محطات من سيرة أصحاب الحسين (ع)
المقدمة
سيرة العظماء تجسيدٌ حيٌ لكل القيم والمثل العُليا بكل ما للكلمة من معنى.. إنها معين زلال حريٌ بطالب الحقيقة أن يرتشف منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً… ومن أجلى صور العظمة ما سطره أصحاب الحسين (ع) بمواقفهم البطولية في كربلاء الشهادة، فلنقف على محطاتٍ من سيرة أصحاب الحسين (ع) نتأمل فيها ونستلهم منها الدروس والمواعظ والعبر لكي تنير لنا الدرب وتشق لنا الطريق في حياتنا عندما تدلهم الخطوب، فإليكم بعض الدروس المستفادة من تلك المناهل والمحطات.
1- الثبات على المبدأ:
ما أكثر الكلمات في حالة الرخاء وما أعذب الألفاظ عند اليُسر، ولكن ما أقل المواقف والكلمات عندما يشتد الوطيس ويضيق الخناق، فعند تقلّب الأحوال تظهر جواهر الرجال، فمن كان قوي الإيمان صلب العقيدة ثبت على المبدأ، وهذا ما نلاحظه في أصحاب الحسين (ع) ومن أبرزهم بطل العلقمي العباس بن أمير المؤمنين (ع) فقد نقل المؤرخون أن الشمر قد جاء في اليوم التاسع من المحرم باذلاً الأمان للعباس وإخوته قائلاً: (أين بنو أختنا؟ فخرج إليه العباس وجعفر وعبد الله وعثمان بنو علي بن أبي طالب فقالوا لـه ما تريد؟ فقال أنتم يا بني أختي آمنون، فقال لـه الفتية: لعنك الله ولعن أمانك! أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان الله)(1) وفي مصدر آخر: (فقال لـه العباس بن علي رضي الله عنه: تبا لك يا شمر ولعنك الله ولعن ما جئت به من أمانك هذا يا عدو الله! أتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء، ونترك نصرة أخينا الحسين رضي الله عنه)(2)، فنلاحظ أن محور موقفهم هو طاعة الأخيار ونبذ الدخول في طاعة اللعناء مما يكشف عن الثبات على المبدأ والعقيدة.
2- عشق الشهادة :
الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه، والشهادة تمثل ذروة نتائج الجهاد فكم هي منزلة من يعيش الشهادة صبحَ مساءَ وقد خاض الحروب والغمرات حتى نال الشهادة في خاتمة المطاف، انه حبيب بن مظاهر الأسدي رضوان الله عليه، فقد ذكر أهل السير أن حبيباً نزل الكوفة وصحب علياً في حروبه كلها وكان من خاصته وحملة علومه(3)، كما أنه كان صحابياً رأى النبي (ص)(4)، وكان يتمنى الشهادة إلا أنه لم يرزقها فشكى ذلك إلى أمير المؤمنين (ع) فبشره أنه سيرزق الشهادة مع ابنه الحسين (ع)، وفعلاً ضلّت هذه الخاطرة تراود ذهنه الشريف ولا تزول عن باله حتى توّج حياته بعطر الشهادة.
3- الذوبان في القادة الإلهيين:
عندما تختمر العقيدة ويترسخ المبدأ يذوب الإنسان في القائد الذي يجسد ذلك المبدأ ويبدو متفانياً في الدفاع عنه كالمجنون، وهذا ما نلحظه في بعض أنصار سيد الشهداء، فقد تقدم عابس بن شبيب الشاكري للحسين(ع) قائلاً: (يا أبا عبد الله أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعز عليّ ولا أحب إليّ منك! ولو قدرت على أن أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعزُّ عليّ من نفسي ودمي لفعلته! السلام عليك يا أبا عبد الله، أشهد الله أني على هديك وهدي أبيك، ثم مشى بالسيف مصلتاً نحوهم، يقول رجل همداني شهد ذلك اليوم يقال لـه ربيع بن تميم: فرمي بالحجارة من كل جانب، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره، ثم شد على الناس فو الله لرأيته يكرد (أي يطرد) أكثر ما مائتين من الناس (5)، ويقال أن أحد الأصحاب قال له: أجننت يا عابس فقال: «إن حب الحسين أجنني»، (وقيل لمحمد بن بشير الحضرمي في تلك الحال: قد أسر ابنك بثغر الري ! قال: عند الله أحتسبه ونفسي، ما كنت أحب أن يؤسر وأن أبقى بعده! فسمع الحسين (ع) قوله: فقال: رحمك الله! أنت في حلِّ من بيعتي فاعمل في فكاك ابنك! فقال: أكلتني السباع حياً إن فارقتك(6)!!
