإسلام دين التوحيد ولا يرضى للعبادة من دون الله فمن الضروري جداً أن يحارب الطبقية الاقتصادية التي تتعاكس وبشكل كامل مع مسار التوحيد، لأنّها تفرض الشرك، تستتبع الشرك بلا أدنى شك، الطبقية الاقتصادية قاعدة الشرك، قاعدة أن يُنسي العبيد المتبذخون المتفرعنون أن ينسوا الإنسان ربّه، وأن يتحولوا إلى ربٍّ كاذب في نفوس المستضعفين”(23).
فما نراه من حكّام أغلب الدول الجائرة من تعمّد لإفقار الناس وجعلهم يعيشون الحاجة والفاقة الشديدتين نابع من ربوبية كاذبة في أنفسهم، ويتصرفون كما كانت تتصرف الفراعنة بالناس، ولكن بأسلوب غير صريح حيث الإسلام الظاهري يفرض نفسه عليهم.
ويؤكد الشيخ في خطبة أخرى -يتابع فيها المسألة الاقتصادية، وتحت عنوان الأسباب التشريعية للملكية الخاصة- على مسألة العلاقة بين الطبقية والتوحيد، وأنّ الطبقية سبب لدعوى الربوبية الكاذبة: “أمّا التفاوت الذي يعني أن توجد قلة من الأفراد في المجتمع تعيش في الطابق المليون والمجموعة الكبرى من أبناء المجتمع تعيش في المنحدر السحيق فهذا ما يرفضه الإسلام تماماً و يتنافى مع قضية التوحيد في الأرض لأنّه ما حصل هذا الفارق الاقتصادي الهائل إلا ونشأت طاغوتية اقتصادية في الأرض تستتبع الطاغوتية السياسية، تستتبع طاغوتية العبادة هناك فيُنسى الله (سبحانه وتعالى) ويشتغل بالتقديس والإجلال بغيره (سبحانه وتعالى)، وحين يشتغل الإنسان بالإنسان ينسى المثال الذي لا يتناهى، حين يقف الإنسان عند الأمثلة الصغيرة، حتى الأمثلة الجمالية الصغيرة لا يواصل رحلة الكمال، ولا بدّ أن يسقط في الطريق، ولا وبدّ أن تتأزم حضارته، ولا بدّ أن تنشأ المشكلات المتفاقمة في داخل المجتمع ليتحطم هذا المجتمع بعد البناء الطويل”(24).
3- التفقه في الدين:
عن الإمام الباقر (عليه السلام): «الكمال كلّ الكمال: التفقه في الدين، والصبر على النائبة، وتقدير المعيشة»(25)، يعلّق الشيخ على فقرة «التفقه في الدين» – والتي يتبادر إلى أذهان المؤمنين منها هو خصوص المسائل الفقهية- ويذكر أنّ أوّل أنواع التفقه هو تعلّم التوحيد، فيقول: “عندما يقول الإمام (عليه السلام): «التفقه في الدين»، ما هو التفقه في الدين؟ أن تكون لك رؤيتك الكونية الصادقة الواعية المطابقة للواقع، بأنّ توحّد الله (سبحانه وتعالى) وتردّ الأمور كلّها إليه، أن يكون توحيدك شاملاً صادقاً على مستوى الذات، وعلى مستوى الصفات، وعلى مستوى الفعل لله (سبحانه وتعالى)، وعلى مستوى العبادة، وعلى أيّ مستوى من المستويات التي يأتي عليها التوحيد”(26).
4- سقوط الطواغيت:
تحت عنوان (صدَّام وأكثر من درس) يتحدّث الشيخ في إحدى خطبه عن سقوط صدّام، وأول درس يذكره هو عنوان (درس في التوحيد)، وربما لو سُئِلنا نحن عن الدروس المستفادة من قضية سقوط صدّام لذكرنا عدة أمور ليس من بينها هذا الدرس، فنذكر مثلاً، أن الله يمهل ولا يهمل، ونذكر سوء الخاتمة ومصير الطغاة، ونذكر ونذكر، ولكن الشيخ يلتفت إلى أهمّ درس فيقول: “مشهد صدّام وما آل إليه… حركاته سكناته، تقييده بالسلاسل، التصرف فيه من شرطيين ما كانا يجرآن أن يمدّا ببصرهما إليه… صدّام الذي يخاف الولد أن يذكره بسوء أمام والده، ويخاف الوالد أن يذكره بسوء أمام ولده وهو على هذا الوضع يقول بلسانٍ بالغ القوة في التعبير لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا معبود بالحقّ إلا الله. وأنَّ كلّ الألوهيات زائفة، ولا ألوهية بالحقّ إلا لله (سبحانه وتعالى)، ويقيم على الناس الحجة بأن لا يعبدوا إلا الله، ولا تتعلّق آمالهم إلا بالله. وها هم الذين كانت تعتمد آمالهم على صدّام يشهدون ذلّه وسقوطه، وكم من ربّ موهوم يموت، ويبقى أتباعه لا تحتضنهم إلا ربوبية الله كما كانت”.(27)
5- العُجب بالنفس:
العجب مرض أخلاقي، يرى فيه الإنسان نفسه عظيمة بسبب فعل أو خير صدر منه أو عبادة وما شابه ذلك، ولكن ما هي حقيقة العجب؟ وكيف تكون حالة الإنسان حينها؟ يبيّن الشيخ (حفظه الله) أنّ ذلك مرتبط بالتوحيد فيقول معلقاً على قول الأمير (عليه السلام) لمالك الأشتر لما ولاه مصر: «إياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك وحبّ الإطراء، فإنّ ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسن»(28): “وهذا الغرور والعجب والاطمئنان للنفس والثقة بها والركون إلى النعمة دون المنعم من إيحاءات الشيطان، وهو بدرجة من الشرك التي تُحوِّل ما هو بصورة الإحسان إلى إساءة، وتذهب بالقيمة العالية للعمل وتأتي عليها؛ فإنّما تتسامى الأعمال وتبلغ أعلى درجاتها بأن تكون صالحة في نفسها للتقرب إلى الله (عزَّ وجلَّ)، وأن تصدر عن إرادة الخير والتقرب له سبحانه.
