ضعف الإقبال على قراءة الكتب الدينية الأسباب والحلول
رغم وضوح أهميّة الكتب الدينيّة والبحوث الإسلاميّة في رفد عقائد الناس وتقويم سلوكهم وبناء أخلاقهم، وكونها من الدعائم التي لا غنى عنها في تعريفم بالإسلام وكيفيّة عبادة الله (سبحانه وتعالى) والتقرّب منه، وبملاحظة التطوّر الهائل في وسائل النشر والطبع وسهولة اقتناء الكتاب إلا أن حجم الإقبال والقراءة عليها لا يزال خجولاً وتحت المستوى المأمول كثيراً، حتى باتت ظاهرة ضعف الإطلاع وقراءة الكتب الإسلاميّة سمة من سمات مجتمعاتنا الممتحنة والمتعبة، وهذا ليس في الصالح إطلاقاً، فالأمّة التي تضعف فيها روح القراءة الدينيّة الجادّة هي عرضة لا محالة إلى تسرّب الضلالات والخرافات والأفكار المنحرفة، وبالتالي انتشار الرذائل وتضعضع القيم، ممّا يعني ضياع هويّتها الإسلاميّة وتلاشيها بالتدريج.
وحيال ذلك لا ينبغي التراخي والفتور أمام الأسباب الحقيقيّة المراكمة لهذا الضعف، والتغافل عن أبرز العوامل التي تغذّيه وتضاعفه، إضافة إلى ضرورة البحث عن الحلول الناجعة للتخلّص منها، والوثوب بالمجتمع نحو الإحساس بعظمة القراءة الدينيّة وقيمة المواظبة عليها، وبالتأكيد أن إنجاز مثل هذا لا يكفيه كتابة مقال أو بحث، من دون أن تتظافر فيه الجهود الأخرى وتجتمع فيه سائر الأيادي، فتكون هذه المحاولة مساهمة في تحقيق هذا الهدف، وخطوة في سبيل تذليل بعض عقباته، وسنبدأ إن شاء الله تعالى بذكر الأسباب أولاً ثم نعقبها بمجموعة من الحلول.
أسباب ضعف الإقبال على قراءة الكتب الدينيّة يمكن إرجاع هذه الأسباب بترتيب ما إلى قسمين رئيسيّين، الأسباب الشخصيّة الذاتيّة، وإن شئت قلت: الداخليّة، والأسباب الخارجيّة المحيطة.
أ- الأسباب الشخصيّة: ونقصد منها تلك التي تنبع من نفس الفرد أو من مشكلة أو نقص فيه، ولربما كان للمحيط والأسباب الخارجيّة دورٌ في نشوئها أو بروزها، وهي:
1- عدم الإحساس بالمسؤوليّة، أو عدم التوجّه والالتفات لها: وذلك لضعف في القابليّة والاستعداد في هضم مطالب الكتب، أو الشعور بأن القراءة مقصورة على أنماط وشرائح معيّنة من الناس، هي المخاطبة بها وهو مستثنى منها، أو لعدم الإدراك والوعي لمدى قدرته في الاستفادة من الكتب الدينيّة ومقدار التأثّر بقراءتها، وما شابه ذلك.
2- الخمول والكسل وضعف الإرادة: وهذا يحصل غالباً للذي هو على دراية ولو إجمالاً بحاجته وحاجة أسرته ومجتمعه للإطلاع على الدين والتثقّف بمسائلة ولكن يفتقر إلى قوّة العزم والصبر التي تعينه في الوصول لهذا المبتغى، فقد يبدأ بداية جيّدة في قراءة كتاب، ولكن سرعان ما يتململ ويتعب فيكسل عن إتمامه فيتركه إلى غيره وهكذا، وقد يستولي عليه الخمول وقلّة الدافع إلى ترك القراءة من رأس، والنماذج من هذا الصنف كثيرة جداً.
