أضواء على الحديث الموضوع
مقدّمة مرّ الحديث والتراث الروائي الإسلامي بمجموعة مراحل، واجتاز عدّة فصول من الزمن، وله بكل مرحلة وفصل لون وطيف يتشكّل بحسب ما تمليه عليه ظروف الساحة آنذاك، ومن الظروف الصعبة والفترات الحالكة التي سجّلها التاريخ هي تلك الحقبة التي منع فيها تدوين الحديث، وصعب معها جمع شتاته، بأسباب مضبوطة ومقيّدة في الكتب، في الوقت الـذي رافقـه قيـام فئـات متنوعة ولأغراض مختلفة بتزوير الحديث وتعمّد الكذب فيه، ونسْج فقرات مصطنعة وألفاظ موضوعة من أجل تسخيره في مآربهم، فاختلطت الأحاديث السقيمة بالصحيحة، والأفكار المشبوهة بالسليمة، حتى غزت العقائد الفاسدة والمذاهب الملتقطة عقول الناس، وصار الخطر المداهم لحفظ الحديث جدّياً، وهذا ما حذا بكثير من علماء الحديث والمهتمّين بجمعه -بعد ذلك- برد قسم كبير جداً من الروايات بحجّة الوضع فيها، والاقتصار على نقل ما تركن له قلوبهم وتنطبق عليه شروط القبول لديهم، ونضرب بذلك مثلاً ما أتى به أبو داوود في سننه والذي يبلغ زهاء الأربعة آلاف وثمانمائة حديث، اختارها كما يقول من خمسمائة ألف حديث(1)، وهذا إن دلّ على شيء فيدل على عظم واستفحال ظاهرة الوضع في الحديث.
وللوصول والتعرّف أكثر على هذه الظاهرة نورد في هذا البحث بعض الإفادات والإضاءات حول الحديث الموضوع، ممّا تناولها علماء الدراية من الفريقين، والأمل الخروج بفكرة عامة عنه تناسب هذا البحث المختصر.
المفهوم العام للحديث الموضوع أ- من منظار اللغة: ورد في اللغة أنّ وضع: الوضاعة: الضعة(2)، والوَضْعُ: ضدّ الرفع، وضَعَه يَضَعُه وَضْعاً و مَوْضُوعاً(3). فيكون الشيء الموضوع هو الذي يحطّ، قال تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ}(4). وعليه يصبح معنى الحديث الموضوع -من حيث اللغة- هو الحديث الذي حطّه صاحبه فأوجده، كما تحطّ الحامل جنينها فيوجد. ب- من حيث الاصطلاح: عرّف الحديث الموضوع عند أهل الاختصاص على نحو الإجمال بـ: المجعول، حيث أن الموضوع من الوضع، وهو بمعنى الجعل(5)، وهذا المفهوم ممّا اتفقت عليه الكلمة سنّة وشيعة(6).
فقد عبّر عنه الشهيد الثاني (قدّس سرّه) بـ: “المكذوب المختلق المصنوع.
بمعنى أنّ واضعه اختلقه، لا مطلق حديث الكذوب، فإنّ الكذوب قد يصدق… وهو شرّ أقسام الضعيف”(7).
وقريب منه ما عن ابن الصلاح(8) والسيوطي(9)، وعرّفه صبحي الصالح بـ: “الخبر الذي يختلقه الكذّابون وينسبونه إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) افتراءً عليه”(10).
ويمكن استنتاج وملاحظة عدّة نقاط من هذه التعاريف:
1- أنّ المعنى الاصطلاحي للحديث الموضوع يرجع في روحه وأصله إلى المعنى اللغوي.
2- ليس كل ما يصدر عن الكذّاب يعدّ من قسم الحديث الموضوع؛ إذ ربما يكون أحياناً صادقاً في نقله لدواعٍ أخر، ولو من أجل تلميع صورته أمام الناس كي يقبلوا مرويّاته، وعليه لا بدّ من الوقوف على أمارات معيّنة يُرجع إليها في التمييز بين الموضوع وغيره من أقسام الحديث.
3- يعد الموضوع من أقسام الحديث الضعيف، ومن أشدّها خساسة وشرّاً؛ حيث أنه ينسب للمعصوم ما لم يصدر عنه كذباً وزوراً، ولهذا قد يعبّر عنه بالسقيم في مقابل الصحيح ممّا يدل على أنه في أعلى مراتب الضعف(11).
