في رحاب الزيارة والحج حوار مع سماحة العلامة الشيخ صادق إخوان
ما هو تاريخ الحج في الأديان السابقة؟ وهل كان قبل النبي إبراهيم (عليه السلام) وجود للبيت الحرام أم لا؟
من الواضح أنّ التكلّم عن تاريخ يعود إلى آلاف بل ربما عشرات آلاف السنين -مع إعواز كثير من المصادر من جهة، وتدنيس أيدي التحريف والتدليس المتبقي منها من جهة أخرى ليس سهلا، ولكن القرآن الكريم وبعض الروايات الواردة من رسول الله وعترته الطاهرة (عليهم الصلاة والسلام) تعيننا ولو على سبيل الظن في هذا المجال كرواية أبي إبراهيم وعبد الرحمن بن كثير الهاشمي في حج أبينا آدم، وأن آدم قد جاء البيت ألف أتية؛ سبعمائة حجة وثلاثمائة عمرة، كلها وهو ماش على قدميه، وقد عقد ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني من مفاخر رواة محدثي القرن الثالث الهجري باباً في كتابه الكافي تحت عنوان (باب حج الأنبياء)، فهناك يذكر تحقق الحج في زمن نوح بطوافه وسعيه، بل حتى في رواية مع طواف النساء، أو أن موسى بن عمران (عليه السلام) حج البيت الحرام ومعه سبعون نبياً من بني إسرائيل قائلا: لبيك عبدك وابن عبدك، وفي رواية أخرى أن موسى أحرم من رملة قائلا: لبيك يا كريم لبيك، ومر يونس بن متى وهو يقول: لبيك كشاف الكرب العظام لبيك، ومر عيسى بن مريم وهو يقول: لبيك عبدك وابن أمتك لبيك، وأن داود صعد الجبل في عرفة، ودعا في الناس، وأن سليمان بن داود حج البيت في الجن والإنس والطير والرياح، وكسا البيت، وعن الإمام باقر علم الأنبياء محمد بن على بن الحسين بن على بن ابي طالب (عليه السلام): «صلّى في المسجد الخيف بمنى سبعمائة نبي، وأن ما بين الركن والمقام لمشحون من قبور الأنبياء». وقد ورد أن تحت الميزاب مصلى شبر وشبير ابني هارون.
ولكن الملحوظ أن الحج لم يكن كما هو عليه اليوم، بل حتى ما كان عليه العرب قبل الإسلام، فهو متفاوت من زمان إلى زمان من حيث الشكل؛ كما في قصة نوح يذكر الطواف بالسفينة، وكذلك الأشخاص فمثل موسى حج بالأنبياء، وداود وسليمان بالناس، فالمتيقن أن هذه البقعة المباركة كانت محط التفات خاص من قبل جميع الأنبياء ممن سبق سيدنا إبراهيم (عليه السلام)، أو من تبعه، ولم ينل أي مكان سواه هذه المرتبة السامية. وقد ذكرها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في خطبة القاصعة مشيرا إلى حج الأنبياء:
«وفرض عليكم حج بيته الحرام الذي جعله قبلة للأنام يردونه ورود الأنعام، ويألهون إليه ولوه الحمام()، جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزته.واختار من خلقه سماعا أجابوا إليه دعوته.وصدقوا كلمته.ووقفوا مواقف أنبيائه.وتشبهوا بملائكته. المطيفين بعرشه يحرزون الأرباح في متجر عبادته.ويتبادرون عند موعد مغفرته.جعله سبحانه وتعالى للإسلام علما، والعائذين حرما.فرض حجه وأوجب حقه وكتب عليكم وفادته(2)، فقال سبحانه: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}»(3).
وأما بناء على أن إبراهيم هو الذي بنى البيت فأي شيء كان يحج قبله، فههنا أقوال منها: أن موضع البيت كان يحج ويطاف حوله ومعلوم لدى الأنبياء. ومنها أن البيت قواعده كانت موجودة على عهد آدم وإنما إبراهيم وإسماعيل رفعا القواعد من البيت كما يشير إليه القرآن الكريم {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(4)، و{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ}(5).
كثير من مناسك الحج إن لم يكن كلها، مأخوذة من أفعال صدرت من النبي إبراهيم (عليه السلام) مع ابنه إسماعيل أو زوجته هاجر (عليها السلام)، فما هو سر ذلك، وما هو ربطه بالحج كعبادة؟
إن إبراهيم (عليه السلام) أصبح مثالا دينيا وتأريخيا وإنسانيا للديانات التوحيدية وإنْ كان جميع الأنبياء قبله موحدين داعين إلى عبادة الله وتوحيده، وإنما نال إبراهيم هذا المقام لخصوصيات وميزات تجسدّت في شخصيته وعصره ومواقفه، منها خروجه وتمردّه على أعراف بيئته وقومه بصورة صريحة من دون خوف ولا تقية، قال الله الحكيم: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاّعِبِينَ * قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلا كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}(6).
ومنها إخلاصه واستقامته وعمق إيمانه رشّحه منزلة وهبه الله تعالى إياها، مثل منصب الإمامة وعنوان الأمة {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(7).
ثم ان سيدنا إبراهيم صلوات الله عليه هو الذي أظهر بناء الكعبة وعرّفها لعامة الناس فلا بد أن يسنّ لهم حرمتها وأحكامها ومناسكها. فالحاصل أن إبراهيم (عليه السلام) قد عرف بأنه رمز ومثالُ:
أ. العزوف والتجافي عن كلِّ ما يكون بعيدا عن التوحيد الإلهي.
ب. مباغتة الطغاة وكسر هيمنة وإعتبار اصنامهم.
ج. البرهان والاستدلال القاطع والقامع من دون أي خشية ولا تردّد أمام المدارس الملحدة والظالمة.
د. التضحية والفداء لأغلى وأنفس الأشياء ولو كان ابنه النبي إسماعيل امتثالا لأمر السماء.
فربما في كل هذا إشارات واضحة لكل حاج بأن مناسك الحج جامعة لجميع هذه الجهات اعتقادا وإيمانا وسلوكا وجهادا وتضحية وفداء.
وإحدى مظاهر إمامته العامة التي منحها الله إياه بعد ما ابتلاه بالاختبارات الصعبة جعله الله وقومه أسوة للمؤمنين {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}(8).
لماذا كانت قريش وأهل مكة يحترمون البيت الحرام ويقدسونه مع أنهم مشركون يعبدون الأصنام؟
من الطبيعي أن البيت الحرام المقدس أصبح رمزا تاريخيا لهم يفتخرون به على غيرهم، وهذه المفاخرة قد استمرت إلى ما بعد الإسلام، فمثل الفرزدق القرشي يفتخر على جرير بالكعبة قائلا:
إن الذي سمك السماء بنى لنا
بيتا دعائمه أعز وأقوم
وقد جعلوا أصنامهم داخله وفوقه، وما من موضع في المسجد الحرام وملحقاته كالصفا والمروة إلا زرعوا فيه ما يرتبط بأصنامهم من الأوثان والأنصاب والأزلام وغيرها من الأرجاس. ومع كل هذا إنما كانت العرب في الجاهلية مشركة تؤمن بالله، مشركة به ومنكرة المعاد لا أنهم ملاحدة منكرين لأصل وجود الله (سبحانه وتعالى).
هذه من ناحية ومن ناحية ثانية توجه العرب إلى مكة كان يدر لسكان مكة وبالأخص الأثرياء والتجار منهم الربح الكثير، فمصالحهم المادية من جانب والاحتفاظ بحق الأسبقية من حيث السلطة السياسية والمركزية الاجتماعية لقريش باعتبار أنهم سدنة الكعبة من جانب آخر. والقرآن الكريم يشير إلى هذه الظاهرة رافضا العادات والموازين المتحكمة في الجاهلية بقوله عز من قائل: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ * أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}(9).
ما هي أسرار الحج، وما الذي يميز الحج عن غيره من العبادات الأخرى؟ وهل هناك روايات تشير إلى ذلك؟
إضافة إلى ما أشرنا يمكن ذكر المميزات التالية:
1- محورية الحج والكعبة للعبادة العالمية من غير فرق بين شرائح وطبقات البشر، قال المولى الحكيم: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}(10)، {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}(11)، {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً… وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}(12).{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}(13)، فالملحوظ في هذه الآيات الخمس وغيرها من الآيات والأخبار ثلاثة أمور:
أ- أن المجعول لهم والمقصودين عامة الناس.
ب- أن البيت يؤدي إلى البركة والأمان، وبالنهاية إلى هداية الناس (العالمين).
ج- أن المقصودين لم يكونوا عامة الناس بعد نزول القرآن الكريم، بل حتى من سبقهم لأن الخطاب لإبراهيم وإسماعيل (عليها السلام).
