السيدة زينب عليها السلام قائدة المسيرة الحسينية
بسم الله الرحمن الرحيم
السيدة زينب (عليها السلام): قائدة المسيرة الحسينية
الولادة المباركة
في كنف الحبيب المصطفى محمد بن عبد الله(صلى الله عليه وآله)، وفي حضن سيدة نساء العالمين السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)، وتحت ظلال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) وإلى جانب سيدَي شباب أهل الجنّة الإمامَين الحسن والحسين(عليهما السلام) وُلدت وعاشت وتربّت العقيلة الهاشمية زينب بنت علي (عليهما السلام).
فتجسّدت فيها معالم نبوّة جدّها، وشمائل أمّها بكلّ جلالها وجمالها، وشخصية أبيها بكلّ تقواها وعلمها، ومكارم وتضحيات أخوَيها، وبهذا ارتسمت معالم تلك الشخصية التي ورثت من ذلك البيت الهاشميّ كلّ معاني العزّة والعظمة.
أطلّت على الدنيا وليس في قلبها وعلى لسانها إلّا توحيد الله سبحانه الذي من أجله بُعث جدّها النبيّ محمد(صلى الله عليه وآله)، فكان العقل والقلب عندها لا مكان لأحدٍ فيهما إلّا لحبّ الله تعالى، وهذا ما أظهرته لأبيها علي(عليه السلام) في سنوات عمرها الأولى عندما أراد أن يختبر ذكائها وعقلها وحينما قال لها: ” قولي واحد”، فقالت: “واحد”، فقال: “قولي اثنين” فسكتت، فطالبها (عليه السلام): “تكلّمي يا قرّة عيني” فقالت: “يا أبتاه، ما أطيق أن أقول اثنين بلسانٍ أجريته بالواحد”.
وازداد تألّقها وإعجاب علي (عليه السلام) أكثر فأكثر عندما سألته قائلةً: “أتحبّنا يا أبتاه؟…”
فأسرع الإمام (عليه السلام) قائلًا: ” وكيف لا أحبّكم وأنتم ثمرة فؤادي”
فأجابته بكلّ أدبٍ واحترام: ” يا أبتاه إنّ الحبّ لله تعالى، والشفقة لنا “.
فكان جوابها جواب العالمة العارفة بالله تعالى.
وكيف لا تكون كذلك وهي التي حملها الإمام علي (عليه السلام) واحتضنها في تلك اللّحظة التي حملتها الزهراء (عليها السلام) إليه قائلةً له: “سمِّ هذه المولودة..”
فأجابها (ع) بتواضعه وأدبه المعهود: “ما كنت لأسبق رسول الله(صلى الله عليه وآله)..”
وعرض الإمام (عليه السلام) على النبيّ(صلى الله عليه وآله) أن يسمّيها، فقال(صلى الله عليه وآله): “ما كنت لأسبق ربّي..”
وفي هذه اللّحظة هبط جبرائيل (عليه السلام)، رسول السماء على قلب النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وقال له: “سمِّ هذه المولودة (زينب)، فقد اختار الله لها هذا الاسم..”
وانضمّ إلى هذا البيت النبويّ الطاهر مولودًا جديدًا ليحمل معه عبء الرسالة وهمومها وشرف الدفاع عنها، وكانت بحقّ سليلة ذلك البيت الذي أنزل الله تعالى بحقّه آية المباهلة، وهي قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾1.
هذه الآية التي شهدت لعائلتها بواحدةٍ من الكرامات والفضائل التي لم يحصل على شرفها أحدٌ من الخلق، فكانوا نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ونساؤه، وأبناؤه. وكانوا لحمه ودمه…
وفي بعض الروايات أنّها سُمّيت الصدّيقة الصغرى، للفرق بينها وبين أمّها الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام).
هموم وأحزان الولادة
ليس عجيبًا وغريبًا أن يقترن اسم (زينب) بالهموم والأحزان، وأن يكون ذكرها مصاحبًا للآلام والمصائب…ألم يكن من حقّ البيت الذي وُلدت فيه أن يحتفل أهله بمولودتهم الجديدة، وأن تغمرهم الفرحة والبهجة، ويزدانوا بالسرور بأوّل طفلةٍ يحتفي بها البيت النبويّ العلويّ الفاطميّ الذي سبق وأن ازدان بالوليدَين المبارَكَين الحسن والحسين (عليهما السلام)2.
ولكنّ الحال أنّ البيت العلويّ التفّت عليه ظلال الحزن والأسى، وتبدّلت الأفراح أحزانًا والسرور آلامًا عندما أذاع عليهم النبيّ المصطفى(صلى الله عليه وآله) نبوءته عند ولادة زينب (عليها السلام) وفي اللّحظة التي كانت فيها في مهدها الجميل، حيث تنقل لنا الروايات خبر مسارعة النبي (صلى الله عليه وآله) إلى بيت بضعته حينما علم بنبأ الولادة وهو خائر القوى، حزين النفس، فأخذ زينب(عليها السلام) ودموعه تنهمر على خدّيه الكريمتَين، وضمّها إلى صدره، وجعل يوسعها تقبيلًا، فتعجّبت السيدة الزهراء(عليها السلام) من بكاء أبيها، فانبرت قائلةً: “ما يبكيك يا أبتي، لا أبكى الله لك عينًا؟..”
