نظرة حول سورة براءة – القسم الثاني
تمهيد
تقدم في القسم الأول الحديث عن ظروف نزول سورة براءة، وتبليغها لمشركي مكة من قبل علي (عليه السلام)، وتحدثنا عن بعض الآيات المتعلقة بقتال المشركين، والبراءة منهم، وأن لا وجود لهم بعد هذه السورة، فطهرت الأرض الإسلامية منهم.
وبعد هذه المرحلة المهمَّة بدأ النبي (صلَّى الله عليه وآله) للتحضير لقتال الروم الذين كانوا يهددون البلاد الإسلامية، ولكن ابتلي (صلَّى الله عليه وآله) بالمنافقين من أصحابه، ومن الطلقاء الذي دخلوا الإسلام خوفاً ونفاقاً، وقد ذكرت هذه السورة الكثير من المنافقين وخططهم ضدَّ الإسلام.
وسنلاحظ بشكل واضح أنَّ الحديث عن المنافقين يقابله دائماً الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولا تخلوا الآيات من بيان فضله ومنزلته، وقد ورد في كتب الفريقين متواتراً أنَّ علامة النفاق بغض علي (عليه السلام)، ونقل هذا عن مجموعة كبيرة من الصحابة منهم أبي ذر، وزيد بن أرقم، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله الأنصاري، فعن عبد الله بن عمر: “والله، ما كنا نعرف المنافقين في زمان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) إلا ببغضهم علياً (عليه السلام)”(1).
وعن أبي ذر (رضي الله عنه): “ما كنا نعرف المنافقين إلا بتكذيبهم الله ورسوله، والتخلّف عن الصلوات، والبغض لعلي بن أبي طالب. “هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه”(2).
وسنكتفي في الحديث بالتعرض لبعض الآيات، ولن نذكر كلَّ ما ذكرته السورة من صفات المنافقين، لأنَّ ذلك لا يناسب المقام.
حركة النفاق زمن النبي (صلَّى الله عليه وآله)
مسألة النفاق لم لتكن خفية زمن النبي (صلَّى الله عليه وآله)؛ بل كان يعرفها الناس لما نزل من آيات كسورة المنافقين، ولما صدر من مواقف بعض المنافقين، سواء من أسلموا بعد فتح مكة -حيث بقي بعضهم على شركه، كما أشير إليه في القسم الأول، وبعضهم أظهر الإسلام حيث لم يجد سبيلا إلا ذلك كأبي سفيان وابنه معاوية- أو من أسلم قبل ذلك، وهناك أيضاً من أهل المدينة مردوا على النفاق، وقد اتهم بعضهم بعضاً بالنفاق، كما في قصة الإفك حسب نقل العامة؛ حيث قال أسيد بن خضير لسعد بن عبادة: “إنَّك منافق تجادل عن المنافقين فثار الحيان الأوس والخزرج”(3)، وفي قصة حاطب بن بلتعة الآتية، حيث قال عمر للنبي : “دعني اضرب عنقه فإنّه قد نافق”(4).
ظهور النفاق بعد رحيله (صلَّى الله عليه وآله)
وهناك مجموعة ليست قليلة عرفت بالنفاق زمن النبي (صلَّى الله عليه وآله)، وكثير من المنافقين لم يعرفهم الناس زمن النبي (صلَّى الله عليه وآله)، بل أظهروه بعد رحيله (صلَّى الله عليه وآله)، وهذا ما تشير إليه الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها للقوم: «حتى إذا اختار الله لنبيه دار أوليائه ومحل أنبيائه، ظهرت حسكة (حسيكة) النفاق، واستهتك جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الآفلين، وهذر فنيق المبطلين يخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه صارخاً بكم، فوجدكم لدعائه مجيبين، ولعزمه متطاولين، واستنهضكم فوجدكم خفافاً، وأحمشكم فألفاكم غضاباً، فوسمتم غير إبلكم، ووردتم غير شربكم، هذا، والعهد قريب والكلم رحيب، والجرح لمّا يندمل [والرسول لمّا يقبر]. حذراً زعمتم خوف الفتنة، ألا في الفتنة سقطوا، وإن جهنم لمحيطة بالكافرين»(5). وروي أنَّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) قال للزهراء (عليها السلام): «فأنت أول من تلحقين بي مظلومة مغصوبة، وسوف تظهر بعدي حسيكة النفاق ويَسْمُلُ جلباب الدين»(6).
والعجب أنّ القوم قلبوا المسألة، فحكموا بردّة كلّ من خالفهم، وأباحوا قتالهم، فرووا عن أنس بن مالك قال: “لما توفي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ارتدّت العرب، فقال عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل العرب، فقال أبو بكر: إنما قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، والله لو منعوني عناقاً كانوا يعطون رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لقاتلتهم عليه، قال عمر: فلمَّا رأيت رأي أبي بكر قد شرح علمت أنّه الحق”(7)؟!!!.
ورووا عن قتادة قال: “لمَّا مات رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ارتدّت العرب إلا ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد البحرين”(8)، وارتداد الشخص بمجرد رحيل النبي (صلَّى الله عليه وآله) يعني أنه لم يكن مؤمناً حقاً قبل ذلك، بل يدلّ على نفاقه، فالحكم بالارتداد هو حكم بالنفاق، مع العلم أننا نتكلم عن الذين عاشوا زمن النبي (صلَّى الله عليه وآله)، أي كانوا من الصحابة الأجلّاء!!
بل في مجمع الزوائد عن عائشة أنَّها قالت: “قبض رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فارتدّت العرب، واشرأب النفاق، فنزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها، قالت: فما اختلوا في نقطة إلا طار أبي بحظها وساعها، ثمّ ذكرت عمر بن الخطاب فقالت: كان والله أجوذيا نسيج وحده قد أعدَّ للأمور أقرانها”(9).
وعلى كل حال روى البخاري عن ابن أبي مليكة قوله: “أدركت ثلاثين من أصحاب النبي (صلَّى الله عليه وآله) كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنّه على إيمان جبريل وميكائيل”(10).
وعن إبراهيم عن الأسود قال: “كنّا في حلقة عبد الله، فجاء حذيفة حتى قام علينا، فسلَّم، ثمّ قال: لقد أنزل النفاق على قوم خير منكم، قال الأسود: سبحان الله، إنّ الله يقول: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}، فتبسم عبد الله، وجلس حذيفة في ناحية المسجد، فقام عبد الله، فتفرّق أصحابه، فرماني بالحصى فأتيته، فقال حذيفة: عجبت من ضحكه، وقد عرف ما قلت، لقد أنزل النفاق على قوم كانوا خيراً منكم ثمّ تابوا فتاب الله عليهم”(11). وكأنَّ حذيفة يريد أن يقول: ولكنكم لم تتوبوا من النفاق.
بعض صفات المنافقين والمتخاذلين
تقدم في القسم الأول أنَّ هذه السورة سميّت بعدة أسماء؛ منها الفاضحة لفضحها المنافقين، وقد ورد فيها قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ}(12).
ومن يقرأ هذه السورة المباركة يتبيّن له بوضوح البلاء الذي كان يعيشه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، والأذية التي كان يتلقاها من المنافقين، ومن أصحابه المتخاذلين.
ونحن نختار بعض المقاطع من هذه السورة المباركة التي نزلت في مجموعة من الصحابة، أعمَّ من ثبوت نفاقهم وعدمه، وأعمّ من توبتهم وعدمه، وبعض الآيات تصرّح بالنفاق، وبعضها تذكر صفاتهم. مع الالتفات إلى أنَّ نزول آية في واقعة معينة، أو أشخاص معينين يدلّ على أهمية تلك الحادثة، سواء كانت خيراً أم شراً.
ونذكر هنا مجموعة من العناوين يمكن استخلاصها من الآيات المباركات:
الأول: التفاخر
قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(13).