ومن أُعجب بخير نفسه فهو يصدر في ذلك عن ذكر لفاعلية النفس، ونسيان لفاعلية الله وبذلك يغيب بفعل المعجب بنفسه عنصر التوحيد والتقوى الذي هو لبّ العمل والسبب الرئيس في قبوله”(29).
فهذه بعض الموارد المختصرة التي يتحدث فيها الشيخ عن التوحيد مما يدلّ على سعة التوحيد لنواحي الحياة، وسعة نظرة الشيخ لها، وما ذكرناه يتعلق بعضه بالوحدة بين الناس، وبعضه بالاقتصاد، وبعضه بالفقه، وبعضه بالعقيدة وبعضه بالسياسة، وهناك موارد أخرى كثيرة نتركها اختصاراً.
لا واسطة بين التوحيد والشرك
ويترقّى الشيخُ في مسألة التوحيد حينما يشير إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي ترتبط بما تقدم من شمولية التوحيد لنواحي الحياة، حيث لمّا كان التوحيد شاملاً لكل شيء، فإنّ غياب التوحيد عن أيّ أمر في حياة الإنسان يعني أنّ يحلّ محلّه نقيضه ألا وهو الشرك، فالإنسان في كل حركاته وسكناته إما موحدٌ وإما مشركٌ، يقول (سلّمه الله) تحت عنوان الإسلام والجاهلية: “في الأرض كلها وفي كلّ تاريخها دين واحد ألا وهو الإسلام {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(30).
ماذا في قبال الإسلام؟ في قبال الإسلام جاهلية واحدة تتلوّن وتتعدد بأسماء وواجهات وصيغٍ شكلية إلا أن الجوهر واحد واللّب مشترك، هنا دعوة لله (سبحانه وتعالى) في الإسلام هي دعوة التوحيد الخالص وهناك دعوة الأرباب من دون الله، وهناك دعوة للشيطان سمّيتها يهودية سمّيتها نصرانية، سمّيتها قومية، سمّيتها رأسمالية، سمّيتها اشتراكية، سمّيتها ما تريد أن تسميها إلا أن الحقيقة واحدة وهو أن كلّ هذه الدعوات والأطروحات والشعارات تمثّل مضمونا واحداً سخيفاً هو الجاهلية(31).
ولازم ذلك أنّ الإنسان لا يمكنه أن يكون حيادياً في مسألة التوحيد والشرك، فهو في أيّ مجال وميدان إمّا أن يكون موحداً وإمّا أن يكون مشركاً، وطبعاً لا يقصد بالتوحيد هنا المعنى الظاهري الذي يجري على كلّ من تشهّد الشهادتين، بل المقصود التوحيد الواقعي الحقيقي.
التوحيد والسياسة
الدعوات السياسية وتوافقها مع التوحيد:
الديمقراطية تعني حكم الأكثرية، بينما في الشّرع المقدّس خصوصاً في المذهب الإمامي فإنّ الحكم حقّ خاصّ لله تعالى لا شأن للناس في التدخل فيه، واختيار الحاكم لا يجوز إلا بنص واختيار من قبل الله تعالى، وكذلك الأمر في التشريع بل هو أوضح حيث يجمع السنة والشيعة أن لا حقّ لأحد لتشريع أيّ حكم، بل التشريع يجيء من قبل الله تعالى وحده.
وحينئذِ يطرح هذا الإشكال -والذي له علاقة بالتوحيد في الحكم والتوحيد في التشريع-، وهو كيف نوفّق بين مطالبة النّاس -ومنهم الشيخ- بالديمقراطية وبين الدعوة لكون التشريع والحكم لله تعالى وحده؟ ألا يعدّ ذلك تناقضاً في الرؤية والموقف؟ هل يمكن -خصوصاً لأتباع أهل البيت (عليهم السلام) المعتقدين بالنّص في الإمامة- أن يجَمعوا بين هذا الاعتقاد وبين الدعوة إلى الديمقراطية؟
الديمقراطية وسيلة وليست غاية:
فرق كبير جداً بين من يعتمد الديمقراطية كمنهج له وأساس فكري يؤمن به، ويراه الحلّ الأمثل لحاجات الإنسان، وبين من يؤمن بالإسلام كمنهج وأساس فكري، والديمقراطية عنده ما هي إلا وسيلة لتحقيق الأهداف الإسلامية، حيث إنّ الديمقراطية تجيز -نظرياً على الأقل- أن يختار الناس المنهج الذي يريدونه سواء كان إسلامياً أم غير إسلامي، يقول سماحة الشيخ في هذا الصدد: “إنّ الديمقراطية نفسها لا تحلّ المشكلة وإنما يحلّها ما قد تعتمده من منهج إلهي صحيح، وهي طريق فحسب للتمكين لهذا المنهج ولحكومة من صنعه”(32).
ويقول عند مناقشة دستور 2002: “دستور 2002 غير شرعي بالشرعية الوضعية في نظرنا. والشرعية الوضعية هي المبحوث عنها هنا، أمّا الشرعية الإلهية فليست إلا لكتاب الله وسنّة رسوله والمعصومين (عليهم السلام)”(33).