3- الأسلوب الخاطئ في القراءة: ونجده عادةً في الأفراد التي لا تلجأ للاستشارة والرجوع إلى من له خبرة في هذا الباب، فتقوم باقتناء الكتب الغير مناسبة، من حيث النوع، أو المستوى والصعوبة، أو من حيث الحجم مثلاً، كأن يقرأ شاب حديث العهد بقراءة الكتب الدينيّة الكتب الفلسفيّة العميقة، أو أن يقرأ كتاباً ضخماً يسبّب له العناء والكلفة في إنهائه، فيتولّد له الصد والنفور من القراءة، كما أن لعدم مراعاة بعض المشوّقات والفنون في القراءة بشكل عام – كاختيار الزمان والمكان المناسبين، وطريقة الجلوس والإضاءة و.. وإلخ – دور أيضاً في المسألة.
ب- الأسباب الخارجيّة: ونعني بها تلك الأمور المحيطة بالإنسان، والتي لها ارتباط وتأثير متبادل بحياته، ومن أهمّها:
1- قلّة الوقت، وكثرة المشاكل والانشغالات: وذلك بحكم كون القراءة تستدعي مقداراً جيّداً من الوقت، وتحتاج لشيء من التوجّه والإمعان، ومع تشتّت البال وانشغاله بالهموم والارتباطات والتي يزداد إلحاحها وثقلها بمرور الزمن وتعقّد الأيّام لا يبقى له مجال وسعة كي يتفرّغ للقراءة.
2- وجود المصادر المعرفيّة الأسهل: مثل الفضائيّات والتلفاز، وبرامج الكمبيوتر والإنترنت، والجرائد والمجلات وغيرها، وهي بلا شك مادّتها أخفّ وزناً على النفس من القراءة، وجاذبيّتها لها أكبر، ونتيجة طبيعيّة لشياع مثل هذه المصادر أن تتراجع حصّة القراءة وأن يعتبرها البعض بديلاً عن الكتاب الديني.
3- سياسات الدولة الخاطئة: للدولة نصيب كبير وفاعل في تشجيع أو تثبيط حركة القراءة في رعيّتها، لامتلاكها السيطرة في الغالب على المدارس والمناهج التعليميّة، وبيدها زمام الإعلام المسموع والمرئي، وبمقدورها لو أرادت انتشار القراءة الدينيّة أن تشجّع عليها وترصد لها الحوافز، وتبني المكاتب، وتسهّل عمل المطابع ودور النشر، وتنأى عن كل ما يحول ويقف حيال انجاز ذلك، وفي المقابل بإمكانها خلق سياسات تحارب جوّ المطالعة وشياع القراءة، خاصّة إذا كانت السلطة فيها تسعى لبقاء نفوذها وسيطرتها، وتخشى أن يكون لقراءة الكتب الدينيّة وتنوّر عقول الناس تهديد لبقائها ووجودها، وحينئذ سيصبح شغل هذه الدولة والحكومة هو تطويع كل ما لديها من إمكانيّات في صرف الناس عن القراءة الدينيّة، ولو بتضييق المعيشة والخناق عليهم حتى ينهمكوا في شؤون المعاش فيتشاغلوا عنها.
4- الغزو الثقافي ومؤامرات الإستكبار: وهي تشبه إلى حدّ ما السبب السابق في بعض مفاصله، فالإستكبار فطن أن أحد الروافد الرئيسة في تقدّمنا وتحرّرنا من ربقة العبوديّة له وللفكر الغربي هو في التمسّك بالثقافة الدينيّة الأصيلة والتراث المصون من التشويه، فبادر إلى تدبير مؤامرات تستهدف قطع الصلة بيننا وبين تراثنا وثقافتنا، ومنها محاولة إلهاء أجيالنا عن التفرّغ لقراءة الكتب الإسلاميّة، سيّما الأصيلة منها، ويكفي أن نلحظ مقدار تغلغله السياسي والعسكري في الأنظمة وتحكّمه في وسائل الإعلام العالميّة.
5- نوع البيئة والأصدقاء: ممّا لا شك فيه هو أن الذي يتربّى في عائلة محبّة للقراءة أو يحتك بجماعة أو أصدقاء يعشقون القراءة يكون أكثر تهيؤاً للإقبال عليها ممّن هو ناشٍ في محيط خلو من هذا كلّه، فالجو الملامس للفرد يؤثّر في طبيعته كثيراً، وينقل عن بعض السجناء الذين لم يسبق لهم قراءة كتاب ديني قط قبل دخولهم السجن أنهم لمّا وجدوا الأجواء العامّة في السجن تدعوا إلى القراءة، وأن الجميع كان يقرأ لم يمض وقت حتى انضمّوا مع جملة القرّاء بصورة تلقائيّة، وقد أنهوا مجموعة من الكتب، والخلاصة من هذا أن الجلوس مع الجماعات أو الأصحاب الذين لا يعبأون بالكتاب والقراءة يعدّ من أسباب الضعف أيضاً.