واقعاً قد يصاب القارئ بالذهول حينما يقرأ تلك المواقف المدهشة التي تكشف عن عمق الانصهار في بوتقه القيادة الإلهية.
4- التفكر وموازنة الأمور بالمعيار الحقيقي:
يشهد لأنصار الحسين (ع) أنهم أقدموا على المعركة عن قناعةٍ تامة لأن الحسين (ع) قد نعى نفسه إليهم وقد خيّرهم في ليلة العاشر من المحرم قائلاً (هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرّج الله، فإن القوم إنما يطلبونني، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري(7) إلا أنهم قد ثبتوا وواصلوا الطريق معه حتى الشهادة، لكن لقائل أن يقول لربما وقفوا معه تعصباً، حالهم حال رجال القبيلة المتعصبين لقبيلتهم إلا أن الاطلاع على سير بعضهم يدفع هذا القول فدونك الحر بن يزيد الرياحي الذي كان أحد قادة جيش ابن زياد لقتال الحسين إلا أنه حينما أدرك أن القتال حتمي خاطب عمر بن سعد قائلاً: أي عمر! أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال: إي والله قتالاً شديداً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي، قال: أفما لكم فيما عرضه عليكم رضى؟ قال عمر: أما لو كان الأمر إلي لفعلت، ولكن أميرك قد أبى(8).
فأخذ الحر يدنو من الحسين قليلاً قليلاً، فقال لـه مهاجر بن أوس ما تريد يابن يزيد؟
أتريد أن تحمل؟ فلم يجبه فأخذه مثل الأفكل وهي الرعدة، فقال لـه المهاجر: إن أمرك لمريب! والله ما رأيت منك في موقف قط مثل هذا، ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة؟ لما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك؟ فقال لـه الحر: إني والله أخيِّر نفسي بين الجنة والنار، فو الله لا أختار على الجنة شيئاً ولو قطعت وأحرقت، ثم ضرب فرسه فلحق بالحسين(ع) (9).
إذن نصرة الحسين كانت ناشئة عن وزن الأمور بالميزان الحقيقي بعد التفكر فيها وهو نيل رضوان الله والجنة.
5- التوفيق وحسن العاقبة:
يحدثنا التاريخ أن الحسين مرّ في طريقه إلى كربلاء على خيمة زهير بن القين فأرسل إليه يدعوه إلى نصرته، فتثاقل زهير من إجابة دعوة الحسين (ع) فعاتبته زوجته قائلة: ابن بنت رسول الله يدعوك ولا تجيبه، فذهب زهير [الذي كان عثماني الهوى أي أنه كان يخطأ أمير المؤمنين ويرى مظلومية عثمان ابن عفان] إلى خيمة الحسين ورجع إلى خيمته باذلاً مهجته لنصرة الحسين، فقد توفرت لـه أسباب التوفيق التي منها الزوجة الصالحة مما أسهم في حسن عاقبته باتباع سيد الشهداء بعد أن استيقظ ضميره، ولذلك نراه يجيب الحسين في ليلة العاشر بعد أن خيّرهم قائلاً:
(والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل كذا ألف قتلة وأنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك)(10).
تلك محطات خمس في حياة أنصار الحسين (ع) أحببت أن أتطرق لها وما أكثر المحطات في سيرتهم التي أحرى أن تكتب بماء الذهب، وماذا عساني أن أقول؟ أكتفي ببيتين للسيد رضا الهندي حيث يقول:
أدركوا بالحسين أكبر عيدٍ فغدوا في منى الطفوف أضاحي
بأبي من شروا لقاءَ حسينٍ بفــــراق النفوس والأرواح(11)
الهوامش والمصادر
- (1) الإرشاد للمفيد ص: 257.
- (2) الفتوح ج 5، ص: 169.
- (3) مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة ج4 ص: 155.
- (4) مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة ج4 ص: 155.
- (5) تاريخ الطبري ج3 ص: 329.
- (6) اللهوف للسيد ابن طاووس ص: 41.
- (7) تاريخ الطبري ج4 ص: 317.
- (8) بحار الأنوار ج 45 ص: 10.
- (9) بحار الانوار ج 45 ص: 11.
- (10) تاريخ الطبري ج4، ص: 318.
- (11) مجمع مصائب أهل البيت ج1 ص: 113.