اتفقت الروايات على أنَّ المقصود ب{مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ…} هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وبعض الروايات أدخلت معه جعفر الطيار وحمزة، وتعددت في المقصود بسقاية الحاج وعمارة المسجد، فذكرت بعضها العباس وشيبة أو عثمان بن أبي شيبة وبعضها طلحة بن شيبة، وفي بعضها معهم جعفر وحمزة(وهو بعيد جداً، والأكثر أنها في العباس وشيبة، وتعددت في سبب نزول الآية، إلا أنّها اتفقت أنّ السبب هو التفاخر بعمارة البيت الحرام وسقاية الحاج، فجاء أنَّ العباس قال: أنا أفضل؛ لأنَّ سقاية الحاج بيدي، وقال شيبة: أنا أفضل لأن حجابة البيت بيدي،… وقال علي: «أنا أفضل آمنت قبلكم ثم هاجرت وجاهدت»، فرضوا برسول الله (صلَّى الله عليه وآله) حكماً، فأنزل الله الآية.
وفي بعضها، إن علياً (عليه السلام) قال للعباس: يا عم ألا تهاجر؟ ألا تلحق برسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فقال: ألست في أعظم من الهجرة؟ أعمر المسجد الحرام وأسقي حاج بيت الله، فنزل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
وفي بعضها: بينا شيبة والعباس يتفاخران إذ مرّ بهما علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: «بماذا تتفاخران؟» فقال العباس: لقد أوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد سقاية الحاج، وقال شيبة: أوتيت عمارة المسجد الحرام، فقال علي (عليه السلام): «استحييت لكما، فقد أوتيت على صغري ما لم تؤتيا» فقالا: وما أوتيت يا علي؟ فقال: «ضربت خراطيمكما بالسيف حتى آمنتما بالله»، فقام العباس مغضباً يجرُّ ذيله حتى دخل على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وقال: أما ترى إلى ما استقبلني به علي؟ فقال: «ادعوا لي علياً»، فدعي له فقال: «ما دعاك إلى ما استقبلت به عمَّك؟» فقال: «يا رسول الله؛ صدمته بالحقِّ فمن شاء فليغضب، ومن شاء فليرض»، فنزل جبرئيل وقال: «يا محمد ربك يقرئك السلام ويقول: أتل عليهم: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} الآيات، فقال العباس: إنّا قد رضينا، ثلاث مرات»(14).
وورد عن أبي ذر الغفاري أنَّ علياً (عليه السلام) احتجَّ على أهل الشورى قائلاً: «إني أحبُّ أن تسمعوا مني ما أقول، فإن يكن حقاً فاقبلوه، وإن يكن باطلاً فأنكروه». قالوا: قل. قال: «أنشدكم بالله -أو قال: أسألكم بالله- الذي يعلم سرائركم، ويعلم صدقكم إن صدقتم، ويعلم كذبكم إن كذبتم،… فهل فيكم أحد نزلت فيه هذه الآية: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إلى آخرها، {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} إلى آخر ما اقتص الله (تعالى) من خبر المؤمنين غيري؟» قالوا: اللهم لا»(15). والرواية طويلة جدا أخذنا منها موضع الحاجة.
الثاني: الفرار من الزحف
قوله تبارك وتعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}.
الآية المباركة تتحدَّث عن نفسيات المسلمين في الحرب ضدَّ المشركين، ولا تخلوا من إشارات إلى عالم النفاق الذي استولى على بعضهم، وأنّ الهدف لديهم لم يكن حماية الدين، وأنَّ اعتمادهم ليس على الله تعالى، خصوصاً ما يأتي من الروايات الواردة في تفسير الآية.
ويُفهم من بعض الروايات أنَّ هذه المعركة وقعت بعد فتح مكة مباشرة، فقد روى القمي في تفسيره سبب نزول الآية خلاصتها:
“لما خرج رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) إلى فتح مكة أظهر أنه يريد هوازن، وبلغ الخبر هوازن، فتهيؤوا وجمعوا الجموع والسلاح، وساقوا معهم أموالهم ونساءهم ونزلوا بأوطاس،… وبلغ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ذلك فجمع القبائل، ورغبهم في الجهاد، ووعدهم النصر، وأنَّ الله قد وعده أن يغنمه أموالهم ونساءهم وذراريهم؛ فرغب الناس وخرجوا على راياتهم، وعقد اللواء الأكبر ودفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، وخرج في اثني عشر ألف رجل، عشرة آلاف ممن كانوا معه، فلمّا صلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) الغداة انحدر في وادي حنين، وكانت بنو سليم على المقدمة فخرجت عليها كتائبُ هوازن من كلِّ ناحية فانهزمت بنو سليم وانهزم من ورائهم ولم يبق أحد إلا انهزم، وبقي أمير المؤمنين (عليه السلام) يقاتلهم في نفر قليل، ومرَّ المنهزمون برسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لا يلوون على شيء، فأقبل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ينادي: «يا معشر الأنصار إلى أين المفر؟ ألا أنا رسول الله»، فلم يلو أحد عليه، وكانت نسيبة بنت كعب المازنية تحثو التراب في وجوه المنهزمين وتقول: أين تفرون عن الله وعن رسوله؟ ومرّ بها عمر، فقالت له: ويلك ما هذا الذي صنعت؟ فقال لها: هذا أمر الله، فلمّا رأى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) الهزيمة ركض يحوم على بغلته قد شهر سيفه، فقال: يا عباس، اصعد هذا الطرب، وناد يا أصحاب البقرة! ويا أصحاب الشجرة! إلى أين تفرون هذا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله). ثمَّ رفع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يده فقال: «اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان»، فنزل جبرئيل (عليه السلام) عليه، فقال له: «يا رسول الله؛ دعوت بما دعا به موسى حين فلق الله له البحر ونجاه من فرعون»، ثمَّ قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لأبي سفيان بن الحارث: «ناولني كفاً من حصى»، فناوله، فرماه في وجوه المشركين، ثم قال: «شاهت الوجوه» ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد، وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد»، فلمَّا سمعت الأنصار نداء العباس عطفوا وكسروا جفون سيوفهم وهم يقولون: لبيك، ومرّوا برسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، واستحيوا أن يرجعوا إليه ولحقوا بالراية، فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) للعباس: «من هؤلاء يا أبا الفضل؟، فقال: يا رسول الله هؤلاء الأنصار، فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «الآن حمي الوطيس»، ونزل النصر من السماء، وانهزمت هوازن”(16).
وهذه الرواية تشهد للعباس ثباته في المعركة.
وهنا تساؤلات عدَّة تستوقف القارئ لهذه المعركة:
1- إنَّ ترغيب النبي (صلَّى الله عليه وآله) لهم للقتال بحصولهم على الغنائم، ووعدهم النصر، كان هو السبب الرئيس للمشاركة، وهذا أيضاً حصل في معركة تبوك التي وقعت بعد هذه المعركة، وسيأتي الحديث عنها، والمؤمن الصادق لا يحتاج إلى كلَّ هذا الترغيب.
2- في أوّل جولة خسر فيها المسلمون فرَّوا من المعركة، مع أنَّ الحرب كرّ وفر، ثمَّ أين اليقين بوعد الله ورسوله بالنصر.
3- لو افترضنا عدم العلم واليقين بالنصر، أليس الفرار من الزحف من الكبائر؟ {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}، {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا}(17).
وعلى فرض كون ذلك ليس ذنباً، أين الفداء لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، حيث تركوه لا يلوون على شيء وهو يناديهم ويستنصرهم، وكان هذا الفرار عاراً عليهم، ونقل الشيخ المفيد أنّه “لم يبق منهم مع النبي (صلَّى الله عليه وآله) إلا عشرة أنفس: تسعة من بني هاشم خاصَّة، وعاشرهم أيمن بن أم أيمن، فقتل أيمن (رحمه الله) وثبت تسعة النفر الهاشميون، وأنّ كافة الناس قد ولوا مدبرين”(18).
وقد روى البخاري عدَّة روايات تدلُّ على تعجّب من لم يحضر المعركة من هذا الفرار، وأنَّه أصبح حديث الناس، فقد روى عن أبي إسحاق قال: “سمعت البرَّاء -وجاءه رجل- فقال: يا أبا عمارة؛ أتوليتَ يوم حنين؟ فقال: أمَّا أنا فأشهد على النبي (صلَّى الله عليه وآله) أنّه لم يول». وعنه أيضاً: «قيل للبراء -وأنا اسمع- أوليتم مع النبي (صلَّى الله عليه وآله) يوم حنين؟ فقال: أما النبي (صلَّى الله عليه وآله) فلا»، وفي نقل ثالث «سأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لم يفر، كانت هوازن رماة، وإنّا لمّا حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم، فاستقبلنا بالسهام”(19).
4- الآية تقول: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}، وكان الإعجاب بالكثرة وعدم الاعتماد على الله سبباً للهزيمة، كما ذكرته كتب التفاسير.
وأما القائل لهذه الكلمة، ففي تفسير العياشي: عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله الله تعالى {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} إلى {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} فقال: أبو فلان(20).
واختلف في قائل هذه الكلمة، وفي أكثر التفاسير من الخاصة والعامة أنَّ القائل أبو بكر(21)، قال الشيخ المفيد: “وأعجب أبا بكر الكثرةُ يومئذ فقال: لن نغلب اليوم من قلّة، فكان الأمر في ذلك بخلاف ما ظنّوه، وعانهم أبو بكر(أي أصابهم بالعين) بعجبه بهم. فلمَّا التقوا مع المشركين لم يلبثوا حتى انهزموا بأجمعهم”(22). وقد استاء النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) من هذه الكلمة كما عن الرازي والآلوسي وغيرهما(23).
ولكن العجب العجاب -والذي يتكرَّر في مثل هذه الأمور؛ فيخرج بعضهم عن الموضوعية عندما يتعلّق الأمر بأحد أئمتهم- أنَّ بعضهم نسب هذه الكلمة إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)؟!!! ففي تفسير الرازي: “قال رجل من المسلمين: لن نغلب اليوم من قلة، فهذه الكلمة ساءت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وهي المراد من قوله: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ}، وقيل: إنّه قالها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وقيل قالها: أبو بكر، وإسناد هذه الكلمة إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بعيد؛ لأنّه كان في أكثر الأحوال متوكلاً على الله منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها”(24). ونحن نقول إنّ إسنادها إلى رسول الله كفر به (صلَّى الله عليه وآله).
وحاول الآلوسي -بعد نقل استبعاد نسبتها إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)- أن يهوّن ويبرر لتلك الكلمة بما لا يغني ولا يسمن من جوع(25).
5- بعد أن ناداهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وناداهم العباس رجع الأنصار فقط دون المهاجرين، “فلمَّا سمعت الأنصار نداء العباس عطفوا وكسروا جفون سيوفهم وهم يقولون لبيك”، وفي مجمع البيان: “فلما سمع المسلمون صوت العباس، تراجعوا وقالوا: لبيك لبيك، وتبادر الأنصار خاصة”(26)!!؟ فأين أصحاب الهجرة؟!
6- استغلَّ المنافقون هذه الهزيمة فقد روى ابن هشام عن ابن إسحاق: “فلمّا انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) من جفاة أهل مكة الهزيمة، تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهى هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لمعه في كنانته. وصرخ جبلة بن الحنبل (أو كلدة بن الحنبل) وهو مع أخيه صفوان بن أمية مشرك في المدة التي جعل له رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): ألا بطل السحر اليوم!”(27).
وفي تفسير الثعلبي: “أنّ شيبة بن عثمان قال: استدبرت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يوم حنين وأنا أريد أن أقتله بطلحة بن عثمان، وعثمان بن طلحة، وكانا قد قتلا يوم أحد، فأطلع الله تعالى رسوله على ما في نفسي فالتفت إلي وضرب في صدري وقال: أعيذك بالله يا شيبة، فارتعدت فرائصي فنظرت إليه وهو أحب إلي من سمعي ومن بصري فقلت: أشهد أنك رسول الله، وأن الله أطلعك على ما في نفسي”(28).
الثالث: معركة تبوك والتثاقل عن الجهاد
معركة تبوك، معركة مهمة، وكثير من الآيات الشريفة الآتية تتحدّث عنها وعمّا رافقها من أحداث، وتسهب الآيات الشريفة في وصف نفسيات القوم بالنسبة للجهاد، وتعيّرهم على تقاعسهم وركونهم إلى الدنيا، وبلا شك هي تشير إلى أشخاص معينين وقت نزولها.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (29).
تدلّ الآيتان على تثاقلهم عن الجهاد، وإيثارهم الدنيا على الآخرة، وتتوعدهم بالعذاب والعقاب الشديد، وهذا لا يكون إلا لكون فعلهم معصية عظيمة عند الله تعالى. وقيل إنَّ المقصود هو فئة من المؤمنين وليس جميعهم(30).
أهمُّ المعارك وآخرها:
ذكر أنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) أمر الناس بالخروج إلى غزوة تبوك، وكان في أيام الصيف حين اشتدّ الحرّ، وطابت الثمار والظلال، فكانوا يتثاقلون عن الخروج(31).
قال العلامة المجلسي: “قال المفسرون: لما رجع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم، وذلك في زمان إدراك الثمرات، فأحبُّوا المقام في المسكن والمال، وشقَّ عليهم الخروج إلى القتال، وكان (صلَّى الله عليه وآله) قلَّ ما خرج في غزوة إلا كنَّى عنها وورَّى بغيرها إلا غزوة تبوك لبعد شقتها، وكثرة العدو ليتأهب الناس، فأخبرهم بالذي يريد، فلمَّا علم الله سبحانه تثاقل النّاس أنزل الآية، وعاتبهم على التثاقل”(32).
ويظهر من جوِّ الآيات والروايات المتعرضة لبيان معركة تبوك أنَّها تعتبر معركة مهمة جداً، وبلحاظات عدة، أهمّها أمرين:
أولاً: خطر الروم على الإسلام، ولذلك جهَّز النبي (صلَّى الله عليه وآله) قبيل رحيله عن الدنيا جيش أسامة لغزو الروم، وأمر الجميع بالاشتراك في المعركة، ولمّا رآهم متخاذلين ومتثاقلين، قال: «جهزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلف عن جيش أسامة»(33). والظاهر أنّها امتداد لمعركة تبوك حيث كانت مع الروم. وقد ذكر ابن كثير أنَّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) رجع من تبوك بسبب جهد الناس، وجدب البلاد، وضيق الحال(34).
وثانياً: أنّ هذه المعركة كانت امتحاناً للمؤمنين، وإفرازاً لمجموعة من المنافقين. وهي آخر غزوة غزاها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)(35).
وذكر ابن الأثير أنَّ سبب المعركة “أنَّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) بلغه أنّ هرقل ملك الروم ومن عنده من متنصرة العرب قد عزموا على قصده، فتجهّز هو والمسلمون وساروا إلى الروم، وكان الحرُّ شديداً والبلاد مجدبة، والناس في عسرة، وكانت الثمار قد طابت فأحبَّ الناس المقام في ثمارهم فتجهزوا على كره، فكان ذلك الجيش يسمى جيش العسرة”(36). وقال الواقدي: “كان الناس بتبوك ثلاثين ألفاً، وعشرة آلاف فارس”(37).
خلافة علي (عليه السلام) على المدينة
ولكون المعركة في أرض الشام وهي بعيدة بالنسبة للمدينة، وغالبية المسلمين خرجوا ولم يبق إلا النساء والأطفال والمرضى، وخوفاً من المنافقين المتخلفين عن المشاركة في الخروج ومن المشركين، خلّف النبي (صلَّى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) على المدينة، وهو (عليه السلام) الذي يقول -مناشداً الأنصار وقريش أيام عثمان-: «أنشدكم الله أتعلمون أنّي قلت لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في غزوة تبوك: لم خلفتني مع الصبيان والنساء؟ فقال: إنّ المدينة لا تصلح إلا بي أو بك، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبي بعدي، قالوا: اللهم نعم»(38).
وتخلّفُ علي (عليه السلام) عن المعركة كانت فرصة للمنافقين؛ فقد روي أنّه طعن رجال من المنافقين في تخلفه عن المعركة مع أنه بأمر النبي (صلَّى الله عليه وآله) وقالوا: “إنما خلّفه استثقالاً، فخرج علي (عليه السلام) فحمل سلاحه حتى أتى النبي (صلَّى الله عليه وآله) بالجرف، فقال: «يا رسول الله؛ ما تخلّفت عنك في غزاة قط قبل هذه، قد زعم ناس من المنافقين أنّك خلفتني استثقالاً»، قال: «كذبوا، ولكن خلفّتك لما ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدى»”(39).
الله سبحانه هو الناصر
تقول الآية التالية: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(40).
تشبيه حال النبي (صلَّى الله عليه وآله) -مع وجود هذا العدد الكبير من المسلمين- بحاله عندما خرج من مكة وحيداً يدلّ على التخاذل الذي كان عند أغلب الناس، وفي الآية إشارة إلى أنَّ الله تعالى لا يخذل رسوله الكريم (صلَّى الله عليه وآله)، ولا تخلو الآية المباركة من تعيير المسلمين الذين يفترض أن يطيعوا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ولا يخذلوه، ولا يتثاقلوا في استجابة دعوته.
والآية الكريمة عند التأمل البسيط وملاحظة السياق لا تدلَّ على فضيلة لمن صاحب النبي (صلَّى الله عليه وآله) في الغار وهو أبو بكر، ولكن حاول بعضهم تجييرها لذلك، وهذا ليس خاصاً بالمفسرين المتأخرين عن ذلك العصر، بل نقل عن ابن الكواء المنافق أنَّه قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): “أين كنت حيث ذكر الله تعالى نبيّه وأبا بكر فقال: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ويلك يا ابن الكواء، كنت على فراش رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)»”(41).
وحاول البعض أن يقول بأنَّ قوله تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ}، راجعة إلى أبي بكر، وهناك أجوبة كثيرة على هذا المدعى، أهمَّها أنّ الضمائر في سياق الآية كلها راجعة إلى النبي (صلَّى الله عليه وآله)(42). وقد أجاد مجموعة من مفسري علمائنا في الردِّ على ذلك(43). بل ربما تدلَّ الآية على خلاف ما رامه القوم، نطوي الحديث عنه.
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أقبل يقول لأبي بكر في الغار: أسكن فإنَّ الله معنا، وقد أخذته الرعدة وهو لا يسكن، فلمَّا رأى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) حاله قال له: تريد أن أريك أصحابي من الأنصار في مجالسهم يتحدّثون فأريك جعفراً وأصحابه في البحر يغوصون؟ قال: نعم، فمسح رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بيده على وجهه؛ فنظر إلى الأنصار يتحدّثون، ونظر إلى جعفر (عليه السلام) وأصحابه في البحر يغوصون»(44).
الرابع: المشاركة في المعارك لأجل الغنائم
{لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(45).
وتشير هذه الآية المباركة إلى حقيقة أخرى مهمَّة عن المنافقين غير التخلَّف والتثاقل عن الجهاد، وهي أنَّ مشاركتهم في بقية المعارك إنما لأجل العَرَض القريب من الغنائم، وما يطمع فيه من المال، ويكون سهلاً في الحصول عليه(46). وهذا يعني أنّ مشاركاتهم السابقة في معارك أخرى لم تكن لأجل الدين، مما يدلُّ على أنَّه ليس كلّ من شارك النبي (صلَّى الله عليه وآله) في الجهاد دلَّ على حسن نيته، ومعركة تبوك أظهرت الأمور على حقائقها.
وتدلُّ الآية التي بعدها وهي قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}، على أنَّ هناك مجموعة استأذوا النبي (صلَّى الله عليه وآله) في القعود فأذن لهم، وعاتبه الله على ذلك، وبعض العامة قال بأنّ الآية تدلّ على وقوع الذنب منه (صلَّى الله عليه وآله)، وأجاب الشيخ الطوسي (رحمه الله) على أنَّ ذلك من ترك الأولى(47). وفسّر صاحب الميزان الأولوية بأنَّ: “عدم الإذن أنسب لظهور فضيحتهم، وأنَّهم أحقُّ بذلك لما بهم من سوء السريرة وفساد النية، لا لأنه كان أولى وأحرى في نفسه وأقرب وأمس بمصلحة الدين”(48). ثمَّ أتى ببعض الشواهد على ذلك من الآيات التالية لهذه الآية.
وجاء في جواب الإمام الرضا (عليه السلام) على سؤال المأمون عن هذه الآية فقال (عليه السلام): «هذا مما نزل بإياك أعني واسمعي يا جاره، خاطب الله (عزَّ وجلَّ) بذلك نبيه وأراد به أمته، وكذلك قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وقوله (عزَّ وجلَّ): {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً}»(49). والنتيجة أن الآية تريد فضح المنافقين، لا معاتبة النبي (صلَّى الله عليه وآله) في الحقيقة.
الخامس: الاستئذان للقعود عن القتال علامة المنافقين
{لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ * وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}(50).
والاستئذان للقعود علامة واضحة من علامات المنافقين، غير التثاقل، فهناك من تثاقل ثمَّ شارك، وهناك مجموعة جاءت للنبي (صلَّى الله عليه وآله) واستأذنوه للقعود. وفي المقابل إعداد العدّة علامة الإيمان الذي هو ضدّ النفاق، فالتثاقل، والتهاون، وعدم الاهتمام، أو الاستئذان بالقعود، كلها علامات للنفاق.
ويقول تعالى: {َمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}(51).
وورد أنَّها نزلت في الجد بن قيس عندما دعاه النبي (صلَّى الله عليه وآله) للجهاد، فقد نقل القمي في تفسيره وغيره خطبة النبي (صلَّى الله عليه وآله) في الحثِّ على الجهاد، قال: “فرغب الناس في الجهاد لما سمعوا هذا من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وقدمت القبائل من العرب ممن استنفرهم، وقعد عنه قوم من المنافقين، ولقي رسول الله الجد بن قيس فقال له: «يا أبا وهب! ألا تنفر معنا في هذه الغزاة؟ لعلك ان تستحفد من بنات الأصغر»، فقال: يا رسول الله؛ والله إنّ قومي ليعلمون أنه ليس فيهم أحد أشدّ عجباً بالنساء مني، وأخاف إن خرجت معك أن لا أصبر إذا رأيت بنات الأصفر، فلا تفتني وائذن لي أن أقيم، وقال لجماعة من قومه: لا تخرجوا في الحر، فقال ابنه: ترد على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وتقول له ما تقول! ثمَّ تقول لقومك: لا تنفروا في الحر، والله لينزلن في هذا قرآناً تقرأه الناس إلى يوم القيامة، فأنزل الله على رسوله في ذلك {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} ثمَّ قال الجد بن القيس: أيطمع محمد أن حرب الروم مثل حرب غيرهم، لا يرجع من هؤلاء أحد أبداً”(52). وهناك آيات أخرى من نفس السورةتتحدث عن تخلفهم(53).
وهذه الجرأة من هذا المنافق وغيره على هذا القول لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يدلُّ على الأرضية الخصبة للمنافقين، وانتشارهم بين عموم المسلمين.
وجاء في تفسير قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(54).
نزلت في ثلاثة وهم كعب بن مالك، ومرادة بن الربيع، وهلال بن أمية، حيث تخلفوا عن اللحاق بالنبي (صلَّى الله عليه وآله) بمعركة تبوك، ولم يكونوا من المنافقين، ولكنهم تباطؤوا حتى فاتهم الخروج، ولما رجع النبي (صلَّى الله عليه وآله) قاطعهم وأمر الناس بعدم الحديث معهم، فخرجوا إلى الصحراء طالبين التوبة، فتاب الله عليهم، ونزلت فيهم هذه الآية(55).
وعن كعب بن مالك أنه قال: “وتخلَّفت عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فجعلت أمشي في الأسواق وأطوف بالمدينة فيحزنني أني لا أرى أحداً تخلَّف إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، وكان ليس أحد تخلَّف إلا رأى أنَّ ذلك سيخفى له وكان الناس كثيراً لا يجمعهم ديوان وكان جميع من تخلّف عن النبي (صلَّى الله عليه وآله) بضعة وثمانين رجلاً”(56).
السادس: أصحاب فتنة
{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}(57).
المنافقون ديدنهم نشر الفتنة بين المؤمنين وإيقاع الخلاف بينهم والإشاعات التي تؤدي إلى ضعفهم، وبالتالي غلبة الكفار. و{لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ}(58)، قيل بأنَّ المقصود من قبل يعني “في يوم أحد حتى انصرف عبد الله بن أبي بأصحابه وخذل النبي (صلَّى الله عليه وآله)، وكان هو وجماعة من المنافقين يبغون للإسلام الغوائل قبل هذا”(59).
وقوله تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} قيل في معناه قولان: الأول: فيكم القابلون منهم عند سماع قولهم. والثاني: أنَّ لهم عيون منهم ينقلون أخباركم إلى المشركين(60).
السابع: اتهام النبي (صلَّى الله عليه وآله) في الصدقات
قال (عزَّ وجلَّ): {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ * إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(61).
سبب نزول هذه الآية كما في مجموعة من المصادر هو أنّه عندما حصل المسلمون على غنائم هوازن يوم حنين، وزَّعها النبي (صلَّى الله عليه وآله) على الفقراء وترك الأغنياء، فاحتجَّ بعضهم على ذلك، فقيل أنه اعترض أبو الخويصر حرقوص بن زهير (أصل الخوارج) وقال للنبي (صلَّى الله عليه وآله): اعدل يا رسول الله، فقال: «ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟» فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه، فقال النبي (صلَّى الله عليه وآله): «دعه؛ فإنّ له أصحاباً يحتقر أحدُكم صلاتَه عند صلاتِهم، وصيامَه مع صيامِهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية». ونقل أنَّه قتل في حرب النهروان(62).
وفي تفسير القمي: “إنها نزلت لما جاءت الصدقات وجاء الأغنياء وظنَّوا أنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يقسّمها بينهم، فلمّا وضعها في الفقراء تغامزوا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ولمزوه، وقالوا: نحن الذين نقوم في الحرب ونغزو معه ونقوي أمره ثمَّ يدفع الصدقات إلى هؤلاء الذين لا يعينونه ولا يغنون عنه شيئا”(63). ونقل أيضاً أنها نزلت في أهل الجدة والغنى من المهاجرين والأنصار(64). وعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): «هم أكثر من ثلثي الناس»(65).
ونقل البخاري وغيره أنَّها نزلت في خصوص الأنصار، حيث قسَّم النبي (صلَّى الله عليه وآله) الأموال يوم حنين في المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار شيئاً، فوجدوا على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، فقال لهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) -بعد أنْ ذكرَّهم بكونه سبباً لهدايتهم وألفتهم من الفرقة: -«ألا ترضون أنْ يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي (صلَّى الله عليه وآله) إلى رحالكم…»(66).
وفي نقل آخر عن أنس بن مالك أنَّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) “طفق يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل فقال بعض الأنصار من حديثي السن يغفر الله لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يعطي قريشاً ويترك الأنصار وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «إنى أعطي رجالاً حديث عهدهم بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به»، قالوا: بلى يا رسول الله، قد رضينا، فقال لهم: «إنكم سترون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله (صلَّى الله عليه وآله) على الحوض»، قال أنس: فلم نصبر”(67).
وورد من طرقنا عن الإمام الباقر (عليه السلام) في المؤلفة قلوبهم قال: «المؤلفة قلوبهم؛ أبو سفيان بن حرب بن أمية، وسهيل بن عمرو وهو من بني عامر بن لوي، وهمام بن عمرو وأخوه وصفوان بن أمية بن خلف القرشي ثم الجمحي والأقرع بن حابس التميمي، ثم أحد بن حازم وعيينة بن حصين الفزاري، ومالك بن عوف، وعلقمة بن علاثة، بلغنا أنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) كان يعطي الرجل منهم مأة من الإبل ورعاتها وأكثر من ذلك وأقل»(68).
الثامن: أذية النبي (صلَّى الله عليه وآله)
يقول تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ}(69).
معنى الأذن هو أنّه كثير الاستماع، ورجل أذن يعني أنه يصدق بكلِّ ما يسمع(70).
ونقل الطوسي أنّها نزلت في نبتل بن الحارث من منافقي الأنصار، وكان ينقل حديث النبي (صلَّى الله عليه وآله) إلى المنافقين، فنزل جبرئيل يعلم النبي (صلَّى الله عليه وآله) بذلك، فقال (صلَّى الله عليه وآله): «من اختار أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث»(71).
وفي تفسير القمي أنَّها نزلت في “عبد الله بن نفيل كان منافقا، وكان يقعد لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فيسمع كلامه وينقله إلى المنافقين وينمُّ عليه، فنزل جبرئيل على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فقال: «يا محمد؛ إنّ رجلاً من المنافقين ينمُّ عليك، وينقل حديثك إلى المنافقين، فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «من هو؟» فقال: «الرجل الأسود، الكثير شعر الرأس، ينظر بعينين كأنهما قدران، وينطق بلسان شيطان، فدعاه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فأخبره، فحلف أنَّه لم يفعل، فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «قد قبلت منك، فلا تقعد»، فرجع إلى أصحابه فقال: إنّ محمدا أذن، أخبره الله أني أنمُّ عليه وأنقل أخباره فقبل، وأخبرته أني لم أفعل ذلك فقبل، فأنزل الله على نبيّه {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}“(72).
ويدلُّ كلا النقلين على أنَّ بعض المنافقين كانوا جماعة معروفين، ولهم مجالسهم الخاصة، ونقل هذا المنافق لهم حديث النبي (صلَّى الله عليه وآله) يدلُّ على أنَّهم لنفاقهم ولكونهم معروفين بالنفاق ما كانوا يحضرون مجلس النبي (صلَّى الله عليه وآله) وإنما يبعثون بعض المنافقين غير المعروفين لنقل أسرار المسلمين.
