ثقافة

الاختبار الإلهيّ للإنسان

قانون الاختبار

قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾1.

يقوم النظام الاجتماعيّ والأخلاقي للإنسان في الحياة على مجموعة من القوانين والأنظمة التي أرادها الله تبارك وتعالى أن تسير عليها الحياة البشريّة لأجل تكاملها المعنويّ والروحيّ.

ولذلك ينبغي على الإنسان الإيمان المطلَق بكلّ ما أوجبه الله تعالى عليه، والتسليم الكامل والالتزام بكلّ تكليفٍ إلهيّ حتى لو كان يراه في الظاهر غير موافقٍ له، لأنّه سبحانه وتعالى لا يمكن أن يضع من القوانين إلّا ما هو الصالح والنافع لبني البشر.

وعند هذا الأمر تقف حدود الحرية المعطاة للإنسان، وبهذا يَمِيز الخبيث من الطيّب، والصالح من الفاسد، والمؤمن من الجاحد المتكبّر.

ومن أعظم السُنَن والقوانين الإلهيّة الموجِبة للتكامل الإنسانيّ قانون الابتلاء والامتحان والاختبار، والابتلاء هو إنزال مضرّة بالإنسان على سبيل الاختبار كالمرض والفقر والمصيبة. وقد يكون الاختبار في الخير كالغنى والصحة والعافية، إلّا أنّه كثيرًا ما يُستعمَل في الشرّ.

وهذا القانون يشمل جميع الموجودات الحيّة، وبه تطوي مسيرة تكاملها، حتى الأشجار تعبّر عن قابليّاتها الكامنة بالأثمار. من هنا فإنّ كلّ البشر، حتّى الأنبياء (عليهم السلام)، مشمولون بقانون الاختبار الإلهيّ.

لذلك فالاختبار والامتحان يشمل الجميع وإن اختلفت شدّته، وبالتالي تختلف نتائجه، فالاختبار من الله تعالى للعباد يختلف من شخصٍ لآخر، وبحسب قدرة كلّ إنسان على التحمّل، ولذا يختلف امتحان الأنبياء (عليهم السلام) عن امتحان سائر البشر لتفاوت القدرات بينهم.

ومن خصائص الاختبار وأسبابه تمحيص النفس الإنسانيّة، وترويضها على القيام بمسؤوليّاتها تجاه الخالق المنعم، وتدريبها على الطاعة لله عزَّ وجلّ، والتزامها بالتكليف الشرعيّ الذي هو الهدف الأساس الذي يسعى المؤمن دائمًا إلى تحقيقه، لأنّ في مقابل الالتزام الكامل به تحقيق رضا الله سبحانه وتعالى. فقد يكون التكليف الإلهيّ الشرعيّ في بعض الأحيان مخالفًا لمزاج الإنسان وهواه، وهنا تكون الفرصة السانحة التي لا يحبّ الشيطان أن يفوّتها، فيدخل على عقل الإنسان وروحه ليحاول ثني الإنسان عن أداء هذا التكليف، إمّا من خلال تثبيط عزيمته أو بتحريك هوى النفس الأمّارة بالسوء باتّجاه رغباتها وبالتالي ترك التكليف.

وفي مثل هذه الحالة يكون الأمر الإلهيّ نوعًا من الابتلاء والامتحان من الله تعالى لعبده، وهنا تتجلّى روح المؤمن الواثق بما عنده سبحانه وتعالى لتتخلّى عن الرذائل والخبائث، وتخلع عنها رداء الشيطان الوسواس، وترتدي ثوب الطاعة والعبوديّة، فتظهر بأجمل وأبهى حُلّة، وتكون المصداق الحقيقيّ لقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾2.

اختبار الأنبياء (عليهم السلام)

إنّ فلسفة الاختبار الإلهيّ والأسباب الكامنة وراءه تقتضي أن يكون الأنبياء والرُسُل والأئمة (عليهم السلام) أولى النّاس به، وأكثر الناس تعرّضًا له.

ويعرض لنا القرآن الكريم نماذج متعدّدة لاختبارات الأنبياء (عليهم السلام) ومن ذلك:

التكليف الإلهيّ الذي اختبَر به الله عزَّ وجلَّ خليله إبراهيم عليه السلام الذي لم يرزقه الله تعالى الذريّة والأولاد في بداية حياته لمشكلةٍ في زوجه التي كانت عاقرًا، فالتجأ (عليه السلام) إلى ربّه سبحانه وتعالى الذي بيده كلّ الأمور، فاستجاب له طلبه، وكانت البشرى الإلهيّة بأن رزقه الله تعالى إسماعيل من هاجر غير زوجته الأولى سارة، ووصف الله تعالى هذا الولد بأنّه غلامٌ حليم، ثمّ كانت البشرى الثانية بأن رزقه تعالى إسحاق من زوجته الأولى وبعد أن كانت عاقرًا، قال تعالى: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ﴾3.