وكلام الشيخ واضح جداً في التفريق بين الشرعية الوضعية والشرعية الإلهية، وهناك من الناس مَن قد يختلط عليه الأمر فيؤدي به إلى معارضة الحكم الشرعي بحجة ممارسة حقّه الديمقراطي، وبأنّ العلماء يطالبون بالديمقراطية، فلكل إنسان الحقّ بأن يبدي رأيه بما يراه صحيحاً دون مراعاة النظرة الشرعية التوحيدية.
وللشيخ كلمات كثيرة في هذا الشأن وقد وضع النقاط على الحروف فيها، وأنّ الحقّ الديمقراطي لا يعني أن تكون حراً باختيار ما تريد ومن تريد، بل لا بدّ من التزام التوحيد الكامل وفي كلّ مساحات الحياة، يقول (حفظه الله): “وإن نداء التوحيد، وشموليةِ الاستسلام الطوعي لإرادة الخالق الحكيم، وشرعه القويم، كما هو نداء الأنبياء والأوصياء، هو نداء الإسلاميين الصادقيين اليوم، الذين لا يريدون بالإنسانية إلا الخير، ولا يجدون طريقاً لخيرها غير الإسلام(34).
فالعمل التوحيدي ليس فقط في المسجد وأثناء الصلاة والعبادة، بل في كل مكان، في الإنتخاب، في البرلمان، في السوق، وغيرها من الميادين، ومن ضمنها الشأن الديمقراطي.
الإمامة والتوحيد:
وإشباعاً لهذا البحث نقول بأنّ التوحيد في الحكم مرتبط بالإمامة، حيث إنّ الحكم حقّ إلهي للإمام ووظيفة من وظائفه، وحينئذِ إنكار هذا الحقّ بمثابة الشرك، والشيخ عندما يتعرض إلى حادثة الغدير يبيّن هذا الأمر بوضوح، ويعتبر أنّ إنكار هذا الحقّ والقبول بخلافة غير المعصوم (الخلافة الظاهرية = منصب الحكومة) يتناقض مع التوحيد الحقيقي، يقول (حفظه الله): “وإلا فقل لي كيف توفّق بين قاعدة التوحيد الحق، وبين أن تثبت عليها ولاية معاوية ويزيد أو ولاية مرشح الأغلبية إذا جاء شخصية لا توافق شرع الله ولا تلتقي معه على خط؟! أدين منسجم هذا، أو دين متهافت؟ أتوحيد يؤسّس للطاغوتية ويحتضنها؟!! إنّ النقص الداخل على الدين بانحراف خطّ الإمامة عن مطروحها الإلهي، يمكن لنا أن نأخذ صورة عن عمقه وسعته وتأثيره الكبير من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}، قد يصل الأثر إلى حدّ أن عدم تبليغ أمر الإمامة منـزّل منـزلة عدم تبليغ الرسالة الإلهية أصلاً، فالأثر على هذا عميق وشامل ودائم ومضر بالإسلام كلّه، فانظروا إلى ذيل {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}، وهو ذيل جاء في طول ما يقرّر إبلاغ الإمامة بالتفسير الذي تذهب إليه مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، فمن كابرها وقع في درجة من الكفر العملي، وانثلم إيمانه وإن بقي إسلامه”(35).
الإشكال بأسلوب آخر:
قد يطرح الإشكال بأسلوب آخر، وهو أنّ العلماء هم ورثة الأنبياء (عليهم السلام)، وحينئذٍ لا يجوز لهم أن يطرحوا منهجاً آخر غير التوحيد، فالأنبياء (عليهم السلام) كانوا صريحين وواضحين في الدعوة إلى التوحيد، ولم يقبلوا من الناس إلا كلمة التوحيد، فمن لا يؤمن بالنبي وأحقيته في الحكم والتشريع الذي هو تشريع الله تعالى فهو كافر؛ لأنّ الإيمان بالنبوة من الضرورات، بل هنا الكفر صريح حيث يجعل الإنسان لنفسه حقاً في الحكم والتشريع في قبال حكم الله وتشريعه، فالقبول بالديمقراطية ولو لأجل تمكين الإسلام يعدّ دعوة للشرك بالله تعالى.
فلماذا لا تكون الدعوة من العلماء للنّاس وللحكومات بتنفيذ الدّين بحذافيره بنحو صريح كما هي دعوة الأنبياء والرسل (عليهم السلام)؟
وفي الجواب على ذلك نقول:
هناك أساليب عديدة في دعوة الناس إلى التوحيد في ظلّ مثل هذه الأجواء والظروف التي تحيط بالمجتمع المسلم، ونعبر بالمجتمع المسلم لأنَّه مسلم ظاهراً حيث كلمة التوحيد كافية في دخول الإنسان في التوحيد ما لم يخرجه منه أمر صريح.
الأسلوب الأول: هو ترك الحبل على الغارب، وعدم التدخل من قريب ولا بعيد في هذه المسألة، وقبول الأمر الواقع، تارة بالسكوت عليه، وتارة بالتأييد للحاكم بكلّ ما يفعل وإن كان مخالفاً للتوحيد بالمعنى المبحوث عنه-وهو التوحيد في الحكم والتشريع-، وهذا الأسلوب في شقه الثاني، هو الذي سار عليه عموم المسلمين للأسف الشديد ففرضوا واقعاً في الذهنية الإسلامية يصوّر لهم فيه أنّ المستلم لزمام الحكم يجب مجاراته، بل هو مقدّس شرعاً، وإن لم يكن مختاراً من قبل الله تعالى في نظرهم، وكثير من ويلاتنا التي نعيشها في زماننا هي نتائج هذا التعاطي مع هذه المسألة الخطيرة.
الأسلوب الثاني: وهو على النقيض تماماً من الأسلوب الأول؛ حيث أوجبوا فيه الخروج على الحاكم، ووجوب تطبيق الشريعة الإسلامية بالقوّة وبحدّ السيف ولو تسبب ذلك في نشر الفوضى والدمار وإراقة الدماء.