ونقل الفتال النسيابوري في روضة الواعظين خطبة طويلة لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يوم الغدير يبيّن فيها ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) وسبب نزول آية التبليغ وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}(73)، جاء فيها عنه (صلَّى الله عليه وآله): «إنّ جبرئيل (عليه السلام) هبط إليَّ مراراً ثلاثاً، يأمرني عن السلام ربي، وهو السلام، أن أقوم في هذا المشهد، وأُعلم كلَّ أبيض وأحمر وأسود أنَّ علي بن أبي طالب أخي ووصي، وخليفتي، والإمام من بعدي، الذي محلُّه مني محلَّ هارون من موسى إلا أنَّه لا نبي بعدي، وليكم بعد الله ورسوله، وقد أنزل الله تبارك وتعالى عليَّ بذلك آية {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(74)، وعلي بن أبي طالب الذي أقام الصلاة، وآتى الزكاة وهو راكع يريد الله (عزَّ وجلَّ) في كلّ حال، وسألت جبرئيل (عليه السلام) أنْ يستعفي لي من تبليغ ذلك إليكم، أيها الناس لعلمي بقلة المتقين، وكثرة المنافقين، وإدغال الآثمين، وختل المستهزئين الذين وصفهم الله في كتابه بأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ويحسبونه هيناً، وهو عند الله عظيم؛ لكثرة أذاهم غير مرَّة حتى سموني أذناً، وزعموا إنّه لكثرة ملازمته إياي وإقبالي عليه، حتى أنزل الله في ذلك {الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} فقال: {قُلْ أُذُنُ} (الأذن من يصدق بكل ما يسمع) على الذي تزعمون، إنه {أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} إلى آخر الآية، ولو شئت أنْ أسمي القائلين بأسمائهم لسميت، وأومأت إليهم بأعيانهم، ولو شئت أن أدلَّ عليهم لدللت، ولكني في أمرهم قد تكرّمت، وكلّ ذلك لا يرضى الله مني إلا أن أبلّغ ما أنزل إليَّ فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ «في علي» وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} الآية»(75).
وهذه الخطبة المباركة فيها من الأسرار الكثير، وتدلَّ على أنَّ القائل ليس واحداً بل مجموعة كبيرة من المنافقين، وأنَّ لهم تأثيراً كبيراً على الرأي العام بحيث يطلب النبي (صلَّى الله عليه وآله) من الله تعالى أن يستعفيه من أمر علي (عليه السلام) لكثرة المنافقين.
التاسع: استهزاء المنافقين ولعبهم بالدين
يقول تعالى: {يحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}(76).
نزلت هذه الآيات في مجموعةٍ من المنافقين فيما يرتبط بغزوة تبوك، وأهمُّ ما ورد عن هوية هذه المجموعة نقلان:
النقل الأول: ما في تفسير القمي وغيره، واللفظ للقمي أنهم: “قوم من المنافقين، كانوا يتحدثون فيما بينهم ويقولون: أيرى محمدٌ أنّ حرب الروم مثل حرب غيرهم، لا يرجع منهم أحدٌ أبداً، فقال بعضهم: ما أخلفه أن يخبر اللهُ محمداً بما كنّا فيه وبما في قلوبنا، وينزل عليه بهذا قرآنا يقرأه الناس، وقالوا هذا على حدِّ الاستهزاء، فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لعمار بن ياسر: «الحق القوم؛ فإنّهم قد احترقوا» فلحقهم عمار، فقال: ما قلتم، قالوا ما قلنا شيئاً، إنّما كنّا نقول شيئاً على حدِّ اللعب والمزاح فأنزل الله {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ…}“(77).
العاشر: محاولة اغتيال النبي (صلَّى الله عليه وآله)
النقل الثاني: أنَّهم أصحاب العقبة الذين أرادوا أن يغتالوا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عند رجوعه من تبوك في وادي يسمى (العقبة)، فأطلعه الله تعالى على ذلك، وأخبر (صلَّى الله عليه وآله) حذيفة بن اليمان بأسمائهم، فسمي حذيمة (كاتم أسرار الرسول -صلَّى الله عليه وآله-).
والحديث حول ما ورد في هذه المؤامرة ذو شجون وشجون، وقد ورد فيها الكثير من الأحاديث، وهؤلاء المنافقون قريبون من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وليسوا من المنافقين المشهورين بالنفاق مثل جماعة عبد الله بن أبي سلول، لأنَّ جماعة المنافقين المعروفين لم يرافقوا النبي (صلَّى الله عليه وآله) في غزوة تبوك، بل بقوا في المدينة المنورة. وسيأتي في بعض النقولات الرابط بين الجماعتين.
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}: «نزلت في التيمي والعدوي والعشرة معهما أنَّهم اجتمعوا اثنا عشر، فكمنوا لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في العقبة واأتمروا بينهم ليقتلوه، فقال بعضهم لبعض: إنْ فطن نقول إنما كنّا نخوض ونلعب، وإن لم يفطن لنقتلنه، فأنزل الله هذه الآية»(78).
وفي مجمع البيان: “قيل: نزلت في اثني عشر رجلاً، وقفوا على العقبة، ليفتكوا برسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، عند رجوعه من تبوك، فأخبر جبريل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بذلك، وأمره أن يرسل إليهم، ويضرب وجوه رواحلهم، وعمار كان يقود دابة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وحذيفة يسوقها، فقال لحذيفة: «اضرب وجوه رواحلهم»، فضربها حتى نحَّاهم. فلمَّا نزل قال لحذيفة: «من عرفت من القوم؟» قال: لم أعرف منهم أحداً. فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «إنّه فلان وفلان» حتى عدَّهم كلَّهم. فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال: «أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم»”(79).
محاولة اغتيال أمير المؤمنين (عليه السلام)
وفي التفسير المنسوب للإمام العسكري (عليه السلام) ذكر الارتباط بين المنافقين المتخلفين في المدينة وبين المنافقين أصحاب العقبة ومحاولة قتل أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقصة ذلك طويلة جداً نختصرها في التالي:
لما خرج النبي (صلَّى الله عليه وآله) من المدينة خلَّف علياً (عليه السلام) عليها فأكثر المنافقون الطعن فيه، فقالوا: ملَّه وسَئِمه، فحزن علي (عليه السلام) مما قالوا فخرج لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «ما أشخصك عن مركزك؟» قال: «بلغني عن الناس كذا وكذا». فقال له: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»، فانصرف علي (عليه السلام) راجعاً، فتآمروا على قتله، فحفروا له في طريقه حفيرة طويلة، ثم غطّوها بحصر ونثروا فوقها التراب، وكان ذلك طريق علي (عليه السلام) الذي لا بدَّ له من سلوكه، وتعاهدوا على أنه إذا وقع مع دابته في ذلك المكان كبسوه بالأحجار حتى يقتلوه. فلمّا بلغ علي (عليه السلام) قرب المكان أنطق الله الفرس وأخبر أمير المؤمنين (عليه السلام) بذلك، فسار علي (عليه السلام) على الحفرة وقد جعلها الله يابسة كالأرض، وجاء المنافقون معه بعضهم كان أمامه، وبعضهم خلفه، وقال لهم علي (عليه السلام): «اكشفوا عن هذا المكان» فكشفوا عنه فإذا هو خاوٍ، ولا يسير عليه أحد إلا وقع في الحفيرة، فأظهر القوم الفزع والتعجب مما رأوا. فقال علي (عليه السلام) للقوم: «أتدرون من عمل هذا؟» قالوا: لا ندري. قال (عليه السلام): «لكن فرسي هذا يدري»، وأنطق الله الفرس وقال: فعل هذا يا أمير المؤمنين فلان وفلان وفلان إلى أن ذكر العشرة بمواطاة من أربعة وعشرين، هم مع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في طريقه(80).
فالمنافقون عدّة مجموعات:
1- مجموعة من أهل المدينة، وبعض هؤلاء مشهورون بالنفاق ومعروفون لدى الناس كعبد الله بن أبي سلول.
2- والمجموعة الثانية هم الطلقاء الذي للتو دخلوا في الإسلام خوفاً ونفاقاً، وهم جماعة أبي سفيان.
3- وهناك جماعة ثالثة من قريش، وهم قريبون من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، يقودهم أصحاب العقبة.
عدد أصحاب العقبة
في مجمع البيان: “وكان الذي همُّوا بقتله اثني عشر رجلا، أو خمسة عشر رجلاً، على الخلاف فيه عرفهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وسمّاهم بأسمائهم، واحداً واحداً، عن الزجاج، والواقدي، والكلبي. والقصة مشروحة في كتاب الواقدي. وقال الباقر (عليه السلام): «كانت ثمانية منهم من قريش، وأربعة من العرب»”(81).