ثمّ كان الاختبار العظيم الذي قد يسقط في الالتزام به الإنسان العادي، والذي لم يصل إلى المقام الإيماني العظيم الذي وصل إليه النبي إبراهيم عليه السلام. وكان الأمر من الله تعالى لنبيّه إبراهيم عليه السلام بأن يذبح ولده فقط طاعة لله من دون معرفة السرّ الكامن وراء ذلك.

هنا الموقف الكبير والقرار الذي وصل لا مداهنة فيه، وهو الانقياد التامّ لأمر الله تعالى والطاعة والتسليم، فقاد إبراهيم عليه السلام ولده الذي جاءه بعد دعاءٍ استجابه الله تعالى له، ولكن إذا كان الله تعالى هو الذي أعطى فله كلّ شيء، وعلى إبراهيم أن يطيعه.
وتتجلّى الطاعة عند إسماعيل عليه السلام ، هذا الفتى الذي خاطب أباه بالطاعة، فكان المشهد الرائع الذي حدّثنا الله تعالى عنه بقوله: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾4.

ولم يكن المنام شيئًا عابرًا، بل رؤيا من نبي، فهي أمرٌ إلهيّ وتكليفٌ ربانيّ.

ولم يكن شأن إبراهيم وكذلك إسماعيل (عليهما السلام) بالامتثال إلى طلب عملية الذبح مجرّد الطاعة العمياء، بل إنّها حالة التسليم والخضوع والخشوع، والقناعة التامّة، وقد تمثّل ذلك بالإذعان الفوريّ دون جدال أو نقاش.

ومقابل التسليم من العبد الصابر المحتسِب، لا يمكن أن نغفَل عن ربّ العالمين، ذو الرحمة الواسعة، الذي يمدّ عباده وينصرهم ولا ينساهم إذا هم نصروه ولم ينسَوه، فعندما أسلَمَ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) للأمر الإلهيّ، وجلس الولد في المذبح، واستلّ الوالد سكّينه دون اضطرابٍ أو قلق، جاء النداء من السماء، والوحي من الله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾5.

لقد تجلّت الطاعة للتكليف الإلهيّ والتسليم أمام أعظم اختبار يمكن أن يخضع له الكائن البشري، فلم يختلق إبراهيم عليه السلام ولا ولده عليه السلام المبرّرات لمخالفة أيّ تكليفٍ طلبه الله تعالى منه.

ومن هو الإنسان الذي يحتمل أن يذبح ولده فقط طاعةً لله، ولأنّ الله أمره بذلك دون أن يعرّفه سرّ ذلك، إلّا من كان يحمل اليقين والتسليم الذي كان عليه أنبياء الله تعالى.

ولنا في صبر أيّوب عليه السلام أمام الاختبار الإلهيّ درسًا وموعظة في امتحان الله تعالى لعباده، والذي استتبع المقام العظيم، والكرامات الكبيرة التي أعطاها الله لهذا العبد الصابر المحتسِب الراضي بما عند الله تعالى.

فقد روي أنّ أيوب عليه السلام لما جهده البلاء قال: “لأقعدنّ مقعد الخصم”، فأوحى الله إليه: “تكلّم”، فجثا على الرماد فقال: “يا ربّ إنّك تعلم أنّه ما عُرِضَ لي أمران قطّ كلاهما لك رضىً إلّا اخترتُ أشدّهما على بدني”، فنوديَ من غمامةٍ بيضاء بستة آلاف لغة: فلمن المنّ؟ فوضع الرماد على رأسه وخرّ ساجدًا ينادي: “لك المنّ سيدي ومولاي، فكشف الله ضرّه6.

فكان الاختبار لأيوب عليه السلام مصلحة وفائدة حيث كشف عن قابليّاته واستعداداته العمليّة لمثل هذه التجربة، وكان الجزاء إفاضة الرحمة الإلهيّة وكشف البلاء والضرّ عنه.

والحال في نبيّنا الأعظم محمّد بن عبد الله(ص) لم يكن أقلّ ممّا سبق في سيرة أنبياء الله تعالى، فهو الذي لم يعرف الراحة والطمأنينة يومًا، وهو الذي تعرّض لصنوف الاختبار والابتلاء والعذاب والتنكيل من تلك الأمّة التي لم تقدّر قيمة الرسالة التي يحملها، فمقابل الرحمة التي طبعت الهدف العام من رسالته السامية لم يجد إلّا محاولات القتل والتشريد، فاستحقّ بما صبر امتيازًا ووسامًا لم يسبق لنبيٍّ أن حمله، وكفاه في ذلك أنّه سيّد الأنبياء وخاتمهم، وأشرف من خلق الله تعالى في هذه الدنيا من الأوّلين والآخرين.
وفي اختبار الله تعالى لسيّد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام رأينا كيف أنّه قابل ذلك بالقول: “هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله تعالى”، وافتدى الدين والرسالة بنفسه وأهل بيته ونسائه وأطفاله وأصحابه.