وقد يكون هذا الأسلوب ردّة فعل لما آلت إليه الأمور بسبب اتّباع الأسلوب السابق، وممن انتهج هذا الأسلوب في زماننا هم التكفيريون، ووقعوا في تناقضات كثيرة، حيث بناء على هذه النظرة لا يبقى حاكم من الحكام إلا ويجب الخروج عليه حيث لا تطبق الشريعة الإسلامية بحذافيرها، بينما في الواقع نراهم يخرجون على حكم ويؤيدون حكماً آخر، فهناك تبعيض في المنهج يدلّ على النية غير الصالحة، وهذا كلّه لو كانوا فعلا سيطبقون الشريعة عند الظفر بالحكم، وما هو المنهج المختار، ومن الذي سيحكم حينئذٍ، كلّ هذا غامض، وتكون الدعوة كدعوة الخوارج الذين قالوا: “لا حكم إلا لله”، وقد يكونون -والشواهد كثيرة- صنيعة أعداء التوحيد ولكن باسم الدفاع عن التوحيد.
الأسلوب الثالث: وهو الأسلوب الأمثل في التعاطي مع هذا المسألة وهو أسلوب أهل البيت (عليهم السلام)، وفي هذا الأسلوب صراحة من جهة، وحكمة من جهة أخرى، فالصراحة أنّ الحكام لا شرعية لهم أصلاً، رضي بهم النّاس أم لم يرضوا، اختارهم الناس أم هم فرضوا أنفسهم بالقوة، والحكمة في هذا الرفض بما لا يوجب محذوراً آخر، ويختلف من ظرف لآخر، فالأئمة (عليهم السلام) كلهم كانوا يرفضون الحكم، ويبينون لشيعتهم ذلك حسب الظروف المتاحة، وقد يضطرون للمواجهة مع الحاكم، ولذلك سجنوا وشردوا وقتلوا.
ولننظر إلى كلمات الشيخ في هذا الشأن، وكيف يتعامل مع هذه المسألة، وهي التوحيد في الحكم، والتوحيد في التشريع:
أما التوحيد في الحكم:
للشيخ كلمات واضحة جداً يؤصل فيها مبدأ حاكمية الله تعالى، وأنّه لا حقّ لأحد في الحكم إلا من خلال حاكمية الله (عزَّ وجلَّ)، وقد تقدم بعضها، يقول (حفظه الله): “{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ…}(36)، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، {… وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، {…وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {…وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}. طريق الصعود إلى الله، والتأهل إلى مرضاته، والتأدب بأدبه طريق واحد لم يترك الله (عزَّ وجلَّ) للعباد أمره، بل نصَّ عليه نصّاً، ورفض ما سواه رفضاً قاطعاً، فلا غير الإسلام، ولا بديل عنه، ولا شيء يضاف إليه.
وليس إلاّ الإسلام الذي يعترف بحاكمية الله ويردّ الأمر كلّه إليه، ويواجه من يعطي لنفسه حقّ الحاكمية من دون الله، هذا هو الإسلام الذي كانت من أجله عاشوراء مواجهةً للإسلام الأموي اليزيدي المزيّف، وكانت من أجله الثورة الإسلامية في إيران ردّاً على الإسلام الشاهنشاهي الأميركي المكذوب”(37).
ويقول (حفظه الله) في موضع آخر: “الحاكميّة أساساً إنما هي للمبدأ الذي هو كلمة الله ونهجه وأمره ونهيه”.
الحاكم الشرعي:
ولكن من هو الذي يتولّى تطبيق الشريعة، فيكون هو الحاكم الشرعي، يتكلم الشيخ تارة عن زمان حضور الإمام (عليه السلام) وتارة عن زمن الغيبة، أمّا عن زمان الحضور فيقول: “فمن هو الحاكم عندئذ إلاّ من كان يمثّل تجسيداً كاملاً دقيقاً للمبدأ، وكان على مبدئية تامّة هو بها والمبدأ على حدّ سواء، ميزانُ عدل وحق لا ميل فيه ولا خلل، يرجع إليه في وزن القضايا والمواقف والأشخاص والمقدّمات والنتائج على الإطلاق.
ولا شخصية تمثّل الإسلام تمثيلاً كاملاً شاملاً دقيقاً وافياً كما هي شخصية المعصوم (عليه السلام); لذا فلا إمام -إذا حضر- غيره، ولا قيادة سواه، ومزاحمته ظلم وعدوان، والتخلف عنه فسوق وعصيان، والمعصوم وحده هو الذي تحرز مصداقيته الكاملة مطلقاً لما في كلمة أبي عبدالله (عليه السلام): «فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحقّ، الحابس نفسه على ذات الله»(38).
ولمّا كان المعصوم بتمامه من صياغة المبدأ فطاعته ومتابعته إنّما هما طاعة ومتابعة للمبدأ، وحاكميته حاكميته، فما هو الحاكم في النَّاس عندئذ ليس إلاَّ المبدأ، تلك هي المبدئية القياسيّة المطلقة، وهي شرط الإمامة في حضور المعصوم (عليه السلام)”.
وهذا الكلام واضح جداً في روايات أهل البيت (عليهم السلام)، بل المذهب قائم على هذه العقيدة، وأما في زمن الغيبة فلا بدّ من النظر إلى الأقرب إلى المعصوم (عليه السلام)، وهذا ما يشير إليه الشيخ بقوله: “وفي غيابه (أي غياب المعصوم) يكون التّنـزلُ بإذن الدليل الشرعي إلى مبدئية قياسيّة دونها، تلك المبدئية التي يدخل في قوامها بُعد الفقاهة والعدالة والحنكة والخبرة والرؤية الإسلامية في مختلف الأُمور، والمستوى النفسي المتميّز وتكامل الشخصية بكلّ أبعادها بحيث يتحصل من متوسط هذه المواهب والمقوّمات ما يقدّم هذا أو ذاك بعينه لموقع القيادة لتفوّقِ متوسط ما هو عليه بما يدخل في صلاحية الموقع بالنسبة إلى غيره ممّن تكون له تلك المعتبرات بدرجة أو أخرى، ومن صلبها الفقاهة والعدالة”(39).