4-قيل في تسميته موضوعاً أنّه بسبب انحطاط رتبته، فلا ينجبر أصله، وسمي حديثاً من باب التجاوز، حسب دعوى من اختلقه(12).
أنواع الحديث الموضوع ذكروا للوضع والحديث الموضوع نوعين: الأول:- الموضوع من جهة المتن: وهو كلّ حديث يختلقه كذّاب من كلامه أو كلام غيره وينسبه إلى النبي (صلّى الله عليه وآله)، أو إلى المعصوم (عليه السلام).
الثاني:- الموضوع من جهة السند: وهو ما يتجاوز المختلق من وضع الحديث إلى وضع السند، فيقوم بوضع سند للحديث الموضوع(13).
ولكن الوضع غالباً ما يرتبط بالمتن(14)، وعليه عمدة الأبحاث.
علامات وضع الحديث يعرف الحديث الموضوع بعدد من العلامات اختلف المحدّثون فيها(15)، ولعلّ أمتنها وأهمّها هي:
1- إقرار واضعه بوضعه، وبعضهم أضاف إليه: أو معنى إقراره، أي ما يتنزّل منزلة إقراره(16)، كالسماع من راو ليس بمعاصر له زماناً.
2- وجود قرينة في الواضع أو الموضوع له (أي الراوي أو المروي)، واقتصر البعض على وجود القرينة في المروي فقط كركاكة الألفاظ، مثلما يروى عن النبي (صلّى الله عليه وآله) :«لا تسبّوا الديك فإنه صديقي»(17)، كما ذكر بعض آخر أن المدار والعمدة في ركّة المعنى دون الألفاظ؛ نظراً لكون النقل بالمعنى(18)، وحول هذه العلامة يقول الشهيد الثاني (قدّس سرّه): “ولأهل العلم بالحديث ملكة قوية، يميّزون بها ذلك، وإنما يقوم به منهم: من يكون اطّلاعه تامّاً، وذهنه ثاقباً، وفهمه قوياً، ومعرفته بالقرائن الدالة على ذلك متمكنة”(19).
3- مخالفته لدلالة قرآنية قطعيّة، أو سنّة أو إجماع قطعيين، ولا يحتمل التأويل، نظير ما ورد في أن المدّة المتبقّية من عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، وهذا يتناقض مع العديد من الآيات(20).
4- مخالفته للمسلّمات العقلية والحسية، كحديث: «الباذنجان شفاء من كل داء»(21).
متى بدأ الوضع؟ ظاهرة الوضع والاختلاق لم تكن وليدة عهد الإسلام ونشوء دعوته، بل هي ظاهرة قديمة تمتد بقدم الإنسان وتغلغل مكائد الشيطان فيه، وبالتالي ليس من المستبعد أن تكون موجودة كحالة فرديّة من أول يوم ظهر فيه الحديث أيام الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، خاصة مع وجود العديد من المنافقين وأصحاب الأغراض منتشرين بين المسلمين.
ولكن الكلام في استفحال حالة الوضع بنطاق واسع بحيث تشكّل ظاهرة ملموسة وشاخصة للعيان هل بدأت في عصر الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأيام حياته، أم شاعت بعد رحيله (صلّى الله عليه وآله)؟ هناك رأيان في المقام: الرأي الأول: أن الوضع بدأ في حياة الرسول (صلّى الله عليه وآله)(22)، وقد يكون المستند على ذلك ما ورد تاريخياً وروائياً من كثرة عدد الكذّابين على الرسول (صلّى الله عليه وآله) في حياته، مثل: «عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ الْيَمَانِيِّ عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ الْهِلالِيِّ قَالَ: قُلْتُ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): إِنِّي سَمِعْتُ مِنْ سَلْمَانَ وَ الْمِقْدَادِ وَ أَبِي ذَرٍّ شَيْئاً مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَ أَحَادِيثَ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله) غَيْرَ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ ثُمَّ سَمِعْتُ مِنْكَ تَصْدِيقَ مَا سَمِعْتُ مِنْهُمْ وَ رَأَيْتُ فِي أَيْدِي النَّاسِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَ مِنَ الأَحَادِيثِ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله) أَنْتُمْ تُخَالِفُونَهُمْ فِيهَا وَ تَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بَاطِلٌ أَفَتَرَى النَّاسَ يَكْذِبُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله) مُتَعَمِّدِينَ وَ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِآرَائِهِمْ قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ: قَدْ سَأَلْتَ فَافْهَمِ الْجَوَابَ إِنَّ فِي أَيْدِي النَّاسِ حَقّاً وَ بَاطِلاً وَ صِدْقاً وَ كَذِباً وَ نَاسِخاً وَ مَنْسُوخاً وَ عَامّاً وَ خَاصّاً وَ مُحْكَماً وَ مُتَشَابِهاً وَ حِفْظاً وَ وَهَماً وَ قَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله) عَلَى عَهْدِهِ حَتَّى قَامَ خَطِيباً فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ الْكَذَّابَةُ فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ثُمَّ كُذِبَ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ… »(23).