كيف نواجه الاختبار لتحقيق الفوز

إنّ السُنّة الإلهيّة في عباده- كما تقدَّم- هي دوام اختبارهم وامتحانهم.

قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾7.

وليس الاختبار لمجرّد الاختبار، بل هو سرٌّ من الأسرار الإلهيّة الكبيرة، وليس أمام الإنسان سوى طريقٍ واحد أمامه وهو التسليم، وتثبيت إيمانه عند الشدائد، والبقاء في موقفٍ صلب، وبهذا يتذوّق حلاوة الإيمان، وطعم اليقين.

وكما أنّ اختبار الله تعالى لعباده-يختلف من شخصٍ لآخر، كذلك يتفاضل الناس في درجات الإيمان تفاضلًا كبيرًا، فمنهم من لا يتزعزع إيمانه مهما كانت النوائب، ومنهم من يسقط في أوّل اختبار. ومن العنوان الأساس في مواجهة الاختبار وهو ثبات الإيمان تتفرّع مجموعة من العوامل الأخرى التي إذا التفتَ إليها الإنسان المؤمن فإنّه بلا شكّ يتجاوز أعظم الاختبارات ومنها:

أوّلًا: الصبر على المكاره والنوائب، وهو أعظم أقسام الصبر، وأهمّ مصاديقه الدالّة على سموّ النفس، فالإنسان عُرضةً للمآسي والأرزاء، وهو لا يملك إزائها حولًا ولا قوّة، وخير ما يفعله الممتَحَن هو التحلّي بالصبر، فإنّه بلسم القلوب الجريحة، وعزاء النفوس المعذَّبة.

قال الله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾8.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: “لا يعدم الصبور الظفر، وإن طال به الزمان”9.

ثانيًا: اليقين بزوال هذه الدنيا ومصاعبها، ويتحقٌّق هذا بالالتفات إلى نكبات الحياة ومشاكلها مهما كانت شديدة وقاسية، فهي مؤقّتة وعابرة، وهذا الإدراك يجعل كلّ المشاكل والصِعاب عرَضًا عابرًا وسحابة صيف، وهذا ما يؤكّده القرآن الكريم بقوله تعالى:
﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾10.

وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: “الجنّة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنّة، وجهنّم محفوفة بالّلذات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذّتها وشهوتها دخل النّار”11.

فمن دعائم الإيمان القويّة للنجاح في الاختبار الصبر على النوائب، وعدم الاستسلام، والصبر عليها مع القدرة على درئها وملاقاتها فذلك أمرٌ يستنكره الإسلام، كالصبر على المرض وهو قادر على علاجه، وعلى الفقر وهو يستطيع اكتساب الرزق، وعلى هضم الحقوق وهو قادر على استردادها وصيانتها.

ثالثًا: التوجّه الدائم إلى الله تعالى: فهو سبحانه عالمٌ بكلّ ما يجري على عبده من مصائب ونكبات، وعلى العبد أن يعتبر ذلك كلّه في محضر الله سبحانه وتحت نظره، فهو تعالى المؤثّر في الوجود ولا أحد سواه، ومن الخطأ بل من عدم الإيمان التوجّه إلى غيره تعالى.

فالنبي نوح عندما واجه أعظم المصائب والضغوط من قومه وهو يصنع الفلك، جاءه نداء التثبيت الإلهيّ ليقول له: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا﴾12.

وفي الختام نقول: إنّ من الاشتباه الكبير أن يظنّ المؤمن بأنّه في الحياة الدنيا يمرّ بلا امتحانٍ وبلا اختبار، ليعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، وليَمِيز الخبيث من الطيّب.

قال تعالى: ﴿مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾13.

والحمد لله ربّ العالمين


المصادر والمراجع

1- سورة البقرة، الآية: 155- 156
2- سورة النازعات، الآية: 41.
3- سورة هود، الآيات: 71-73
4- سورة الصافّات، الآية: 120
5- سورة الصافات، الآيات: 103-111
6- بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 12، ص 353، ح 24.
7- سورة العنكبوت، الآية: 2.
8- سورة البقرة، الآيات: 155-157.
9- نهج البلاغة، الحكمة: 135.
10- سورة الانشراح، الآيتان: 4-5
11- الوافي، ج3، ص 65.
12- سورة هود، الآية: 37.
13- سورة آل عمران، الآية: 179.

المصدر
مجلة رسالة القلم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى