شروط التوبة
رُوي في نهج البلاغة أنّ قائلاً قال بحضرة أمير المؤمنين عليه السلام: أستغفر الله، فقال له عليه السلام: ثكلتك أُمُّك! أتدري ما الاستغفار؟! إنّ الاستغفار درجةُ العِلّيين وهو اسم واقع على ستة معان:
أوّلها: الندم على ما مضى.
الثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً.
والثالث: أن تؤدّيَ إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله سبحانه ليس عليك تَبِعة.
الرابع: أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيَّعتها فتؤدّيَ حقَّها.
والخامس: أن تعمد إلى اللّحم الذي نبت على السُّحت فتذيبَه بالأحزان حتى تُلصِقَ الجلد بالعظم وينشأَ بينهما لحم جديد.
والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول: أستغفر الله1.
فلنستعرض المعنى الثالث.
الثالث: أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم
فعلى التائب أن ينظر إلى حقوق الآخرين عليه. وهي على نوعين: حقوق أوجبها الله تعالى على الإنسان بالأصل كحقّ الأمّ والأب والزوجة، وحقوق أوجبها الله تعالى على الإنسان لأنّه تعدّى على الآخرين بظلم فأراد الله أن تُرَدَّ المظلمة.
1 ـ حقوق الآخرين بالأصل
ولن نتناول هذه الحقوق بالتفصيل لكن نشير بشكل مختصر إلى حقَّيْن منها وهما حقّ الأب والأمّ.
حقُّ الأب
أمّا حقُّ الأب فهو طاعته في غير المعصية فعن أمير المؤمنين عليه السلام: “… فحقُّ الوالد على الولد أن يطيعه في كلّ شيء إلاّ في معصية الله سبحانه”2.
وعن الإمام زين العابدين عليه السلام: “أمّا حقُّ أبيك فأن تعلم أنّه أصلك، وأنّه لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك ما يعجبك فاعلم أنّ أباك أصل النعمة عليك فيه، فاحمد الله واشكره على قدر ذلك”3.
حقُّ الأمّ
أمّا حقّ الأمّ فهيهات أن يستطيع الإنسان تأديته بشكل كامل, فهي التي عانت في حمله في أحشائها تسعة أشهر، وأعطته كلّ عاطفتها واهتمامها فسهرت لينام، وتعبَثْ ليرتاح، ومرضت ليشفى.
يقول الإمام زين العابدين عليه السلام: “فحقُّ أُمّك أن تعلم أنّها حملتك حيث لا يَحمِلُ أحدٌ أحداً، وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يُطعِم أحدٌ أحداً، وأنها وقَتْك بسمعها وبصرها، ويدها ورجلها وشعرها وبشرها، وجميع جوارحها مستبشرة فرحة، محتملة لما فيه مكروهُها وألمُها وثِقلُها وغَمُّها، حتى دفعتها عنك يدُ القدرة، وأخرجتك إلى الأرض، فرضيت أن تشبع وتجوعَ هي، وتكسوك وتعرَى، وترويك وتَظْمَى، وتُظِلّك وتضحى، وتُنَعِّمَكَ ببؤسها وتُلَذِّذَكَ بالنوم بأرَقِها، وكان بطنها لك وعاء، وحِجرُها لك حِواء، وثديُها لك سِقاء، ونفسُها لك وِقاء، تباشر مُرَّ الدنيا وبرْدَها لك ودونك، فتشكرَها على قدر ذلك ولا تقدِرُ عليه إلاّ بعون الله وتوفيقه”4.
فإذا كانت هذه هي الأمَّ فكيف يُؤدَّى حقُّها.
يقول نبيُّنا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “حقّ الوالد أن تطيعه ما عاش، وأمّا حق الوالدة فهيهات! هيهات! لو أنّه عَدَدُ رمل عالِج، وقطْرُ المطر أيّامَ الدنيا قام بين يديها ما عَدَلَ ذلك يوماً حملته في بطنها”5.
من هنا كان بِرّها محلًّا لتوبة الله على عبده، فقد ورد أنّ رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: يا رسول الله: ما من عمل قبيح إلاّ وقد عملتُه فهل لي من توبة؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فهل من والديك أحد حيٌّ؟ قال: أبي، قال: فاذهب فبِرَّه. فلما ولَّى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو كانت أُمُّهُ6.
حقّ الوالدين بعد وفاتهما
ولا يقتصر هذا البِرُّ للوالدين في حال حياتهما، بل يستمرّ بعد موتهما بأن يستغفر الولد لوالديه ويقضي دَيْنَهما ويتصدّق ويحِجّ ويصوم، ويصلّي عنهما.