2- الحج سبب لنهوض الأمه لأجل محو الأمية والجهالة والوقوف أمام المظاهر الشيطانية وإعلان البرائة منها كما فعل ابراهيم (عليه السلام) وقومه. فنحن إذا تلونا القرآن الكريم نلاحظ أن الله تعالى جعل غايةَ إرسال الرسل وإنزال الكتب والقوانين قيامَ الناس بالقسط، {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(14)، وكذلك جعل الله الغاية من الكعبة القيام قائلا عز من قائل: {جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ}(15)، وهذا القيام لم يكن إلا بإحياء السنة الواجبة المفروضة على جميع الرجال والنساء والكبار والصغار وهي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي بإحيائها نحمي الإسلام من المخاطر وقد قال الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): «لايزال الدين قائما ما قامت الكعبة»(16)
3- بالحج تنار للمؤمنين مصابيح ربما لم يحصل عليها المؤمن في غيرها، ولا يبعد أن يشير إلى هذا السر قولُه تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ}(17)، والإمام الصادق (عليه السلام) يفسر قوله تعالى: {وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً}(18)، بأنه «ذلك الذي يسوف نفسه الحج، يعني حجة الإسلام حتى يأتيه الموت»(19)، وكذلك يروي معاوية بن عمار عن الإمام الصادق حول غني ثري قد استطاع للحج ولم يؤده فالإمام الصادق (عليه السلام) يقول: «فهو ممن قال الله تعالى عنه: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}(20)، أعماه الله عن طريق الحق»(21).
4- فباعتبار أن الحج دعوة من الله إلى زيارة بيته فلا بد للإنسان أن يتحلى بما يرتضيه ويستحليه صاحب البيت، ويتجانس مع أجواء الدعوة الزيارة الداعي والمزور (صلّى الله عليه وآله)، والوقوف في منازل العبودية والطاعة، والتخلص من أوساخ الشهوات والمادة، ويقف على مرتبة {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(22)، فيسعى قبل الحج مقدمة لتوفير هذه الشروط وفي الحج عزما على إبقائها واستدامتها.
5- السير إلى الله: فهذا كل الأسرار مختبية فيه، فلا بد أن يعلم كل إنسان إنا لله وإنا إليه راجعون، وما من شيء إلا بأمره وإذنه، وأن مقاليد كل شيء بيده، وهذا الخلق إنما خلق للعبادة التي مظهرها المعرفة وباطنها الصعود والترقي والاستكمال، {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}، وهذا السير والمسير والسائر له شروطه وشؤونه الخاصة التي لا بد للعبد في مدرسة العبادة والطاعة والعرفان أن يستحصلها بحسب قابليته وقدرته الامكانية.
وأما الروايات فكثيرة منها ما ذكرناها من خطبة القاصعة في نهج البلاغة، ومنها ما يرويه محمد بن علي بن بابويه الصدوق في أماليه: ابن مسرور، عن ابن عامر، عن عمه، عن محمد بن زياد، عن الفضل بن يونس قال: أتى ابن أبي العوجاء الصادق (عليه السلام) فجلس إليه في جماعة من نظرائه، ثم قال: له يا أبا عبد الله إن المجالس أمانات، ولا بد لكل من كان به سعال أن يسعل فتأذن لي في الكلام؟ فقال الصادق (عليه السلام): تكلم بما شئت، فقال ابن أبي العوجاء: إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحجر، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر، من فكر في هذا أو قدر، علم أن هذا فعل أسسه غير حكيم ولا ذي نظر، فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك أسه ونظامه؟ فقال الصادق (عليه السلام): «إن من أضله الله وأعمى قلبه استوخم الحق فلم يستعذبه، وصار الشيطان وليه، يورده مناهل الهلكة ثم لا يصدره، وهذا بيت استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثهم على تعظيمه وزيارته، وقد جعله محل الأنبياء وقبلة للمصلين له، فهو شعبة من رضوانه وطريق يؤدي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال ومجتمع العظمة والجلال، خلقه الله قبل دحو الأرض بألفي عام، وأحق من أطيع فيما أمر، وانتهي عما نهي عنه وزجر، الله المنشئ للأرواح والصور»(23).
ماذا يجب على الحاج أن يفعله قبل وأثناء الحج، حتى يستفيد من هذه السفرة العبادية؟
يجب على الذي يريد أن يسافر للحج أن يعد نفسه إعدادا روحيا بأنه قد دعي من قبل الله ورسوله لجهاد هو أعظم من قتال أشجع الشجعان، وأقوى الترسانات، إنما هو جهاد أعدى الأعداء أي النفس «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك»(24)، وهذا هو الجهاد الأكبر، فأنت أيها الحاج مهاجر إلى الله ورسوله، {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى}(25)، فلنصفي جميع ديوننا، أولا ديوننا لأنفسنا لأننا بأعمالنا السيئة قد احتطبنا لأنفسنا حطبا ولهيبا، {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}(26)، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، ثم حقوق الناس ممن أساء إليهم، أو لا سمح الله اغتصب حقوقهم، أو أكل تراثهم، أو سبب عروض خسارة أو مضرة لهم، وثم العهد والميثاق الوثيق مع الله تعالى بأن يكون إنسانا متفاوتا نوعا ممن يرتضيه الله لوفادته.
كيف يمكن للحاج أن يحافظَ على ما استفاده من الحج بعد رجوعه إلى بلده، خصوصا أنه قد لا يوفق للحج مرة أخرى؟
أنا أكتفي بهذه الجملة: أيها الحاج عند إكمال مناسكك كما ورد في الحديث الشريف ستكون كمن ولدتك أمك، فكم ساعة أو يوم أو إسبوع وشهر وسنة تتمكن أن تحتفظ على هذا العطاء والنتاج، وإلا نستجير بالله ستكون أعمالنا كسراب بقيعة نحسبها ماء ونكون من مصاديق {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}(27). إذن فرضنا أن نحاول المحافظة والحماية عن هذا العطاء و النتاج.
في المستدرك، عن فقه الرضا (عليه السلام) عن النبي (صلّى الله عليه وآله): «ومن حج ولم يزرني فقد جفاني»، لماذا هذا الربط بين تمامية الحج وزيارة النبي (صلّى الله عليه وآله)؟ وكذلك زيارة قبور أئمة البقيع (عليهم السلام)، ولماذا إصرار المسئولين في مقبرة البقيع على إبعاد الناس عن زيارتهم ومعرفتهم؟
حيث إن دين الله لم يعرف إلا برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولولاه ولولا تفسيره للقرآن الكريم وحديثه وسنته وما ورَّثَه من التراث العلمي الغني لأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين لما كان للدين أي مصداقية، ولهذا (سبحانه وتعالى) أمرنا بتوقيره وجعل تبعيته سبباً لجلب محبته (سبحانه وتعالى): {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}(28)، وجعل دعوته سببا لحياة الروح والأمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}(29)، وقد قرن الله طاعته بطاعته {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}(30).
ومن أهم الأسرار في زيارة المدينة المنورة استحضار واستعراض الأحداث التي اتفقت مع ميلاد أول دولة إيمانية في الجزيرة العربية للتعلم والاعتبار، فإنما هي رحلة مدرسية، فالحج رحلة معرفية إيمانية تعليمية في كل أجزائها الواجبة والمستحبة.
وكذلك للمؤمن في المدينة المنورة بصمات جميع البطولات التي قام بها أبطال الأمة وروادها من الصحابة والتابعين، أولئك المدافعين عن القيم الإيمانية، ولم تأخذهم في الله لومة لائم، الذين بذلوا الغالي والنفيس لكي يصل هذا الدين إلينا.
جميع المعالم والمشاعر في مكة والمدينة من البيت والحطيم ومنى وعرفات والمشعر الحرام والصفا والمروة وجميع أزقة المدينة ومسجدها وبقيعها، واحدها يحيي الجهود الجبارة والمظلومية التي لا مثيل لها التي تحملها أهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) الثقل الأصغر المودع القرآن المجسم، فإبعاد الأمة بشتى الوسائل عن هذه المعالم لم يخدم الا أعداء الأمة، ولا يجلب للأمة إلا الازدياد من الخسران والوبال، فنسأل الله العلي القدير أن يجعلنا ممن ثبتنا الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وألا يجعلنا ممن بدلوا نعمة الله وأحلوا قومهم دار البوار.
في الآونة الأخيرة (في بعض البلدان) كثرت زيارة النبي (صلّى الله عليه وآله) من دون الذهاب إلى مكة المكرمة للاعتمار رغم عدم صعوبة الجمع بين الاعتمار وزيارة النبي (صلّى الله عليه وآله)، ما هو رأيكم في ذلك؟
يقينا ترك الاعتمار مع القدرة عليه، وماله من الفضل العظيم، فهذا هو الجفاء الأكبر أن يصل إلى المدينة ويحرم نفسه من الكعبة وطوافها وتلك الآيات البينة حولها، والأمن والإيمان الحاصل بدخولها.