فأجابها بصوتٍ خافتٍ حزين النبرات: “يا فاطمة، اعلمي أنّ هذه البنت بعدي وبعدك سوف تنصبّ عليها المصائب والرزايا..”.
لقد أخبر(صلى الله عليه وآله) بالمأساة قبل وقوعها بنصف قرنٍ، كما أخبر عن ذلك عند ولادة أخيها الحسين(عليه السلام) وهذه الحال نفسها حصلت عندما أقبل سلمان الفارسي(المحمدي)(رضوان الله عليه) على الإمام علي(عليه السلام) يهنّئه بوليدته، فألفاه واجمًا حزينًا، يتحدّث عمّا سوف تلقاه ابنته في كربلاء، وبكى علي(عليه السلام) الفارس الشجاع ذو اللواء المنصور، فاتح باب خيبر، والملقَّب بأسد الإسلام!
وفي الحديث عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: “من بكى على مصاب هذه البنت كان كمن بكى على أخوَيها الحسن والحسين (عليهما السلام)” .
ولذلك كانت زينب (عليها السلام) تاريخًا من المأساة التي كُتبت على صفحات التاريخ بدماء الحسين (عليه السلام) وأخذها مع حرائر النبوة من كربلاء إلى الشام.
مسيرة الأحزان في حياتها
واكبت العقيلة زينب (عليها السلام) منذ ولادتها مسيرة من الآلام والأحزان وأحاطت بها المحَن والخُطوب، وتجرَّعت أقسى وأمرَّ ألوان المصائب.
فما زادها ذلك إلّا عزمًا وإيمانًا وثيقًا بالله تعالى، وانقطاعًا كاملًا إليه سبحانه وتعالى، وصبرًا على جميع هذه النوائب والفجائع.
وكانت أولى الرزايا فجيعتها مع الأمّة الإسلامية بجدّها رسول الله(صلى الله عليه وآله) الذي كان يفيض عليها بحنانه وعطفه، ثمّ كانت الشاهدة على الأحداث الرهيبة والمروعة التي عصفت بدار أمّها الزهراء ودخول القوم إليه وإحراقهم البيت، وإقصاء أبيها أمير المؤمنين(عليه السلام) عن مقامه الذي اختاره الله تعالى له، ثمّ شهادته في محراب صلاته. وتوالت هذه المصائب والأحزان حين رأت شقيقها الإمام الحسن الزكيّ(عليه السلام) وقد غدر به أهل الكوفة وتخاذلوا عن نصرته ومالوا إلى معاوية إلى أن قضى مسمومًا شهيدًا، يتقيّأ الدم من شدّة السمّ حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.
ولم تنتهِ الأحزان بما جرى يوم الطفّ، بل كانت من هناك بداية أحزانٍ جديدة، ومرحلة تاريخية تحمل معها مصائب أعظم وأكبر ممّا جرى قبل ذلك. فكانت كربلاء وما أدراك ما كربلاء!!
زينب (عليها السلام) ورسالة الثورة
أجمع المحقّقون والباحثون أنّ الباعث الأساس للثورة والنهضة على الظلم الأمويّ، هو شخص الإمام الحسين(عليه السلام) الذي كان له الدور الأكبر في إشعال لهيب الثورة والانطلاق نحو إيقاظ الأمّة من نومها العميق، وما كان لهذه النهضة أن تستمرّ وتبقى، بل كان من المقدَّر لها بفعل ما تملكه السلطة الجائرة من وسائل وأساليب أن تذيب جميع آثار تلك الجريمة البشعة التي ارتكبتها أياديها الآثمة والمجرمة.
ولكن ها هو صوت الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام) ومعه صرخات زينب(عليها السلام) وصبرها وجلَدها يكمل مسيرة الثورة، ويتمكّن، بجرأته وقوّته من أن يوصِل ويمدّ بلهيبها إلى جميع أنحاء العالم ليصل صوت الحسين(عليه السلام)، ويزكو دمه، وينمو في جسم الأمّة الخانعة ولتتحوّل من بعد ذلك إلى أمّة الرفض للذلّ والخنوع الذي كانت قد استسلمت معه للطاغية يزيد.
وكانت الشرارة الأولى للثورة التي أطلقتها على الحكم الأمويّ واستكمالًا منها لثورة أخيها الحسين(عليه السلام) عندما أقبلت إلى ساحة المعركة وهي تشقّ صفوف الجيش تفتّش عن جثمان أخيها الإمام العظيم، فوقفت أمامه وأبصار الجيش شاخصة إليها، تنتظر منها ماذا تقول أمام هذه الخطوب المذهلة!!
وقفت(سلام الله عليها) غير آبهةٍ بالأعداء، ولا بالرزايا التي تميد منها الجبال، وشخصت ببصرها إلى السماء، وهي تقول بحماسة الإيمان وحرارة العقيدة: “اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان”.