وصرّح بأسماء بعضهم في أكثر من رواية منها ما رواه الصدوق في الخصال عن حذيفة قال: “الذين نفروا برسول الله ناقته في منصرفه من تبوك أربعة عشر: أبو الشرور، وأبو الدواهي، وأبو المعازف، وأبوه، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة، وأبو الأعور، والمغيرة، وسالم مولى أبي حذيفة، وخالد بن وليد، وعمرو بن العاص، وأبو موسى الأشعري، وعبد الرحمن بن عوف، وهمُ الذين أنزل الله (عزَّ وجلَّ) فيهم {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا}“(82).
وهذه المجموعة الأخيرة من المنافقين تحدّث عنها أصحاب التفاسير من العامة والخاصة، مع اختلاف في التفاصيل، واختلاف في الآيات النازلة في حقهم، فبعضهم -كما تقدم- ذكرهم في الآيات السابقة، وبعضهم(83) ذكرهم في الآية الثالثة والسبعين من هذه السورة، وهو قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}.
وبعض الروايات تشير إلى أنَّ هذه الآية(73) نزلت في المنافقين يوم الغدير، بعد أنْ نصَّب النبي (صلَّى الله عليه وآله) علياً خليفة على المسلمين، وقال فيه النبي (صلَّى الله عليه وآله): «من كنت مولاه فعلي مولاه».
فبعضها تذكر أنَّ السبب هو قول جماعة منهم: “والله إن كنّا وقيصر لكنّا في الخز والوشي والديباج والنساجات، وإنّا معه في الأخشنين، نأكل الخشن، ونلبس الخشن، حتى إذا دنى موتُه، وفنيت أيامه، وحضر أجله، أراد أن يولّيها علياً من بعده”(84).
وبعضها تذكر أنه “لمّا نصَّب رسول الله علياً يوم غدير خم فقال: من كنت مولاه فعلى مولاه، فهمّ رجلان من قريش رؤسهما وقالا: والله لا نسلِّم له ما قال أبداً، فأخبر النبي عليه وآله السلام فسألهما عما قالا فكذبا وحلفا بالله ما قالا شيئاً، فنزل جبرئيل على رسول الله عليه وآله السلام {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} [الآية] قال أبو عبد الله (عليه السلام): «لقد توليا وما تابا»”(85).
وبعضها تذكر كما عن الصادق (عليه السلام): «لما أقام رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أمير المؤمنين يوم غدير خم كان بحذائه سبعة نفر من المنافقين؛ وهم فلان وفلان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة، وسالم مولى أبى حذيفة، والمغيرة بن شعبة، قال الثاني: أما ترون عينه كأنما عينا مجنون -يعنى النبي- الساعة يقوم ويقول: «قال لي ربي»، فلمّا قام قال: «أيها الناس من أولى بكم من أنفسكم؟» قالوا: الله ورسوله، قال: «اللهمَّ فاشهد»، ثم قال: «ألا من كنت مولاه فعلى مولاه»، وسلموا عليه بإمرة المؤمنين، فنزل جبرئيل، وأعلم رسول الله بمقالة القوم، فدعاهم وسألهم، فأنكروا وحلفوا فأنزل الله {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا}»(86).
الحادي عشر: البخل ونقض العهد
{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}(87).
نزلت هذه الآية في ثعلبة بن حاطب الأنصاري، كان فقيراً فطلب من النبي (صلَّى الله عليه وآله) أن يدعو له بالغنى، فلما أغناه الله امتنع عن دفع الزكاة قال: «ما هذه إلا أخت الجزية!»، فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «يا ويح ثعلبة ! يا ويح ثعلبة !» وأنزل الله الآيات(88). وقيل نزلت في بلتعة بن حاطب ومقنب بن قشير (89).
الثاني عشر: لمز المؤمنين في الصدقات
{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(90).
روى البخاري عن أبي مسعود قال: “لما نزلت آية الصدقة كنّا نحامل، فجاء رجل فتصدّق بشيء كثير، فقالوا: مراءٍ، وجاء رجل فتصدّق بصاع، فقالوا: إنَّ الله لغني عن صاع، هذا فنزلت {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}“(91).
وقيل نزلت في معتب ابن قشير وعبد الله بن نهيك، وقيل جماعة من المنافقين(92).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام): «ذهب علي أمير المؤمنين فآجر نفسه على أن يستقي كلَّ دلو بتمرة يختارها، فجمع تمراً فأتى به النبي عليه وآله السلام وعبد الرحمن بن عوف على الباب، فلمزه أي وقع فيه، فأنزلت هذه الآية: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} إلى قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}»(93).
الخاتمة:
بعد هذا الموجز من ذكر بعض المنافقين وصفاتهم -وقد تركنا الكثير من الآيات لطول المقام- يتبيّن لنا المجتمع الذي عاشه النبي (صلَّى الله عليه وآله)، ونفسيات الناس حوله، وكثرة المنافقين، وخذلان الأصحاب، فرغم ما بذله النبي (صلَّى الله عليه وآله) لهداية القوم إلا أنَّ الكثير منهم خصوصاً الوجهاء وأصحاب الكلمة أصرّوا على الكفر والنفاق، وأمّا عامة الناس فكانوا متخاذلين لنصرة الدين.
وقراءة هذا المجتمع بدقة يفيدنا جداً في معرفة ما جرى بعد رحيله (صلَّى الله عليه وآله)، وأنَّه لا استبعاد لأيِّ أمر نقله التاريخ لنا من أفعالهم الشنيعة، وأنه لم يكن متوقعاً إلا انقالبهم على أعقابهم كما ذكر القرآن الكريم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}(94).
ومما يؤيد ذلك هذه الرواية التي ينقلها العياشي في تفسيره فيما يرتبط بيوم الغدير عندما أمر الله رسوله الكريم (صلَّى الله عليه وآله) بتنصيب علي (عليه السلام)، وكان النبي (صلَّى الله عليه وآله) يعرف أصحابه وبغضهم لوصيه (عليه السلام)، فعن زيد بن أرقم: «إنَّ جبرئيل الروح الأمين صلوات الله عليه نزل على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) فدعا قوما أنا فيهم، فاستشارهم في ذلك ليقوم به في الموسم، فلم ندر ما نقول [له]، وبكى (صلَّى الله عليه وآله)، فقال له جبرئيل: «ما لك يا محمد أجزعت من أمر الله؟» فقال: «كلا يا جبرئيل، ولكن قد علم ربي ما لقيت من قريش إذ لم يقرِّوا لي بالرسالة حتى أمرني بجهادي، وأهبط إليّ جنوداً من السماء فنصروني، فكيف يقرّوا لي لعلي من بعدي» فانصرف عنه جبرئيل، ثمَّ نزل عليه: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ}…»(95).
فصلّى الله على محمد وعلي وآلهما، وثبّتنا الله على ولايتهما، إنّه على كلّ شيء قدير.
المصادر والهوامش
- (1) قرب الإسناد، للحميري، ص28.
- (2) المستدرك، للحاكم النيسابوري، ج3، ص129، وكنز العمال، ج13، ص106. وراجع المعجم الأوسط للطبراني، ج2، ص328، والاستذكار لابن عبد البر، ج8، ص446، وعيون أخبار الرضا (عليه السلام)، ج1، ص72، وكفاية الأثر، للخزاز القمي، ص102، ومناقب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، لمحمد بن سليمان الكوفي، ج2، ص480،
- (3) البخاري، ج3، ص153، وج5، ص58، وج6، ص7-8، وصحيح مسلم، ج8، ص116.
- (4) البخاري، ج4، ص39.