فعن الإمام الصادق عليه السلام: “ما يمنعُ الرجلَ منكم أن يبِرّ والديه حيَّيْن أو مَيْتَيْن، يصلِّي عنهما، ويتصدّق عنهما، ويحج عنهما، ويصوم عنهما، فيكون الذي صنع لهما، وله مثل ذلك، فيزيده الله ببِرّه وصلاته خيراً كثيراً”7، بل إنّ البِرَّ بالوالدين بعد الوفاة قد يصحّح موقف العاقّ، والعكس صحيح فإنّ قطع البِرِّ بهما بعد موتهما قد يحوِّل البارَّ إلى عاقّ.
وهذا ما حدّثنا عنه إمامنا الباقر عليه السلام في قوله: “إنّ العبد ليكون بارّاً بوالديه في حياتهما ثمّ يموتان، فلا يقضي عنهما دَيْنهما، لا يستغفر لهما، فيكتبه الله عزَّ وجلَّ عاقًّا، وإنّه ليكون عاقًّا لهما في حياتهما غير بارٍّ بهما، فإذا ماتا قضى دَيْنهما، واستغفر لهما فيكتبه الله عزَّ وجلَّ بارّاً”8.
وقد تفضّل الله تعالى على الوالدين بأن جعل عمل الولد الصالح يَرفِد عليهما في قبريهما الخير الذي قد يُغيِّر فيه المصير.
وهذا ما حدَّثنا عنه النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في قصّة حصلت مع أخيه نبيّ الله عيسى عليه السلام فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “مرَّ عيسى بن مريم بقبر يعذَّب صاحبُه، ثمّ مرَّ به من قابِلْ فإذا هو ليس يعذَّب فقال: يا ربّ، مررت بهذا القبر عام أوّلَ فكان صاحبه يعذَّب، ثمّ مررتُ به العامَ، فإذا هو ليس يُعذّب. فأوحى الله إليه: يا روح الله، إنّه أدرك له ولد صالح، فأصلح طريقاً، وآوى يتيماً، فغفرتُ له بما عمل ابنُه”9.
ولنتابع الحديث عن حقوق الآخرين التي نتجت من ظلمٍ صدَرَ عن الإنسان فجعل عليه حقًّا للآخرين.
2 ـ حقوق الآخرين (بسبب الظلم):
وهو الظلم الذي لا يغفره الله ما لم يسامح صاحبه، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: “أيّها الناس، إنّ الذنوب ثلاثة… فذنب مغفور، وذنب غير مغفور، وذنب نرجو أو نخاف عليه”. قيل: يا أمير المؤمنين فبيِّنها لنا.
قال عليه السلام: “أمّا الذنب المغفور فعبدٌ عاقبه الله تعالى على ذنبه في الدنيا، فالله أحكم وأكرم من أن يعاقب عبده مرّتين. وأمّا الذي لا يغفر فمظالمُ العبادِ بعضِهم لبعض، إنّ الله تبارك وتعالى إذا برز لخلقه أقسم قَسَماً على نفسه فقال: وعزّتي وجلالي لا يجوز في ظلم ظالم، ولو كفٌّ بكفّ ولو مسحة بكفّ… فيقتصُّ الله للعبادِ بعضِهم من بعض حتى لا يبقى لأحد عند أحد مظلمة، ثمّ يبعثهم إلى الحساب. وأمّا الذنب الثالث، فذنبٌ ستره الله على عبده ورَزَقه التوبة، فأصبح خاشعاً من ذنبه راجياً لربّه، فنحن له كما هو لنفسه، نرجو له الرحمة ونخاف عليه العقاب”10.
وفي حديث آخر للإمام زين العابدين عليه السلام نقله عن أبيه عن أمير المؤمنين عليه السلام ما يصوِّر أثرَ ظُلمِ الآخرين بشكل يُروِّع القلبَ أشدَّ رَوْعٍ ألا وهو:
“إذا كان يومُ القيامة بعث الله تبارك وتعالى الناس من حُفَرِهم غُرْلاً مُهْلاً جُرْداً مُرْداً11 في صعيد واحد تسوقُهم النار، وتجمعهم الظلمة حتى يقفوا على عقبة المحشر، فيركب بعضهم بعضاً ويزدحمون دونها، فيُمنَعون من المُضِيّ، فتشتدُّ أنفاسُهم ويكثر عرَقُهم وتضيقُ بهم أُمورُهم، ويشتدُّ ضجيجُهم وترتفعُ أصواتُهم. قال: هو أوّل هَوْل من أهوال يوم القيامة. فيُشرفُ الجبّار تبارك وتعالى عليهم من فوق عرشه في ظلالٍ من الملائكة، فيأمرُ ملَكاً من الملائكة فينادي فيهم: يا معشر الخلائق أَنصِتوا واستمعوا مناديَ الجبّار. قال: فيسمع آخرهم كما يسمع أوّلُهم. قال: فتنكسرُ أصواتهم عند ذلك وتخشعُ أبصارُهم وتضطربُ فرائصُهم وتفزعُ قلوبُهم، ويرفعون رؤوسَهم إلى ناحية الصوت مُهْطِعين إلى الداعي12. فعند ذلك يقول الكافر: ﴿هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾13 قال: فيشرف الله عزَّ وجلَّ ذِكْرُه الحَكَمُ العدْلُ عليهم، فيقول: أنا الله لا إله إلاّ أنا الحكَمُ العدْلُ الذي لا يجور، اليوم أحكم بينكم بعدلي وقسطي، لا يُظلَم اليوم عندي أحد، اليوم آخذ للضعيف من القويّ بحقّه ولصاحب المظلمة بالقِصاص من الحسنات والسّيئات، وأُثيب على الهبات، ولا يجوز هذه العقبةَ اليوم عندي ظالمٌ ولأحد عنده مَظْلمةٌ إلاّ مظلمة يهَبُها لصاحبها، وأُثيبه عليها، وآخذ له بها عند الحساب، فتلازموا أيّها الخلائق واطلبوا مظالمكم عند من ظلمكم بها في الدنيا، وأنا شاهدٌ لكم بها عليهم وكفى بي شهيداً. قال: فيتعارفون ويتلازمون، فلا يبقى أحد له عند أحد مظلمة أو حقّ إلاّ لزمه بها. فيمكثون ما شاء الله، فيشتدُّ حالهم، فيكثر عرقهم ويشتدُّ غمُّهم وترتفع أصواتهم بضجيج شديد، فيتمنَّوْن المَخْلَصَ منه بترك مظالمهم لأهلها.