أبرز الحلول الناجعة من المناسب في تنظيم وذكر الحلول للأسباب والعوامل المتقدّمة هو اللجوء لنفس التقسيم السابق، فيكون لدينا حلول للأسباب الشخصيّة، وأخرى للأسباب الخارجيّة.
ولكن لابد قبل ذلك من التنبيه إلى أن الحلول بعضها في عهدة الفرد أو المكلّف وبيده سبيل التحرّك نحو تحقيقها، والبعض الآخر هو خارج عن نطاقه وداخل في مسؤولية المجتمع أو علماء الدين والمثقفين، أو يقع على عاتق الدولة، وما سيذكر إن شاء الله هنا من حلول هو ما يخص الفرد، فهو الأوفق لهذا المقال.
أ- حلول الأسباب الشخصيّة:
1- الرجوع إلى أحد العلماء أو المربّين الفاضلين الذين لهم خبرة جيدة في معرفة القابليّات ولديهم إلمام كاف بأسرار القراءة وشؤونها من أجل عرض المشكلة عليه، فكل حالة يناسبها علاج خاص، وهذا العالم أو المربي هو من بيده تشخيص الحالة والعلاج.
2- الشعور بالخمول وضعف الإرادة والصبر في مزاولة القراءة إذا كان بسبب طبيعة في الفرد تلازمه في كل شيء فمن الجيد مراجعة ما ذكره علماء الأخلاق وماورد من روايات شريفة في تقوية عزم الإنسان ورفع همّته، أما إذا كان منشؤها هو نفس القراءة والكتب الدينيّة فمن الممكن اللجوء إلى ما يلي:
أ- محاولة تجديد روحيّة النفس باستشعار عظمة القراءة، ودورها في نصرة الدين والتقرّب من الله تعالى، وتذكّر الثواب الجزيل المذخور لها، فكأنّها مثل الصلاة المأجور عليها، وأكبر معين وباعث للزخم والتشجيع على ذلك هو المستفاد من الروايات ومن قصص وتجارب العلماء، ويمتاز أسلوب القصّة أنه محبّب وأخّاد ويأسر القلب ويوجّهه من دون أن يشعر صاحبه أن أحداً يأمره، وهذا الأمر مجرّب كثيراً.
ب- القراءة الجماعيّة، أي بين شخصين أو أكثر، فقد يورث هذا نوعاً من النشاط في النفس ويرفع الضجر والملل.
ج- محاولة تلخيص ما يقرأ للآخرين وللأصدقاء، وبالخصوص الفئة التي تقدّر مسائل الدين وتحترم ذخائر الكتب، فإصغاؤهم له وتفاعلهم معه هو أكبر حافز له لمواصلة القراءة، لأنه يشاهد ثمرة ما يقرأ بأم عينيه، وبالوقت نفسه يسعى للتزوّد برصيد آخر من المعلومات كي يحدّثهم به لاحقاً وهكذا.
د- استخدام طريقة المشارطة والمراقبة والمحاسبة التي يذكرها علماء الأخلاق، فقد أُثبت مدى جدواها في العديد من المسائل، أو استخدام أسلوب التأديب والزجر كما في النذر، من أجل لجم النفس التي كثيراً ما تتقاعس عمّا ينفعها وتتجاوب مع ما يضرّها بسبب إملاءات الشيطان، وذلك بأن ينذر بالإستمرار على القراءة بالصورة التي تناسبه وإذا ما تخلّف فيعمل العمل الكذائي أو يدفع الغرامة الفلانيّة، والنفس تعتاد مع ذلك بالتدريج خاصة إذا كان ما يقابل التخلّف عن النذر صعباً.
3- علاج التخبّط في التعامل مع القراءة هو بمراعاة أمرين: الأول: الرجوع إلى مرشد في اختيار نوع الكتاب، من حيث فائدته، وتناسبه مع مستوى القارئ وحاجته ووقت فراغه وما شابه ذلك.
الثاني: اللجوء إلى أساليب وفنون القراءة العامّة التي تعين في تهيئة أفضل مناخ صحي ونفسي للاستفادة من القراءة ودوامها، من قبيل: أ- الابتداء بالكتب السهلة والمحبّبة والصغيرة في البداية، وهذا أمر منطقي فحتى أبطال رياضة حمل الأثقال لم يحملوا وزن المائتين كيلو أو أكثر منذ الأيام الأولى لشروعهم في هذه اللعبة.
ب- التناغم مع نوعيّة الكتاب من حيث احتياجه للتدقيق أو القراءة البطيئة أو السريعة وما شاكل ذلك.
ج- الأكل الجيد والرياضة ومراعاة الصحّة الجسديّة والنفسيّة.
د- مراعاة ظرف المكان من جهة راحة النفس، والهدوء، والإضاءة الجيّدة، وأن يكون محصوراً كي لا يتشتّت الفكر، وألا يكون في غرفة النوم حتى لا ينعس القارئ سريعاً.
هـ – اختيار الزمان المناسب، خاصة في الأوقات التي يكون فيها الذهن صافياً ومتوقّداً كعقيب صلاة الفجر، أو السحر وأمثال ذلك.
و- الجلوس المعتدل وعدم القراءة بهيئة الاستلقاء، وأن تكون المسافة بين الكتاب والعين متوسّطة.
ب- حلول الأسباب الخارجيّة:
1- التنظيم وترتيب الأولويّات يحلّ معظم مشكلات قلّة الوقت والانشغال، ثم لابد أن نعرف أن الحياة ليست مقتصرة على إيجاد الرزق فقط، وإذا أوهمنا الأعداء أو الحكومات المستغلّة هذا الكلام فمن أجل تمرير مآربهم لا من جهة كونه صواباً.
2- زيادة الوعي والبصيرة والارتباط بعلمائنا ومراجعنا الأبرار، والتعرّف منهم على التكليف يبدّد العديد من المحاولات والدعايات المحاكة نحو فصل الأمة عن تراثها وكتبها، ويقوّم الأفكار الباطلة المتسرّبة إلينا.
3- اختيار الأصدقاء والأصحاب الصالحين والأجواء البيئيّة التي تشجّع على قراءة كتب الدين، وتجنب أصحاب العقائد الفارغة والمثبّطين لعزائم الناس.
4- فهم طبيعة ما يكنّه المستكبرون والغرب وسياسات السلطات المستغلّة من عداء وضغينة بالإسلام والمسلمين، وأن دورنا حيال مخطّطاتهم هو عدم الانغماس فيها، ومحاولة التصدّي والكشف لزيفها ما استطعنا، إضافة إلى إعتبار تحمّل عناء ذلك أحد أنواع المجاهدة والصبر الذي نحن ملتزمون به بكوننا أصحاب مبدأ ورسالة، لا نستكين ولا نستسلم أمام هكذا ظروف ونعلم بأن نهاية المطاف: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (1)، و{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (2).
الخاتمة في نهاية المطاف نتوصّل للنتائج التالية:
أ- أنه لا يكاد يوجد سبب يؤدي إلى ضعف الإقبال على قراءة الكتب الدينية من غير أن يوجد بإزاءه حلّ يرفعه أو لا أقل يذلّل من تفاقمه.
ب- لعلّ الخطوة الأولى والمهمّة لكل من يفكّر في تنمية روح القراءة في نفسه هي الرجوع للعلماء الخبراء في ذلك، فإن ملازمتهم وأخذ النصيحة منهم أخصر الطرق للوصول إلى النتائج المرجوّة.
ج- مجاهدة النفس وإلزامها العناء والصبر لتغيير ضعف الإقبال فيها إلى قوّة واندفاع نحو القراءة هو بحد ذاته مبدأ سام ورفيع ينبع من صلب الدين، وخاتمته الفوز والظفر لا محالة.
والحمد لله رب العالمين.
الهوامش والمصادر
- (1) سورة العنكبوت المباركة: 69.
- (2) سورة البقرة المباركة: 155.