إذاً في زمن الغيبة من يمتلك الحقّ في الحكم شرعا من أهم صفاته الفقاهة والعدالة، فالحاكم الشرعي-كما يعبّر عنه في الرسائل العملية- هو الفقيه العادل.
ولكن يبقى أن الحكم الفعلي (رئاسة الدولة) يبقى أمراً ظاهرياً، يعبر عنه بـ(الخلافة الظاهرية) فأمير المؤمنين (عليه السلام) مثلاً كان خليفة النبي (صلَّى الله عليه وآله) قبل أن يستلم الخلافة، والأئمة (عليهم السلام) هم خلفاء النبي (صلَّى الله عليه وآله) وإن لم يستلموا الخلافة الظاهرية، فالحكم الفعلي ما هو إلا وظيفة من وظائف الإمام وحق من حقوقه، وسلْبه لا يعني سلب المنصب الحقيقي، فالإمامة كالنبوة لا تسلب بمجرد إنكارها أو عدم التمكين لها لتؤدي دورها الإلهي.
والشيخ هنا يشير فيما تقدم من كلامه إلى الدور الحقيقي للفقيه، وحقّه في الحكم، ولكن الكلام في كيفية التعاطي مع الحكّام الغاصبين لهذا المنصب الإلهي الذي هو حقّ المعصوم ومن يعيّنه (عليه السلام).
وهنا عدة نقاط:
النقطة الأولى: تقدّم أنّ الخلافة الظاهرية ما هي إلا حقّ، وليست هي الإمامة الواقعية، وهذا الحقّ مسؤولية أكثر منه منصب، يقول الشيخ: “لو قُدِّر لمؤمن أن يملك الدنيا بكاملها فضلاً عن توجّهٍ وآخر للرأي العام ما اغترّ بها. نحن تلامذة عليٍّ (عليه السلام). إذا كان هناك من يركض وراء الدنيا ووراء الحكم فإنّ المؤمن الحقّ ليخاف من الحكم، وإنما سعيه للإصلاح، وإذا حكم حكم بشعور مرّ بالمسئولية الكبرى”. وهذا هو الذي يتحدّث عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما يتحدث عن الخلافة في الخطبة الشقشقية، ويشبه الدنيا عنده بعفطة عنز، أو ورقة في فم جرادة تقضمها في حديث آخر.
النقطة الثانية: بناء على النقطة الأولى الحكم من الحقوق المهمة، والتنازل عنه ليس جائزاً ولكن قد يسكت عنه لمصلحة، والسكوت عنه ليس تنازلاً عن التوحيد في الحكم، وإلا كانت الحرب والثورة من أجله واجباً في كلّ الظروف، ولم يكن جائزاً للأمير (عليه السلام) السكوت عن الخلافة مطلقاً، وكذلك الأئمة (عليهم السلام)، والعلماء، وهو شبيه بمسألة أخذ الجزية من أهل الكتاب وقبول عيشهم في الدولة الإسلامية، من دون إجبارهم على دين التوحيد.
نعم، عند إمكان إقامة الحكم الإسلامي يكون واجباً، يقول الشيخ (حفظه الله) في جواب على إحدى الأسئلة: “لو استطاع المسلمون أن يقيموا حكم الإسلام لوجب عليهم بقدر ما يستطيعونه. وحيث لا يستطيعون، فعليهم أن يحافظوا على بقاء أكبر درجة ممكنة من الإسلام في مساحة الحياة العملية، كما أن عليهم أن يبيّنوا للناس حقيقة الإسلام ومعالمه، سواء أطبقها الناس أم لم يطبقوها، حتى لا يضيع الإسلام ويختفي أمره على الأجيال القادمة”.
النقطة الثالثة: إذا طرح النبي (صلَّى الله عليه وآله) نفسه للحكم، أو الإمام (عليه السلام)، أو الفقيه بناء على ولايته، يكون لزاماً على الناس المبايعة تشريعاً، ويحرم عليهم المخالفة، يقول الشيخ: ” الديمقراطية بمعناها الغربي لا نجد لها تأصيلاً في الإسلام وإنّما تأصيلها يتنافى مع التأصيل الإسلامي تماماً، لكن هذا لا يعني أنّ الإسلاميين يعادون الديمقراطية بكل معانيها.
إذا وُجد الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وطرح نفسه حاكماً فليس لأحد من المسلمين أن يتخلّف عن قبول حاكميته…، وإذا وُجد المعصوم عدا النبي (صلَّى الله عليه وآله) وطرح نفسه حاكماً فليس لأحد من المسلمين أن يتخلّف عنه وإنما على الجميع مبايعته…، وإذا قلنا بأن الفقيه خليفة المعصوم في غيابه من ناحية الدور السياسي، ودور الحاكمية فإنّه إذا طرح نفسه حاكماً وجب على المسلمين أن يبايعوه،…
فإذاً، المسلمون لا يتمتعون من الناحية التشريعيَّة، والصلاحية الدينيَّة بأن يقبلوا الحكم الإسلامي أو لا يقبلوه، وإنما عليهم قبوله، ليس لهم أن يتخيّروا بين نظام سياسي إسلامي، وبين نظام سياسي علماني مثلاً، وكذلك الأمر بالنسبة إلى شخص الحاكم عند حضور المعصوم (عليه السلام)، أو وضعه عند غيابه، فعند حضور المعصوم يكون متعيناً، وفي حال غيابه تكون أوصاف الحاكم مأخوذة من الشريعة”.
النقطة الرابعة: إذا امتنع النّاس عن مبايعة الإمام أو الفقيه، هل يجب عليه إجبارهم، بالطبع لا؟ وإن وجب عليهم مبايعته كما تقدم، وأمّا تشخيص أن الظرف صالح لطرح المبايعة أو لا، فإنه حيث وجب مبايعة المعصوم أو الفقيه، فكذلك في حال سكوته، لأنّه هو الذي يشخّص.
وأما متى يشخّص؟ وما هي الأسباب التي تدعوه لذلك أو قبوله بأمر آخر-وهو في المقام العملية الديمقراطية- فيمكن ذكر أمور:
أولا: اطمئنانه أن الناس سيختارون دين التوحيد، مع وجود مصلحة عند طرحه للانتخاب، وهذا ما كان في زمن السيد الإمام (قدِّس سرُّه)، يقول الشيخ (حفظه الله): “السيد الخميني (قدِّس سرُّه) بعد أن قاد الثورة وأسقط الشاه كان حاكماً من ناحية فعليَّة، واحتضنت قيادته وحاكميته قلوب الملايين، وكان يمكن له أن يفرض أيّ نظام سياسي على إيران، إلا أنّه طرح النظام السياسي وقضية اختيار الإسلام وعدم اختياره نظاماً سياسياَّ للتصويت. من أين كان للسيد الإمام أن يطرح القضية للتصويت؟سؤال كبير…
كان عند السيد الإمام اطمئنان كامل بأنّ خيار الشعب الإيراني وفي ظل تلك الظروف الخاصة لن يعدو الإسلام، ولن يقدّم الإيرانيون على الإسلام شيئاً، وإذا اختاروا الإسلام التفوا حوله، ودافعوا عنه، وأعطوا أنفسهم له ذلك لأنه خيارهم.
اطمئنان السيد الإمام أن الشعب الإيراني لن يقدّم على الإسلام أمراً آخر كان خلفية من الخلفيات التي تجعله يطرح القضية للتصويت”.
ثانياً: الطريق الأسلم للوصول إلى النتيجة بأقل الخسائر، وهذا ما يشير إليه الشيخ في الشأن العراقي، يقول سماحته: “سماحة السيد السيستاني اليوم يطرح قضية الانتخابات، ويدعو الشعب العراقي إليها، ويوجب على الشعب العراقي أن يخرج إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بصوتهم للحكومة المنتخبة المؤقتة. من أين للسيد السيستاني (حفظه الله) أن يدعو لهذه الدعوة في وقت يعلم فيه أن الحكومة لن تكون إسلامية، وأن الحكم في العراق اليوم لن يكون إسلامياً بالمعنى الدقيق، أيضا هذا سؤال كبير يفرض نفسه…
وفي ظروف كظروف اليوم، وفي القضية العراقية، المواقف ثلاثة: إما التخلّي عن المسألة السياسية من قبل السيد السيستاني (حفظه الله) والحوزة العلمية، والتخلّي عن المسألة السياسية وترك الأمور تتسيّب بدرجة أكبر، وتتجه في الاتجاه الآخر المعاكس للإسلام بدرجة فاحشة أمر غير جائز.
خيار آخر، القيام بالسيف، وحدوث مواجهة بين الشعب العراقي وبين أمريكا، وهذا جائز جداً بل واجب إذا لم يكن بديل لطرد العدو الكافر… ما انتهى إليه رأي السيد السيستاني (حفظه الله) والحوزة العلميَّة المباركة هو أن هناك طريقين، طريق السيف، وطريق الانتخاب، وطريق الانتخاب يُقدّم على طريق السيف حتى لو كانت مسافته أطول بشيء ما.
الانتخابات أقل خسائر، وإذا كانت الانتخابات قد تحدث فيها مغالطات، ويمكن أن يفشل الغرض من تحقيق واقع إسلامي بدرجة ما فإنّ الصراع الدموي لا يسلم أيضا من المغامرة، وأنّه ليس مضمون النتائج”.
ثالثاً: إن الهدف لا يتحقق بفرض الفقيه نفسه لعدم وجود القاعدة المؤمنة الإيمان الكامل الواعي بالتوحيد، يقول الشيخ: “إنّ نجاح أيّ حكم قائم على رضا الشعب والأمة، وقد رأينا أمير المؤمنين (عليه السلام) يعتذر عن قبول الحكم بعد وفاة عثمان، وقد يكون من منطلقات ذلك الامتناع هو عدم ملاءمة الظروف الموضوعية لنجاح الأطروحة الإسلامية، أمير المؤمنين (عليه السلام) معصوم، وقيادته ناجحة بالكامل، لكن الصف النخبوي الذي يؤمن بالإسلام وبالأطروحة الإسلامية، ويصبر على الأطروحة الإسلامية ويعطي لها كل شيء لم يكن بالدرجة الكافية.
والإسلام لا يريد حكماً شكلياً. الإسلام يريد حكماً حقيقياً، يريد أن يصنع نفوساً، يريد أن يصنع عقولاً، يريد أن يخلق واقعاً إسلامياً ولا يريد أن يحكم حكماً شكلياً فحسب. وهذا ما يفرض عدم عزل الحكم الإسلامي رضا النصاب الكافي من النّاس لإقامته”(40).
وقد تجتمع هذا الأسباب وغيرها وتكون سبباً للقبول بالعملية الديمقراطية، مع التأكيد أن الحكم حق لله تعالى وحده، وادعاء أحد الحق لنفسه في الحكم بمثابة الشرك، بل هو شرك بالمعنى الدقيق والحقيقي.
التوحيد في التشريع
وأما في الجانب التشريعي فللشيخ كلمات ومواقف عملية ترفض التشريع غير الإلهي، لأنّ ذلك مخالف للتوحيد، ونختصر الكلام هنا منعاً للتطويل فنقول:
المرجعية في التشريع للإسلام:
يقول سماحة الشيخ: “التشريع لمن؟ في نظرٍ هو للنّاس، وفي نظرٍ إنّما هو لله. في نظر يقطع الإنسان والحياة عن خالقهما، ويُعطّل حقّ الله، ويفصل بين إمداده لهذا الكون بالوجود والحياة، وبين حقّه في التشريع له، يكون التشريع للناس؛ للنّاس شعباً أو فرداً، رئيس جمهورية أو ملكاً أو أميراً أو راهباً أو غير ذلك. أمّا في النظر الذي يعترف لله (عزَّ وجلَّ) بربوبيته، ويذعن بحقه في التشريع كما يؤمن بجميله في الخلق والتدبير، وحاجة الكون كلّه إليه في مسألة الخلق والإمداد فهو يرى أنّ التشريع لله وحده لا شريك له.
الإسلام واضح في قصر حقّ التشريع على الله وحصره فيه، وأن ليس لأحد حتى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أن يقول كلمة في التشريع بغير إذن الله”(41).
فمن لا يقصر التشريع على الله تعالى فهو غير معترف بربوبيته، وهو نوع من أنواع الشرك.
رأي الشيخ في الدستور:
واضح أنّ الدستور لا يمثل الإسلام، ومن خلاله يمكن أن تشرع أحكاماً مخالفة لحكم الله فيكون الشرك، ولذلك التعامل معه بالنسبة إلى لمؤمن لن يكون مع أمر مقدّس حتّى لو صوّت عليه النّاس، يقول الشيخ في هذا الصدد: “الميثاق، الدستور الأول، الدستور الثاني، لأي من هذه المفردات تكون المرجعية الكبرى عندك أيها المسلم؟! ولا شكّ أنّ البلد بما التزمت به من كونها إسلامية، وبما التزمت به من كون الإسلام مصدراً تشريعياً رئيسياً، عليها أن تلتزم بأنّ المرجعية الكبرى للإسلام وأنّه عند التعارض بين الإسلام وغيره يطرح غيره، ويثبت الإسلام في المقام العملي التنفيذي، وفي مقام التشريع”(42).
وفي محلّ آخر يقول (حفظه الله): “إذا جاز أن تكون في عالم السياسة مقدَّسات لا تُمس بحكم الدستور، وهي أثبت من الدستور بحيث تحكمه ولا يحكمها، فدين الله أولى وأجدر بأن يكون أكثر شيء تقدّساً وعصمة ونزاهة، وهو حاكم على الدستور لا محكوم له، إلى جنب أنّ الدستور -ولا نريد أن نعزز مكانة الإسلام بذلك- مسلِّمٌ بذلك لأنّ الإسلام المصدرُ، والدستور هو الفرع كما تقول لغته نفسِه”(43).
موقف الشيخ من قانون الأحوال الشخصية:
من المسائل المتعلقة بالتشريع ما عرف بـ(قانون الأحوال الشخصية) الذي حاولت السلطات في البحرين تشريعه، فوقف العلماء وفي مقدمتهم سماحة الشيخ بقوة وصلابة في وجه هذا القانون، وكان الشيخ يتحدث في خطب الجمعة في تلك الفترة محذراً من هذا المشروع، وكلماته كثيرة منها قوله: “ولا تتطلب أن تغيّر أحكام الشريعة العادلة، ونحكِّم فيها الآراء والأهواء البشرية، وأن ننكر على الله حقّ التشريع، ونعترف به عن رضى وتسليم للمجلس الوطني، والحقُّ أن الرضى بإخضاع الأحكام الشرعية في دائرة الأسرة وما يسمّى بالأحوال الشخصية لنظر المجلس هو اتهام للشريعة وعدم رضى بالله ورسوله، وثقة ورضى بتشريع غير الله”(44).
ويقول سماحته -في الجمعة التي تلت المسيرة الجماهيرية الحاشدة التي دعا إليها وكانت من أضخم المسيرات في تاريخ البحرين رفضاً لقانون الأحوال الشخصية- وفي لغة فيها كثيرٌ من التحدي: “أبواب الحوار الجاد الذي يقدّر العلماءُ جدواه من أكثر من بُعد لا أحد منهم يغلقها، ولكن لا مساومة على الإطلاق على الثابت الديني وكذلك ما يكفل حمايته، وكيف لمن عرف نفسه عبداً مملوكاً لله في كلّ ذرة من ذرات وجوده أن يقيم نفسه وكيلاً فضولياً عن الله (عزَّ وجلَّ) ليتنازل عن شيء من دينه للآخرين؟!”(45).
وفي ندوة سئل الشيخ فيها عن التصعيد تجاه هذا القانون، فقال السائل: لاحظنا في إحدى خطبكم يوم الجمعة بما يرتبط بقانون الأحوال الشخصية دعوتم الى نوع معين من التصعيد حتى أشرتم إلى…
فقاطعه الشيخ قائلا: “.. إذا قصدكم عن المسيرة، فالمسيرة حقّ طبيعي للتعبير عن الرأي”.
فقال السائل مكملاً للسؤال: مواجهة حتى تصل الى درجة المواجهة مع الدولة والحكومة؟
فأجاب الشيخ: “طبعاً، دائماً المؤمنون هم تحت إشارة الإسلام، وليس أحكم من المنهجية الإسلامية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبقى الطرق مفتوحة لدرجة كبيرة في كثير من الظروف لخدمة الإسلام من غير المواجهة المخسرة لجميع الأطراف، نحن نحاول بكلّ جهدنا أن نجنّب البلد أيّ هزّة من هذا النوع، وفي نفس الوقت كما سبق -لا يمكن أن نسمح لأنفسنا لموقف متفرج من ذبح الإسلام وتصفية الإسلام…” ومنطلق الشيخ كما تكرر هو محور التوحيد.