ويطلع الله عزَّ وجلَّ على جهدهم فينادي منادٍ من عند الله تبارك وتعالى يسمعُ آخرهم كما يسمع أوّلُهم: يا معاشر الخلائق أنصِتوا لداعي الله تبارك وتعالى واسمعوا، إنّ الله تبارك وتعالى يقول لكم: أنا الوهّاب، إن أحببتم أن تُواهبوا فتَواهَبوا وإن لم تُواهبوا أخذتُ لكم بمظالمكم. فيفرحون بذلك لشدّة جُهدهم، وضيق مسلكهم، وتزاحمهم. فيَهَبُ بعضُهم مظالمَهم رجاءَ أن يتخلّصوا ممّا هُم فيه، ويبقى بعضُهم فيقولون: يا ربُّ مظالمنا أعظم من أن نهَبَها.
قال: فينادي منادٍ من تلقاء العرش: أين رضوان خازن الجِنان، جِنان الفردوس؟ فيأمر الله عزَّ وجلَّ أن يُطلِعَ من الفردوس قصراً14 من فضّة بما فيه من الآنية والخدم. فيُطلعه عليهم في حَفافة القصر والوصائف15 والخدم. فينادي منادٍ من عند الله تبارك وتعالى: يا معشرَ الخلائق ارفعوا رؤوسكم فانظروا إلى هذا القصر. قال: فيرفعون رؤوسهم فكلُّهم يتمنّاه. قال: فنادى منادٍ من عند الله تبارك وتعالى: يا معشرَ الخلائق، هذا لكلّ من عفى عن مؤمن. فيعفون كلُّهم إلاّ القليل.
قال: فيقول الله عزَّ وجلَّ: لا يجوز إلى جنتي اليوم ظالم، ولا يجوز إلى ناري اليوم ظالم، ولأحد من المسلمين عنده مظلمة حتى يأخذها منه عند الحساب، أيُّها الخلائق استعدّوا للحساب. ثمّ يُخلي سبيلهم، فينطلقون إلى العقبة يَكْرُدُ16 بعضُهم بعضاً حتى ينتهوا إلى العرصة، والجبّار تبارك وتعالى على العرش، قد نُشِرَت الدواوين، ونُصِبَت الموازين، وأُحضر النبيّون والشهداء وهم الأئمّة، يشهد كلُّ إمام على أهل عالمه بأنّه قد قام فيهم بأمر الله عزَّ وجلَّ ودعاهم إلى سبيل الله”.
المظلمة مانعة من دخول المسجد
ولمظالم الناس أثر في قبول الله للعبادة، فالقادر على أداء حقّ الآخرين مع مطالبتهم له وهو لا يردّه يرفض الله تعالى دخوله المساجد حتى يؤدّيَ ذلك الحقّ، فقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:
“أوحى الله إليّ: أن يا أخا المنذرين، يا أخا المرسلين أنذِر قومك لا يدخلوا بيتاً من بيوتي، ولأحد من عبادي عند أحد منهم مظلمة، فإنّي ألعنه ما دام قائماً يصلّي حتى يردَّ تلك المظلمة، فأكونَ سَمْعَه الذي يسمع به وبصرَه الذي يُبصر به، ويكونَ من أوليائي وأصفيائي، ويكونَ جاري مع النبيّين والصدّيقين والشهداء في الجنّة”17.
أنواع المظالم
وهذه المظالم نوعان: المظالم المعنويّة والمظالم الماديّة.