كثيرا ما يحصل تعارك بين أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، وبين الموظفين في الحرمين الشريفين، وقد تؤدي إلى السجن وما شابه، فما هي نصيحتكم لأتباع أهل البيت (عليهم السلام) لتجنب ذلك؟
أهمُّ سدِّ أمام المخططات الصهيونية اليوم هي حفظ وحدة المسلمين، وأنا أؤمن من صميم نفسي أن أغلب المحاولات التي تصدر من الفريقين لشق الوحدة وإحداث العراك والتقابل إنما يخدم أولا وبالذات أعداء الله ورسوله وأهل البيت (عليهم السلام)، وقد ثبتت أمارات بينة الأيدي الخبيثة الاستعمارية لشق وحدة المسلمين.
فكيف والحج لأجل الوحدة، ونحن نساهم في شقها، وكسر دعائمها، والمواجهة مع مشرعها، هؤلاء أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم ينادون إلى مستوى “أن الصلاة خلفهم كالصلاة خلف رسول الله (صلّى الله عليه وآله)”، ومراجعنا حفظهم الله يحثوننا على ذلك، وإذا بالشيطان يستغل جهلنا وعواطفنا فيجندنا لنفسه، أعاذنا الله والأمة الإسلامية من الشيطان الرجيم.
هناك إصرار من قبل أتباع أهل البيت (عليهم السلام) على إحياء مراسم يوم البراءة من المشركين، لماذا ذلك؟
إنما حجنا حج إبراهيمي ومحمدي، وشعار سيدنا إبراهيم ورسول الله صلوات الله عليهما وآلهما كان (الله أكبر)، أي أنه أكبر من كل قوة، ومن كل هيمنة وسلطة، وإيمانا منا بأن الدين الإسلامي كما وعدنا ربنا {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}(31) له الظهور الاعتقادي والثقافي والعلمي والسياسي والاقتصادي والعسكري على جميع التيارات والأحزاب والفئات والأجندة.
فمناسك الحج أكبر مؤتمر عالمي شعبي إيماني يحضره الملايين من شتى أنحاء المعمورة ليشهدوا منافع لهم، وأي منفعة وفائدة تعود للمسلمين أعظم من استرجاع عزهم وسلطة دينهم، والوصول إلى المفاخر والمقامات العليا التي جعلها الله لعباده، وهذا لا يمكن الوصول إليه إلا برفع الصوت بإعلان البرائة من جميع القوى الشيطانية المساهمة في تحقير المسلمين ومسخهم الثقافي، وتفسيق شبابهم وفتياتهم، ونهب ثرواتهم، وكسر عزتهم، واحتلال بلدانهم، وقتل وسجن وتعذيب وتشريد أبناءهم.
فنحن نعلم أن كلمة التوحيد تبدأ بالبرائة (لا إله) وهي الأساس والدعامة التي بها تبني مصداقية الأمة، وأنا أعجب من عجز دولنا مع ما تمتلك من ثروات هائلة، ونسبة سكانية كثيرة كفوءة قوية، ومع ما لها من ادعاءات، لم تتمكن إلى الآن من استرجاع شبر من أرض الإسلام المحتل فلسطين المسلمة، ولا أنسى الكلمة الخالدة لفخر الأمة الإسلامية ورمزها أمامها الإمام الخميني الكبير: “لو أن كل مسلم صب في إسرائيل كفة ماء لغرقت”، فلماذا يمنعون من أن يبدوا مواقفهم الشريفة، فالمسلمون اليوم محرومون من المقابلة والمواجهة العملية واللسانية تجاه أعدائها لاسترجاع كرامتها وعزتها وإلى الله المشتكى، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
المصادر والهوامش
- (1) أي يفزعون إليه ويلوذون به ويعکفون عليه.
- (2) الوفادة: الزيارة.
- (3) نهج البلاغة، شرح عبده، ج1، ص27.
- (4) البقرة 127.
- (5) الحج 26.
- (6) الأنبياء 51 – 60.
- (7) النحل 120 – 124.
- (8) الممتحنة 4.
- (9) التوبة 17 – 22.
- (10) آل عمران 96.
- (11) الحج 27.
- (12) البقرة 125.
- (13) الحج 25.
- (14) الحديد 25.
- (15) المائدة 97.
- (16) تفسيرالعياشي ج 1:ح99، والكافي ج5 ص414.
- (17) آل عمران 97.
- (18) الإسراء 72.
- (19) الكافي ج4 ص 268.
- (20) طه 124.
- (21)وسائل الشيعة ج11 ص25.
- (22) المائدة 27.
- (23) أمالي الصدوق ص 616 طبعة الإسلامية، وروي الحديث في علل الشرائع ص 403.
- (24) بحار الأنوار، ج67، ص64.
- (25) النساء 100.
- (26) التحريم 6.
- (27) الكهف 104.
- (28) آل عمران 31.
- (29) الأنفال 24.
- (30) النساء 59.
- (31) التوبة 33.