وهناك عناوين كثيرة ترتبط بمسألة التوحيد تعرض لها الشيخ كالتوحيد في الحب والبغض، في الخوف والرجاء، التوحيد في الطاعة والعبادة، وغيرها، أعرضنا عن ذكرها خوفاً من الإطالة، وإنما أردنا هنا أن نذكر بشكل مجمل أنّ لسماحة الشيخ (حفظه الله) مشروعاً إلهياً مبدؤه التوحيد، وقد طبقه ولا زال في كل تحركاته وحياته العلمية والعملية، الفردية والاجتماعية.
والخلاصة من هذا البحث
إنّ التوحيد يمثّل منطلقاً للمؤمن في كلّ مساحات الحياة التي يعيشها، في الحياة الفردية والاجتماعية، العبادية والمعاملية، في المسجد، والمأتم، والعمل، والسياسة، والاقتصاد. وترك التوحيد في مجالٍ ما يؤدي إلى خلل توحيدي عند هذا الإنسان، وللشيخ مشروعه الإلهي تبعاً للأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، وقد لمسنا هذا المشروع من خلال كلماته ومواقفه في مختلف المجالات الدينية والدنيوية والسياسية وغيرها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلّى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
المصادر والهوامش
- (1) فصلت:13-14.
- (2) يوسف:40.
- (3) الكافي، ج8، ص282-283.
- (4) تفسير الأمثل، ج6، 564.
- (5) التوحيد والشرك في القرآن، ص5.
- (6) الميزان، ج4، ص116.
- (7) خطبة الجمعة (315)، 28/صفر/ 1429هـ، 7/ مارس/2008م.
- (8) خطبة الجمعة (44)، 18/ ذو القعدة/ 1422هـ، 1/2/2002م.
- (9) خطبة الجمعة (71)، 29/جمادى الأول/ 1423هـ، 9/8/200م.
- (10) خطبة الجمعة (75)، 28/ جمادى الآخر/ 1423هـ، 6/9/2002م.
- (11) خطبة الجمعة (111)، 14/ربيع الأول/ 1424هـ، 16/5/2003م.
- (12) نفس الخطبة.
- (13) خطبة الجمعة (269)، 6/ محرم الحرام/ 1428هـ، 26/ 1/2007م.
- (14) الكافي، ج1، ص160.
- (15) خطبة الجمعة (251)، 25/جمادى الآخر/ 1427هـ، 21/7/ 2006م.
- (16) خطبة الجمعة (44)، 18/ ذو القعدة/ 1422هـ، 1/2/2002م.
- (17) خطبة الجمعة (88)، 1/شوّال/ 1423هـ، 6/12/2002م.
- (18) خطبة الجمعة (70)، 22/جمادى الأولى/ 1423هـ، 3/8/2002م.
- (19) آل عمران: 64.
- (20) خطبة الجمعة (317)، 13 ربيع الأول 1429هـ 21 مارس 2008م.
- (21) خطبة الجمعة (62)، 25 ربيع الأول 1423هـ 7-6-2002م.
- (22) خطبة الجمعة (224)، 13 ذي القعدة 1426هـ 16 ديسمبر 2005م.
- (23) خطبة الجمعة (21)، بتاريخ 5 جمادى الثاني 1422هـ الموافق 24-8-2001م.
- (24) خطبة الجمعة (23)، 19/ جمادى الثاني/ 1422هـ، 7/9/2001م.
- (25) الكافي، ج1، ص32.
- (26) خطبة الجمعة (25)، 3/رجب/1422هـ، 21/9/2001م.
- (27) خطبة الجمعة (162)، 20/ جمادى الأولى/ 1425هـ، 9/7/2004م.
- (28) نهج البلاغة، ج3، ص108.
- (29) خطبة الجمعة (345)، 15/ ذو القعدة/ 1429هـ، 14/11/2008م.
- (30) آل عمران: 85.
- (31) من محاضرات ودروس لسماحة الشيخ، بتاريخ 4/ جمادى الآخرة/ 1408هـ،
- (32) خطبة الجمعة (125)، 23/ جمادى الثاني/ 1424هـ، 22/8/2003م.
- (33) خطبة الجمعة (219)، 8/ شوال/ 1426هـ، 11/11/2005م.
- (34) خطبة الجمعة (44)، 18/ ذو القعدة/ 1422هـ، 1/2/2002م.
- (35) خطبة الجمعة (49)، 23/ ذو الحجة/ 1422هـ، 8/3/2002م.
- (36) آل عمران: 19.
- (37) دراسات وبحوث: ثورةٌ أُمٌّ وثورةٌ شعاعٌ، مكتب البيان للمراجعات الدينية الالكتروني.
- (38) الإرشاد، ج2، ص39.
- (39) دراسات وبحوث: ثورةٌ أُمٌّ وثورةٌ شعاعٌ، راجع بقية البحث.
- (40) خطبة الجمعة (182)، 3/ ذو الحجة/1425هـ، 4/1/2005م.
- (41) خطبة الجمعة (301)، 14/ شوال/1428هـ، 26/10/2007م.
- (42) خطبة الجمعة (114)، 5/ ربيع الثاني/1424هـ، 6/6/2003م
- (43) خطبة الجمعة (97)، 5/ ذي الحجة/1423هـ، 7/2/2003م.
- (44) الأحكام الشرعية بين الاستبدال وعدمه (حول الأحوال الشخصية)، موقع البيان للمراجعات الدينية الالكتروني.
- (45) خطبة الجمعة (219)، 8/ شوال/ 1426هـ، 11/11/2005م.