الرأي الثاني: بدأ بعد ارتحال الرسول (صلّى الله عليه وآله)(24)، وقد يعزّى هذا الرأي إلى جملة أمور، منها(25): أ- احترام الصحابة لسنّة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وقوة تأثير الروح الدينيّة في نفوس المؤمنين في تلك الفترة.
ب- وجود الرسول (صلّى الله عليه وآله) بين ظهرانيهم والخشية من أن يؤدي الكذب عليه إلى فضح المفتري أمام الملأ، إمّا لكلام مباشر منه (صلّى الله عليه وآله) أو بإخبار الوحي إياه.
وقد يناقش هذا الرأي بكثرة ما نقل من الشواهد والمواقف الدالة على عدم مراعاة جميع المسلمين لحرمة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وحرمة الدين، ومنهم المنافقون وحديثو العهد بالإسلام، ناهيك عن اليهود والمشركين.
ولكن كيف كان فالكل متفق على أنه بعد رحيل النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله) قد كثرت الوضّاعة وشاع اختلاق الحديث، خاصة في عصر معاوية الذي بلغ فيه الوضع أوجاً لم يسبق له مثيل، وصار مدعوماً من قبل السياسة المتنفّذة.
السبب في شياع الوضع؟ هناك أسباب متعدّدة ساهمت في ذيوع الأحاديث الموضوعة، من أبرزها:
1- حادثة السقيفة وانشقاق المسلمين، حيث تمخّضت عنها حالة تزوير أدت إلى رفض أو تغيير بعض الروايات الصادرة واختلاق بديل لها، بغية الانتصار لطرف معيّن على حساب آخر، أو تصحيح موقف قبال غيره.
2- المنع عن كتابة الأحاديث قرابة قرن ونصف، ثم اندفاع المسلمين فجأة إلى تدوينها أوجد أرضيّة خصبة للكذب والاختلاق بلا رقيب(26)، وهذه المدّة الطويلة كفيلة لاختلاط الأساطير والخرافات والإسرائيليّات في صلب الروايات، وهذا السبب نلمسه في موضوعات التراث السنّي بشكل أكبر وأجلى من التراث الشيعي، وذلك لكون وجود الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بين شيعتهم واتخاذهم تدبيرات معيّنة حال دون ضياع وتزوير الكثير من أحاديثهم.
3- توسّع رقعة البلاد الإسلاميّة وانفتاحها على الديانات والحضارات الأخرى، وتأثّرها ببعض الفلسفات والعلوم اليونانية والغربية وغيرها.
4- السياسة المقصودة التي عمد إليها الحكام الجائرين لتثبيت ملكهم وكرسيّهم على أعناق المسلمين، والتي برزت تارة باستغلال أصحاب الذمم الرخيصة وطالبي المال والجاه بإغراقهم بالمال من أجل اختلاق الأحاديث المكذوبة في صالح الحاكم ومريديه، وتارة أخرى ببسط يد البطش والتعذيب على كل من تسوّل له نفسه نقل حديث يصب في غير ما يشتهون ويستسيغون، فينفر بعض من المتخاذلين والخائفين لصنع الأقاويل للسلطة تملّقاً وفزعاً، وتاريخ الدولة الأمويّة والعباسيّة يطفح بذلك.
5- العامل العقائدي والمذهبي، وذلك عندما يعاني بعض أتباع المذاهب من فراغ وخواء في تعزيز أفكارهم وعقائدهم فيعمدوا لوضع الأحاديث بالشكل الذي يقوّي حجّتهم ويسدّ نقصهم البارز أمام خصومهم.
6- الحقد الدفين الذي يحمله الأعداء للدين الإسلامي، وخاصة اليهود، وبالذات من يتظاهر بالإسلام منهم، حيث كان همهم الكبير في كيفيّة حرف المسلمين وتمزيقهم وتشكيكهم بعقائدهم، وهناك قصّة تنقل بأن أحد كبار الزنادقة المحكوم عليهم بالإعدام في بغداد خاطب الناس قبيل إعدامه بأنه كذب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بكذا ألف حديث، وأنه صوّمهم في يوم فطرهم، وفطّرهم في يوم صومهم…ألخ(27)، وهذه إن صحّت تدلّ بوضوح على المراد.
أصناف الوضّاع وأغراضهم من الوضع بعد ذكر أسباب شياع الحديث الموضوع تصل النوبة إلى معرفة أصناف الوضّاع، وذلك عبر بيان الدافع وراء قيام كلّ صنف بالوضع، وهي:
1- التزلّف للملوك والتجّار: يرغب هذا الصنف في الحصول على الوجاهة والمنصب بالتملّق والتودّد إلى الملوك والتجار وأصحاب النفوذ، وذلك بمدحهم عبر حديث مختلق، نظير ما ذكر في مدح معاوية: عن واثلة عن النبي (صلّى الله عليه وآله): «الأمناء عند الله ثلاثة، جبريل وأنا ومعاوية»(28)، وأيضاً عن ابن حفص عن النبي (صلّى الله عليه وآله): «لا أفتقد أحداً من أصحابي غير معاوية بن أبي سفيان لا أراه ثمانين عاماً أو سبعين عاماً، يقبل إلي على ناقة من المسك الأذفر حشوها من رحمة الله قوائمها من الزبرجد فأقول: معاوية؟ فيقول: لبيك يا محمد، فأقول: أين كنت من ثمانين عاماً؟ فيقول: في روضة تحت عرش ربي، يناجيني وأناجيه، ويجيبني وأجيبه، ويقول: هذا عوض ما كنت تشتم في دار الدنيا»(29).
2- السؤال والترزّق: وذلك بأن يتخذ الروايات العجيبة والقصص باباً كي يجني به المال من المستمعين، فيروى عن جعفر بن محمد الطياليسي: صلى أحمد بن حنبل ويحيى بن معين في مسجد الرصافة، فقام بين أيديهم قصّاص، فقال حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين…. عن أنس قال النبي (صلّى الله عليه وآله): «من قال لا إله إلا الله خلق الله كل كلمة منها طيراً منقاره من ذهب وريشه من مرجان» وأخذ في قصّة نحو عشرين ورقة،….
فلمّا فرغ من قصصه وأخذ القطيعات ثم قعد ينتظر بقيّتها، قال له يحيى بن معين: تعال، فجاء متوهماً النوال، فقال له يحيى: من حدثك بهذا الحديث؟ فقال: أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، فقال: أنا يحيى بن معين وهذا أحمد بن حنبل ما سمعنا بهذا قط في حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فإن كان لابد والكذب فعلى غيرنا، فقال له: أنت يحيى بن معين؟ قال نعم، قال: لم أزل أسمع أن يحيى بن معين أحمق ما تحقّقته إلا الساعة، قال يحيى: كيف علمت أني أحمق؟ قال: كأن ليس في الدنيا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل غيركما، قد كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، فوضع أحمد كمّه على وجهه وقال: دعه يقوم، فقام كالمستهزئ بهما(30).
3- الحسبة والتقرّب: وهو الذي يضع الحديث من أجل الترغيب إلى فعل الطاعات والتقرّب إلى الله تعالى حسبة، وهذا الصنف من أخطر الأصناف لأنّه يغلّف الحديث المكذوب بثوب الصلاح والتقوى فيضلّ أكثر ممّا يهدي: “وأعظمهم ضرراً من انتسب إلى الزهد والصلاح بغير علم فاحتسب بوضعه حسبةً لله وتقرّباً إليه”(31).
قيل لأبي عصمة: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضل سور القرآن سورة سورة؟ فقال: “إنّي رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق، فوضعت هذا الحديث حسبة”(32).