وبهذه العبارات كشفت عن عظمة التضحية التي قُدّمت على أرض كربلاء أمام الجيش الذي استبان له بموقف زينب عِظَم ما اقترفه من الإثم والعدوان.
وعندما خرجت حشود الجماهير في الكوفة لتستقبل سبايا أهل البيت(عليهم السلام) اعتقادًا منهم بأنّ الركب يضمّ سبايا الخارجين عن الإسلام، وقفت السيدة زينب (عليها السلام) لتلقي خطابًا مثيرًا ومذهلًا، ممّا جعل الناس حيارى لا يعون ولا يدرون، وتحوّلت بيوتهم إلى مآتم وهم يندبون حظّهم التعيس ويبكون على ما اقترفوه من الجُرم، واستطاعت بما ورثته من جرأةٍ حيدريّة أن تفضح السلطة وأذنابها وتُحمِّل المسؤولية لكلّ متخاذلٍ ومتقاعسٍ ومنافق. وممّا قالته: “أمّا بعد، يا أهل الكوفة يا أهل الختل والخذل أتبكون! فلا رقأت الدمعة، إنّما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوّةٍ أنكاثًا. تتّخذون إيمانكم دخَلًا بينكم ألا بئس ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون. أتبكون وتنتحبون!! أي والله فابكوا كثيرًا، واضحكوا قليلًا كل ذلك بانتهاككم حرمة ابن خاتم الأنبياء وسيّد شباب أهل الجنّة… أتدرون ويلكم يا أهل الكوفة؟ أي كبدٍ لرسول الله(صلى الله عليه وآله) فريتم، وأيّ دمٍ له سفكتم، وأيّ حرمةٍ له انتهكتم؟ لقد جئتم شيئًا أدًّا تكاد السماوات يتفطّرنَ منه، وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدًّا”.
وفي الشام وقفت تتحدّى يزيد وطغيانه، وهي المرأة المفجوعة التي أرهقتها آلام كربلاء، وأتعبتها مسيرة السبي من كربلاء إلى الكوفة ثمّ إلى الشام، وهي أعظم المخدّرات وأشرف النساء.
تدخل على الطاغوت والسفّاك المجرم، وهي مقيَّدة وابن أخيها العليل وسائر الأسرى المنهوكين بالرحلة المرهقَة.
تنظر إلى عرش يزيد الزائف بكلّ تحقيرٍ وازدراء، وإلى رأس الحسين(عليه السلام) بكلّ شموخٍ وإباء، ويزيد(لعنه الله) يضرب ثنايا أبي عبد الله(عليه السلام) بمخصرة كانت في يده وهو يتمثّل بأبيات الشاعر فيقول:
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا***جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلّوا واستهلّوا فرحاً***ولقالوا يا يزيد لا تشلّ
فقامت (عليها السلام) وقالت: “أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض، وضيّقت علينا آفاق السماء، فأصبحنا لك في إسار…أمِنَ العدل يا بن الطلقاء تخديرك حرائرك وسوقك بنات رسول الله(صلى الله عليه وآله) سبايا قد هُتكت ستورهنّ وأُبديَت وجوههنّ يحدوا بهنّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد..”
ثمّ توجّهت إلى الله تعالى بالدعاء بقلبها الكبير فقالت: “اللّهمّ خُذ بحقّنا، وانتقم من ظالمنا، واحلُل غضبك بمن سفك دمائنا، وقتل حُماتنا وهتك عنّا سدولنا”.
ولم تتوقّف مسيرة زينب (عليها السلام) ورسالتها التي حملتها على عاتقها منذ استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام) بل مضت بنفس العزيمة والإرادة لتنقل الأحداث التي خفِيَت على الأمّة من بلدٍ إلى بلد، فأشعلت لهيب الحرقة والحسرة في قلوبٍ قسَت وعقولٍ خمدَت نتيجة التخدير الذي مارسه بنو أميّة بحقّها.
وها هي كلماتها تصدَح إلى يومنا الحاضر في آذان المؤمنين تبشّرهم بأنّ لكلّ ظالمٍ نهاية ومن ذلك قولها أمام يزيد بن معاوية: “ثمّ كِد كيدَك، واجهد جهدك، فوالذي شرّفنا بالوحي والكتاب، والنبوّة والانتجاب لا تدرك أمدَنا، ولا تبلغ غايتنا، ولا تمحو ذكرنا، ولا ترحض عنك عارنا، وهل رأيك إلّا فنَد وأيّامك إلّا عدد، وجمعُك إلّا بدَد يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين”.
سلامٌ عليك أيّتها الحوراء الإنسيّة، الصدّيقة الطاهرة، مع كلّ نسمة هواءٍ نتنفّس معها عبير الولاء والعشق لأعظم نهجٍ خطّه الإمام الحسين (عليه السلام) بدمائه الزكيّة الطاهرة، واستكملته العقيلة زينب بصبرها وجهادها.
والحمد لله ربّ العالمينن
المصادر والمراجع
1- سورة آل عمران، الآية: 61.
2- وفيّات الأئمة، ص433.