- (5) بحار الأنوار، ج3، ص35-36، وكشف الغمة، للأربي، ج2، ص112.
- (6) بحار الأنوار، ج36، ص288.
- (7) سنن النسائي، ج6، ص6-7.
- (8) المصنف، لعبد الرزاق الصنعاني، ج11، ص52.
- (9) مجمع الزوائد، ج9، ص50.
- (10) البخاري، ج1، ص17.
- (11) البخاري، ج5، ص185.
- (12) التوبة: 64.
- (13) سورة براءة: 19.
- (14) راجع في كل ما مرّ، تفسير البرهان، ج3، 382-385، وتفسير نور الثقلين، ج2، ص193-194.
- (15) أمالي الشيخ الطوسي، ص545 و550، ونقله عنه تفسير البرهان، ج3، ص383.
- (16) تفسير القمي، ج1، ص185-188، وبحار الأنوار، ج21، ص181.
- (17) الأحزاب: 15.
- (18) الإرشاد، للشيخ المفيد، ج1، ص141.
- (19) البخاري، ج5، ص99.
- (20) تفسير العياشي، ج2، ص84.
- (21) التفسير الكبير للرازي، ج16، ص21، التفسير المحيط، لأبي حيان الأندلسي، ج5، ص25، تفسيرالآلوسي، ج10، ص74، وجوامع الجامع للطبرسي، ج2، ص56، والإرشاد، للشيخ المفيد، ج1، ص141.
- (22) الإرشاد، للشيخ المفيد، ج1، ص141.
- (23) التفسير المحيط، لأبي حيان الأندلسي، ج5، ص25.
- (24) التفسير الكبير للرازي، ج16، ص21.
- (25) قال في تفسيره، ج10، ص74: «فلما التقوا قال سلمة بن سلامة أو أبو بكر رضي الله تعالى عنهما: لن نغلب اليوم من قلة إعجاباً بكثرتهم، وقيل: إن قائل ذلك رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، واستبعد ذلك الإمام لانقطاعه (صلَّى الله عليه وآله) عن كل شيء سوى الله (عزَّ وجلَّ). ويؤيد ذلك ما أخرجه البيهقي في الدلائل عن الربيع أن رجلاً قال يوم حنين: لن نغلب من قلة، فشقّ ذلك على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، والظاهر أنَّ هذه الكلمة إذا لم ينضم إليها أمر آخر لا تنافي التوكل على الله تعالى ولا تستلزم الاعتماد على الأسباب، وإنّما شقَّت على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لّما انضم إليها من قرائن الأحوال مما يدلُّ على الإعجاب، ولعلَّ القائل أخذها من قوله عليه الصلاة والسلام: «خير الأصحاب أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولا يغلب اثنا عشر ألفا من قلّة كلمتهم واحدة»، لكن صحبها ما صحبها من الإعجاب، ثمَّ إنَّ القوم اقتتلوا قتالاً شديداً فأدرك المسلمون إعجابهم، والجمع قد يؤخذ بفعل بعضهم فولوا مدبرين، وكان أوَّل من انهزم الطلقاء مكراً منهم، وكان ذلك سبباً لوقوع الخلل وهزيمة غيرهم».
- (26) مجمع البيان، ج5، ص33-35.
- (27) السيرة النبوية لابن هشام، ج4، ص894.
- (28) تفسير الثعلبي، ج5، ص24.
- (29) الآية: 39.
- (30) التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي، ج5، ص219.
- (31) تفسير السرمقندي، ج2، ص58. والتبيان، ج5، ص219.
- (32) بحار الأنوار، ج21، ص189، وراجع أسباب النزول للواحدي، ص166، والسيرة النبوية لابن هشام، ص4، ص944.
- (33) بحار الأنوار، ج30، ص433.
- (34) تفسير ابن كثير، ج2، ص416.
- (35) بحار الأنوار، ج21، ص248.
- (36) الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج2، ص277.
- (37) التبيان، ج5، ص280.
- (38) كمال الدين للصدوق، ص278.
- (39) ذخائر العقبى، لأحمد بن عبد الله الطبري، ص63.
- (40) الآية: 40.
- (41) خصائص الأئمة للشريف الرضي، ص58.
- (42) التبيان في تفسير القرآن، ج5، ص222.
- (43) راجع التبيان في تفسير القرآن، ج5، ص222، وتفسير الميزان، ج10، ص279-282، وص294-298 في البحث الروائي.
- (44) الكافي، ج8، ص262.
- (45) الآية: 42.
- (46) التبيان، ج5، ص225، والميزان، ج10، ص284.
- (47) التبيان للشيخ الطوسي، ج5، ص226-227.
- (48) الميزان، ج10، ص285.
- (49) عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، ج2، ص180.
- (50) الآيات: 44-46.
- (51) الآية: 49.
- (52) تفسير القمي، ج1، ص291-292، وراجع التبيان، ج5، ص232، والسيرة النبوية لابن هشام، ص4،ص944، الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج2، ص277.
- (53) راجع الآيات من 81 إلى 87.
- (54) الآية: 118.
- (55) تفسير القمي، ج1، ص296- 279.
- (56) مسند أحمد، ج6، ص387.
- (57) الآية: 47.
- (58) الآية: 48.
- (59) التبيان، ج5، ص232.
- (60) التبيان، ج5، ص231-232.
- (61) الآيات: 58-60.
- (62) بحار الأنوار، ج22، ص38.
- (63) تفسير القمي، ج1، ص298.
- (64) البحار، ج90، ص49، وجامع أحاديث الشيعة، ج8، ص181.
- (65) الكافي للكليني، ج2، ص412، وكتاب الزهد للحسين بن سعيد، ص47، وتفسير العياشي، ج2، ص89، وعنهم في تفسير البرهان، ج3، ص435، بحار الأنوار، ج22، ص38.
- (66) البخاري، ج5، ص104.
- (67) البخاري، ج4، ص60، وصحيح مسلم، ج3، ص105، ومسند أحمد، ج3، ص166.
- (68) تفسير البرهان، ج3، ص436-437، وتفسير نور الثقلين، ج2، ص230.
- (69) الآية: 61-62.
- (70) راجع التبيان، ج5، ص246-247، للواحدي.
- (71) التبيان، ج5، ص248.
- (72) تفسير القمي، ج1، ص300.
- (73) المائدة: 69.
- (74) المائدة: 55.
- (75) روضة الواعظين، للفتال النيسابوري، ص92، وعنه في تفسير البرهان، ج3، ص447.
- (76) الآيات: 66-64.
- (77) تفسير القمي، ج1، ص300، وتفسير التبيان، ج5، ص251، وتفسير مجمع البيان، ج5، ص81، وراجع أسباب النزول للواحدي، ص169.
- (78) تفسير العياشي، ج2، ص95، وتفسير البرهان، ج3، ص449.
- (79) مجمع البيان، ج5، ص81.
- (80) التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، ص380-383.
- (81) تفسير مجمع البيان، ج5، ص91.
- (82) الخصال للصدوق، ص499.
- (83) تفسير القمي، ج1، ص175 وص301، وج2، ص358، وأسباب النزول للواحدي، ص170. والدر المنثور للسيوطي، ج3، ص259. والسيرة الحلبية، ج3، ص120.
- (84) تفسير العياشي، ج2، ص100.
- (85) تفسير العياشي، ج2، ص100.
- (86) تفسير القمي، ج1، ص301.
- (87) الآيات: 77-75.
- (88) تفسير مجمع البيان، ج5، ص94، وأسباب النزول للواحدي، ص170.
- (89) التبيان، ج5، ص262.
- (90) الآيات: 79.
- (91) البخاري، ج2، ص114.
- (92) التبيان، ج5، ص266.
- (93) تفسير العياشي، ج2، ص101.
- (94) آل عمران: 144. (95) تفسير العياشي، ج2، ص97