أ ـ المظالم المعنويّة
وهي الناتجة عن التعرُّض للآخرين بغير حقّ بإهانة أو استحقار أو استخفاف، كما قد يحصل من صاحب السلطة مع مرؤوسيه ومن صاحب المال مع عمّاله. وهو قد لا يكون ملتفتاً للآثار الوخيمة المترتّبة على هذا الظلم. فقد يكلِّفه أن يقف على باب الجنّة يُحرَم من دخولها ما لم يسامحه المظلوم.
من هنا دعت روايات أهل العِصْمة عليهم السلام إلى تصحيح هذا الظلم والتعويض عنه، فمن كسر مؤمناً فعليه جَبْرُه.
كما حذَّرت النصوص من الاستخفاف بالآخرين، فلعلّ المُستَخَفَّ به يكون وليّاً من أولياء الله تعالى.
ب ـ المظالم الماديّة
وقد تنتج هذه المظالم من:
ـ سرقة مال الآخرين.
ـ غصب المال عنوة عنهم.
ـ إتلاف مال الآخرين أو إحلال عيب فيه كأن يكسر زجاجاً ليس له، أو يصطدم بسيّارة آخر فيُعيبَها.
ـ أو غير ذلك.
وهذه المظالم تتعلق بذمَّةِ الصغير أيضاً، فإنّه وإن كان غير مكلَّف لا يعاقبه الله على ما يفعل، لكنّه حينما يبلغ، عليه رَدُّ هذه الحقوق وضمانُها للآخرين.
كيف يُرَدُّ الحقُّ؟
وطريقة ردّ هذه الحقوق أن يتّصل بصاحب الحقّ ويعطيَه حقه، أو يسامحَه صاحب الحقّ به، وإن كان يخشى على منزلته الاجتماعيّة أو علاقته بالآخرين، فيمكن له أن يتسامح منه أو يردَّ حقّه بطريقة لا يتعرّف صاحب الحقّ من خلالها عليه كأن يقول له: “إنّ أحد الأشخاص سرق منك مالاً ويريد ردَّه أو المسامحة”، من دون أن يحدِّد له هويّة الشخص.
ردُّ المظالم
هذا كلُّه إن كان يعرف صاحبَ الحقّ، أمّا إذا لم يكن يعرفه ولا يمكنه التعرُّف عليه، فيجب أن يدفع مالاً للفقراء بإذن الحاكم الشرعيّ بنيَّة أنّها صدقة عن صاحب المال ويُسمَّى بـ “ردّ المظالم”. وقيمة هذا المال يُقدَّر على أساس ما يخمِّنه من قيمة الحقّ المتعلّق بذمَّته، والاحتياط طريق النجاة، لا سيّما في موضوع حقّ الآخرين الذي قد يُكلِّف الإنسانَ وقفةً لا تُحمَد.
حساب العُود
فقد نُقِل عن خطّ الشهيد الأوّل عليه الرحمة أنّ أحمد بن أبي الحواري قال: تمنّيت أن أرى أبا سليمان الداراني إلى أن رأيته في النوم بعد سنة، فقلتُ له: يا معلِّم، ما صنع الله تعالى بك؟
فقال: يا أحمد، دخلت ذات مرّة من الباب الصغير، فرأيت حِمْلَ جَمَلٍ من نبتة “الشيح” فأخذت عوداً منه لا أدري خَلَلْتُ به أسناني أم لا ثمّ رميته.. وأنا منذ سنة وإلى الآن مبتلى بحسابه.
وعلَّق الشيخ عبّاس القُمّي قدس سره على هذه القصّة بقوله: “لا بُعد في هذه الحكاية، بل تُصدِّقها الآية الشريفة: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ﴾“.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام في إحدى خطبه: “أليست النفوس عن مثقال حبّة من خردل مسؤولة؟”18.
ونتابع حديث أمير المؤمنين عن الشرط الرابع للاستغفار الصحيح والتوبة الحقيقيّة:
الرابع: أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيَّعتَها فتؤدّي حقَّها
فمن شروط التوبة إلى الله تعالى قضاء الحقوق الإلهيّة وهي الفرائض التي ضيَّعها بجهالته، وهَهنا نذكر أمثلة لهذه الفرائض المضيَّعة:
1 ـ الصلاة اليوميّة
فعليه أن يُحصي ما فاته من الصلوات من سنِّ البلوغ، في ضوء هذا الإحصاء يرتّب برنامجاً لقضائها بحيث لا يتهاون بهذا البرنامج.
وننصح هنا أن يكون برنامج القضاء مكتوباً في دفتر خاصّ بحيث تحصل الدقّة في القضاء ويتجنّب من خلاله النسيان المُربك، ويَجمَعُ في هذا الدفتر إضافة إلى الصلاة، الحقوق الأخرى الواجبة عليه، وسيأتي بيان بعضها، كما ننبّه على مراعاة الأمور التالية، في قضاء الصلوات اليوميّة:
– أن يلتفت إلى أنّه ربّما يكون عليه قضاء صلاة قَصْر بسبب سفره في بعض الأوقات فيخمّن كم عليه من قضاء هذه الصلوات اليوميّة.
– إنْ شكَّ التائب بعدد الصلوات الفائتة كأن يشكَّ في كونها 5 سنوات أو 6 سنوات، فهنا يجوز له أن يبني على الأقلّ ويقتصر في قضاء خمس سنوات، إلاّ أنّ هذا الحكم ظاهريٌّ يخالف الاحتياط، لذا ينبغي أن يقضي الفترة الأطول المحتملة ليكون تائباً إلى الله حقّاً.
– أن يتنبّه إلى بعض أحكام الصلاة التي قد تكون مجهولة عنده، فقد يكون التائب قد صلّى سابقاً لكنّه لم يلتفت إلى بعض ما وجب عليه ممّا يتعلّق بالصلاة كسجدتي السهو فلا بدَّ أن يتعلّمها ليؤدّيها عن الصلوات السابقة في حال حصول ما يوجب السهو فيها، فإنّ سجدتي السهو تبقى في ذمته، فينبغي الإتيان بها بعدد يطمئنّ من خلاله إلى أنّه لم يبق في ذمّته شيء منها.
2 ـ صلاة الآيات
فعلى التائب أن يحسب ما عليه من صلاة الخسوف والكسوف والزلازل ليؤدّيها على النحو الذي ذكرناه في الصلوات اليوميّة، فإنّها من الفرائض التي قد يكون التائب قد تعمّد تركها وأضاعها.
3 ـ الصوم
وكما عمل التائب في الصلاة عليه أن يفعل في الصيام فيحسب ما عليه من الصوم، ليُدخله في برنامج توبته.
وهنا نلفت أيضاً إلى أمر مهمّ وهو أنّ على التائب أن يتنبّه إلى أنّ قضاء الصوم له توابعه.
فأوّلاً: عليه أن يدفع بسبب تأخير القضاء بما تجاوز السنة ما يُسمّى بفدية التأخير وهي عبارة عن مُدّ من الطعام كالخبز والطحين أي ثلاثة أرباع كيلو غرام عن كلّ يوم فاته.
ثانياً: عليه في حال الإفطار عن عمد بدون عذر شرعيّ أن يؤدّي كفّارة لله تعالى عن إفطاره، وهي إمّا أن يصوم عن كلّ يوم شهرين، يواصل فيهما الصوم مقدار 31 يوماً متتابعاً من دون فصل، ولا بأس بالتفريق بالأيّام الباقية، وإما أن يُطعم ستين مسكيناً، كلّ مسكين مُدًّا من طعام أي ثلاثة أرباع الكيلو (أي عن كل يوم 45 كلغ توزع على 60 مسكيناً).
ثالثاً: فإذا كان قد أفطر على حرام بأن كان أوّل شيء فعله في يوم الصوم هو مفطرٌ حرَّمه الله تعالى كشرب الخمر والزنا ـ والعياذ بالله ـ فعليه أن يجمع بين صيام ستين يوماً وإطعام ستين فقيراً.
4- أداء الفرائض الماليّة
وهي ما فرضه الله تعالى في أموال الناس ومنها:
أ ـ زكاة الأموال
وقد ورد أنّ الصلاة لا تقبل من مانعها، وأنّ من منع قيراطاً من الزكاة فليمت إن شاء يهوديّاً أو نصرانيّاً وينحصر وجوبها بمن يملك من الزرع قمحاً أو شعيراً أو تمراً أو زبيباً.
ومن الحيوانات غنماً وبقراً وإبلاً.
ومن الذهب والفضة النقدين المسكوكين بسكّة المعاملة.
ولا يكون على مالك هذه الأشياء زكاة إلاّ إذا بلغت حدّاً ونصاباً شرعياً قد بُيِّن في كتب الفقه.
فإذا أراد الإنسان التوبة النصوح فعليه أن يؤدّي هذه الزكاة إن وجبت عليه.
ب ـ زكاة الفطرة
وتُسمَّى زكاة الأبدان.
وهي الصدقة الواجبة بعد شهر رمضان، فقد يكون الإنسان في ماضيه المنحرف غافلاً عنها لا يؤدّيها إلى أصحابها الفقراء، فحينما يتوب لا بدَّ أن يلتفت إلى حساب ما عليه منها لإيصالها إلى الفقراء.
ج ـ الخمس
وهو المتعلّق بما يملك الإنسان من أموال مرَّ عليها عام في ملكه على تفصيل مذكور في الرسائل العمليّة.
فحتى تكون التوبة نصوحاً والاستغفار حقيقيّاً عليه أن يؤدّي عشرين في المئة من ماله الذي يجب فيه الخمس وأن لا ينصت إلى وسوسات إبليس التي تحبط من عزيمته.
والواقع أنّ ما يدفع الإنسان إنما هو من مال الله وليس من ماله هو، فالمال وديعة عند الإنسان من الله تعالى أراد أن يستردّ منها خمسها وعلى الإنسان أن يكون أميناً في ردّ جزء من أمانة الله.
ومن لطيف ما يُحكى في هذا الموضوع أنّ أحد العلماء من بلاد إيران ذهب لزيارة الجالية الإيرانيّة المسلمة في الهند، وهناك وأثناء إلقاء كلمة عليهم حكى لهم هذه القصّة.
هناك رجل مسلم من إيران يعيش هنا في الهند وأهله يعيشون في إيران فأراد أن يرسل إليهم عشر روبيّات (عملة الهند) مع أحد المسافرين إلى إيران، فأعطاه العشرة وقال له:
خذ منها روبيّتين، واعطِ أهلي ثمانياً، فتعجّب المسافر من ذلك، ورفض في البداية، ولكنّه قَبِل عند إصرار صاحبه، ثمّ قال له الرجل: خذ لك أربعاً وأعطِ أهلي سِتَّ روبيّات، فازداد تعجُّب المسافر الذي رفض بدايةً ثمّ قَبِل نتيجة الإصرار.
ثمّ قال له الرجل: خذ لك منها ستّ روبيّات وأوصل إلى أهلي أربَعاً. فاشتدّ تعجّب المسافر، لكنّه قَبِل في نهاية الأمر، ثمّ قال له الرجل: خذ لك منها ثمانيَ روبيّات وأوصل إلى أهلي روبيّتين فقط. استغرب المسافر الأمر أشدّ الاستغراب وتعجَّب له شديد التعجّب، لكِنّه قَبِل به لإصرار صاحبه، وسافر إلى إيران.
ثمّ سأل العالِم هذا السؤال: لكنّ الذي حصل أنّ المسافر أخذ كلّ العشرة، ولم يعطِ لأهل مالكها شيئاً منها، فما رأيكم به؟!!!
فأخذ الجميع يذمّ ذلك الرجل ويشتمه على هذه الخيانة العظيمة للأمانة. هنا تدخّل العالم وقال لهم: من لم يخمِّس ماله لله فهو مثله، أعطاه الله عَشْراً وقال له: لك منها ثمانٍ واردُد اثنتين إلى أهلي، لكنّه خان الأمانة وأخذها كلَّها!!!
هذه نماذج عن الفرائض التي قد يكون الإنسان ضيَّعها في حياته السابقة، فإذا تاب إلى الله لا بدَّ له أن يؤدّي حقّها ليحقّق الركن الرابع من أركان التوبة النَّصوح، في حديث أمير المؤمنين عليه السلام.
ولنتابع مع عليّ عليه السلام الرُّكنَ الخامس من أركان التوبة الحقيقيّة.
5- أن تعمد إلى اللّحم الذي نبت على السّحت فتذيبه بالأحزان حتى تُلصِقَ الجلدَ بالعظم، وينشأَ بينهما لحم جديد.
السُّحْتُ هو المال الحرام الذي يدخل على الإنسان، ومن أمثلته ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام “السُّحْت ثمن الميتة، وثمن الكلب، وثمن الخمر، ومَهر البغيّ، والرِّشوة في الحكم، وأجر الكاهن”19.
فإذا كان الإنسان العاصي في ماضيه قد أكل السُّحت فنبت لحمه عليه فشرطُ توبته في حديث أمير المؤمنين عليه السلام أن يذيب هذا اللّحم النابت على الحرام بحزنه على ما فات وقصَّر فيه حتى يلصقَ الجلد بالعظم، ثمّ بعد ذلك ينشأ لحم جديد نبت على طاعة الله سبحانه وتعالى.
أمّا الركن السادس من أركان التوبة والشرط الأخير من شروط الاستغفار الحقيقيّ فهو ما عبَّر عنه الإمام عليّ عليه السلام بقوله:
6- أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية.
يشير أمير المؤمنين عليه السلام بكلامه هذا إلى أنّ الاستغفار الحقيقيّ لا بدّ أن يتناسب مع حجم ما فعله الإنسان من ذنب وجرم أمام الله تعالى، فندَمُ القلب واستغفارُ اللسان وإن كانا مهمَّين إلاّ أنّهما لا يكفيان في التوبة النَّصوح، لا سيَّما في الذنوب الكبيرة التي اقترفها الإنسان في حياته، فحينما يكون الذنب كبيراً لا بدّ أن تتناسب التوبة معه ولن أطيل كثيراً في بيان هذا الأمر، بل سأترك بيانه لقصّة حدثت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع شابّ تاب بعد معصية خطيرة، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأله هل تُقبل توبته؟
فماذا كان جواب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!!
فلنتابع معاً هذه القصّة
دخل مَعاذُ بن جبل ذات مرّة على رسول الله باكياً، فسلَّم فردّ عليه السلام، ثمّ قال: ما يُبكيك يا معاذ؟ قال: إنّ بالباب شابّاً طريّ الجسد، نقي اللون حسن الصوت يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها يريد الدخول عليك، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: أَدخِل عليّ الشابّ يا معاذ، فأدخله عليه فسلَّم عليه فردّ عليه السلام ثمّ قال: ما يُبكيك يا شابّ؟ قال: كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوباً إن أخذني الله عزَّ وجلَّ ببعضها أدخلني نار جهنّم؟! ولا أراني إلاّ سيأخذني بها ولا يغفر لي أبداً!!
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل أشركت بالله شيئاً؟
قال: أعوذ بالله أن أُشرِك بالله شيئاً!
قال صلى الله عليه وآله وسلم: أقتلتَ النفس التي حرَّم الله؟
قال: لا.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: يغفِرُ الله ذنوبك وإن كانت مثل الجبال الرواسي.
قال الشابّ: فإنّها أعظم من الجبال الرواسي.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: يغفِرُ الله ذنوبك وإن كانت مثل الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق.
قال: فإنّها أعظم من الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: يغفِرُ الله ذنوبك وإن كانت مثل السماوات ونجومها ومثل العرش والكرسيّ.
قال: فإنّها أعظم من ذلك.
فنظر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كهيئة الغضبان ثمّ قال: ويحك يا شابّ، ذنوبك أعظم أم ربُّك؟ فخرَّ الشاب لوجهه وهو يقول: سبحان الله ربّي، ما شيء أعظم من ربّي، ربّي أعظم يا نبيَّ الله من كلّ عظيم.
فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: فهل يغفر الذنبَ العظيم إلاّ الربُّ العظيم؟
قال الشابّ: لا والله يا رسول الله، ثم سكت الشابّ، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ويحك يا شابّ، ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك؟
قال: بلى أخبرك، إنّي كنت أنبش القبور سبع سنين، أُخرج الأموات وأَنزِع الأكفان، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار، فلمّا حُمِلَتْ إلى قبرها ودُفِنَت وانصرف عنها أهلها وجَنَّ عليهم الليل أتيتُ قبرها، فنبشتُها ثمّ استخرجتُها، ونزعت ما كان عليها من أكفانها، وتركتها متجرّدة على شفير قبرها، ومضيت مُنصرفاً، فأتاني الشيطان فأقبَلَ يُزيّنُها إليّ ويقول: أما ترى بطنها وبياضها؟ أما ترى وِركَيها؟ فلم يزل يقول لي هذا حتى رجعتُ إليها، ولم أملك نفسي حتى جامعتها، وتركتها مكانها، فإذا أنا بصوت من ورائي يقول: يا شابّ، ويلٌ لك من ديَّان يوم الدّين، يوم يقِفُني وإيّاك كما تركتني عريانة في عساكر الموتى، ونزعتني من حفرتي، وسلبتني أكفاني، وتركتني أقوم جُنُباً إلى حسابي، فويلٌ لشبابك من النار.
فما أظنُّ أنّي أشمُّ ريح الجنّة أبداً، فما ترى لي يا رسول الله؟
فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: تنحَّ عنّي يا فاسق، إنّي أخاف أن أحترق بنارك، فما أقربك من النار! ثمّ لم يزل صلى الله عليه وآله وسلم يقول ويُشير إليه حتى أمعن من بين يديه.
فذهب فأتى المدينة فتزوَّد منها، ثمّ أتى بعضَ جبالها فتعبَّد فيها، ولبس مِسْحاً وغلَّ يديهِ جميعاً إلى عنقه ونادى:
يا ربّ! هذا عبدك بُهلول بين يديك مغلول.
يا ربّ! أنت الذي تعرفني، وأزِل منّي ما تعلم سيّدي..
يا ربّ! أصبحت من النادمين وأتيت نبيّك تائباً فطردني وزادني خوفاً، فأسألك باسمك وجلالك وعظمة سلطانك أن لا تُخيِّب رجائي، سيّدي، ولا تبطل دعائي ولا تؤيِّسني من رحمتك.
فلم يزل يقول ذلك حتى تمت له أربعون يوماً وليلة فرفع يديه إلى السماء وقال:
اللّهمّ ما فعلتَ في حاجتي؟ إن كنتَ استجبتَ دعائي، وغفرتَ خطيئتي فأوحِ إلى نبيِّك، وإن لم تستجب لي دعائي ولم تغفر لي خطيئتي وأردتَ عقوبتي، فعجِّل بنار تُحرقُني أو عقوبة في الدنيا تُهلكني، وخلّصني من فضيحة يوم القيامة.
فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ﴾، يقول عزَّ وجلَّ: أتاك عبدي يا محمّد تائباً فطردته فأين يذهب؟ وإلى من يقصد؟ ومن يسأل أن يغفِر له ذنباً غيري؟ ثمّ قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾.
فلمّا نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج وهو يتلوها ويبتسم، فقال لأصحابه: من يدلّني على ذلك الشابّ التائب؟ فقال معاذ: يا رسول الله بلغَنا أنّه في موضع كذا وكذا. فمضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه حتى انتهوا إلى ذلك الجبل، فصعِدوا إليه يطلبون الشابّ، فإذا هم بالشابّ قائم بين صخرتين، مغلولة يداه إلى عنقه، وقد اسودَّ وجهه، وتساقطت أشفار عينيه من البكاء. فدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأطلق يديه من عنقه ونفض التراب عن رأسه، وقال: يا بُهلول أبشر، فإنّك عتيق الله من النار.
ثمّ قال لأصحابه: هكذا تداركوا الذنوب كما تداركها بهلول، ثمّ تلا عليه ما أنزل الله عزَّ وجلَّ فيه وبشَّره بالجنّة20.
هلُمَّ نصلِّ صلاة التوبة
فلْنَشْرع بعمل علَّمَنا إيّاه نبيُّنا الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم حينما خرج يوم الأحد في شهر ذي القعدة، فقال:
أيّها الناس، من كان منكم يريد التوبة؟
فأجاب المسلمون: كلُّنا نريد التوبة يا رسول الله.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “اغتسلوا، وصلّوا أربع ركعات واقرأوها في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة، وقُلْ هو الله أحد ثلاثَ مرّات، والمعوذتين مرّة، ثمَّ استغفروا سبعين مرّة، ثمّ اختموا بـ (لا حولَ ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم)، ثمّ قولوا: يا عزيز، يا غفّار، اغفر لي ذنوبي، وذنوب جميع المؤمنين والمؤمنات فإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت”.
ثمّ قال صلى الله عليه وآله وسلم: ما من عبد من أمتي فعل هذا إلاّ نُوديَ من السماء: يا عبد الله استأنف العمل، فإنّك مقبول التوبة، مغفور الذنب. وينادي ملَكٌ من تحت العرش، أيّها العبد بورك عليك، وعلى أهلك، وذريتّك.
وينادي منادٍ آخر: أيّها العبد! ترضي خصماءك يوم القيامة.
وينادي ملك آخر: أيّها العبد! تموت على الإيمان، ولا يُسلَبُ منك الدين، ويُفسح في قبرك، ويُنَوَّرُ فيه.
وينادي منادٍ آخر: أيّها العبد! يَرضَى أبواك، وإن كانا ساخطين، وغُفِرَ لأبويك ذلك، ولذريتّك، وأنت في سَعة من الرزق في الدنيا والآخرة.
وينادي جبرئيل صلى الله عليه وآله وسلم: أنا الذي آتيك مع ملك الموت عليه السلام وآمره أن يرفق بك، ولا يخدِشَك أثرُ الموت إنّما تخرج الروح من جسدك سَلًّا.
قال المسملون: يا رسول الله! لو أنّ عبداً يقول في غير هذا الشهر؟
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: مثل ما وصفت، وإنّما علّمني جبرائيل عليه السلام هذه الكلمات إيّام أُسْرِيَ بي21.
إذاً فلتكن هذه الصلاةُ الفاصلَ بين القلب الذي اسودَّ بالمعاصي والقلب النقيّ الطاهر الذي رجَع كيوم وُلد صاحبُه.
- كتاب كيف ترجع كما ولدتك أمك؟، سماحة الشيخ أكرم بركات.
المصادر والمراجع
1- حكمة رقم 417، أنظر نهج البلاغة، الملحق بالمعجم المفهرس، ص224.
2 الري شهري، ميزان الحكمة، ج10، ص718.
3- القبانجي، شرح رسالة الحقوق، منشورات دار الأضواء، بيروت، ج1، ص561.
4- المصدر السابق، ص545.
5- المصدر السابق، ص548.
6- الري شهري، ميزان الحكمة، ج10، ص714.
7- المصدر السابق، ص711.
8- المصدر نفسه.
9- المجلسي، بحار الأنوار، ج104، ص101.
10- شُبَّر، تسلية الفؤاد، منشورات الأعلمي، بيروت، ص169 ـ 170.
11- وفي المصدر عزلاً بهماً وعزلاً: لا سلاح لهم. بُهْماً: ليس معهم شيئاً لحية.
12- أي يمدّون أعناقهم لسماع صوته. مُهْطِعين أي مسرعين وأهطع إذا مدّ عنقه.
13- سورة القمر، الآية: 8.
14- أي يظهره لهم.
15- الوصائف: جمع الوصيفة أي الجارية.
16- الكرد: الطرد والدفع.
17- التبريزي، المراقبات، منشورات دار السلام، بيروت، ص116.
18- القُمّي، منازل الآخرة، ترجمة كوراني، منشورات دار الكتاب الإسلامي، قُمّ، ص137.
19- الري شهري، ميزان الحكمة، ج6، ص406.
20- الكاشاني، تفسير الصافي، منشورات الأعلمي، بيروت، ج1، ص382، 384.
21- الميرزا التبريزي، السير إلى الله، تحقيق ونشر الموسوي، قُم، ص115. ابن طاووس، اقبال الأعمال، منشورات دار الحجّة، بيروت، ص614.