4- العمل الجائز في المذهب: ذهبت الكراميّة -وهم المنتسبون إلى محمد بن كرام- وبعض المبتدعة من المتصوّفة إلى جواز الوضع بقصد الترهيب والترغيب، وبالتالي يصبح الوضع لديهم كسائر الأمور الجائزة التي يحق ويسوغ ارتكابها، وحُكي عن بعض أهل الرأي أنّ ما وافق القياس الجليّ جاز أن يعزى إلى النبي (صلّى الله عليه وآله)(33).
5- الدوافع المذهبيّة: كأن يتعمّد الوضع خدمة لعقيدة أو تعظيماً لإمام أو تأييداً لمذهب، وهذا ما يفسّر وجود الكثير من المرويّات حول مناقب رؤساء المذاهب ومثالبهم، ومن باب المثال نستعرض بعض ما صنعه الوضّاعون في فضائل أبي حنيفة، وجميعها منسوبة زوراً إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله):
أ- «سيأتي من بعدي رجل يقال له النعمان بن ثابت، ويكنى أبا حنيفة، ليحيين دين الله وسنتي على يديه».
ب- «يكون في آخر الزمان رجل يكنّى بأبي حنيفة، هو خير هذه الأمة».
ج- «إن سائر الأنبياء تفتخر بي وأنا أفتخر بأبي حنيفة، وهو رجل تقي عند ربي، وكأنه جبل من العلم، وكأنه نبي من أنبياء بني إسرائيل، فمن أحبّه فقد أحبّني، ومن أبغضه فقد أبغضني»(34).
6- إفساد الدين: وهو الصنف الذي يضم الزنادقة واليهود وكل من يكنّ العداء للدين ويروم محاربته، وأكثر مرويّاته المختلقة تصب في باب العقائد، مثل هذا النموذج: عن محمد بن سجاع (شجاع): «إن الله عز وجل خلق الفرس فأجراها فبرقت (فعرقت) ثم خلق نفسه منها»(35).
7- الغرض الشخصي: كأن يسعى عبر الحديث المختلق لإرواء نهمه وغرائزه، أو القيام بالترويج لصنائعه ومعروضاته، أو التشفّي والنيل من خصمائه، وغيرها من الأغراض الشخصيّة.
وينقل في هذا المجال عن معاذ: «قلت يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هل أتيت من الجنّة بطعام؟ قال: نعم، أتيت بهريسة فأكلتها فزادت قوّتي قوّة أربعين، وفي نكاحي أربعين، فكان معاذ لا يعمل طعاماً إلا بدأ بالهريسة»(36).
حكم الحديث الموضوع اتّفق جمهور السنّة والشيعة على حرمة القيام بالوضع وصنع الحديث المخلوق، وعبر عنه بعضهم: “لا أعلم شيئاً من الكبائر -قال أحد من أهل السنة بتكفير مرتكبه- إلا الكذب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)”، وقال آخر: “من تعمّد الكذب على الرسول (صلّى الله عليه وآله) يكفر كفراً يخرجه عن الملّة»(37).
يقول تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمينَ}(38).
أمّا رواية الحديث الموضوع فهي أيضاً لا تجوز إلا مع بيان حاله، وإلا فالضرر والإغواء الذي يثيره الناقل والراوي له لا يقل فداحة عن واضعه. يقول الشهيد الثاني (قدّس سرّه): “ولا تحلّ روايته للعالم، إلا مبيّناً لحاله من كونه موضوعاً”(39).
الخاتمة بعد التعرّف على أهم النقاط المتعلّقة بالحديث الموضوع، وبالتأمّل أكثر حول ظاهرة الوضع بإمكاننا الوصول إلى النتائج التالية:
أ- وجود اللطف والعناية الربّانيّة الدائمة في صيانة أصل الدين وسنّته مهما كانت التحدّيات، ومهما كثرت الدسائس والموضوعات، فالدين له رجاله المؤيَّدون الذين يشمّرون الساعد بكل إخلاص، ويحملون عبء التنقيب والتدقيق والتمحيص وغربلة الروايات، وكلما غاب منهم نجم أتى محلّه نجم آخر.
ب- أن عمليّة تمييز الحديث الصحيح من السقيم ليست بالأمر الهيّن والمتاح للجميع، وفيه زلّت أقدام كثيرة، فعليه من الجيّد الابتعاد عن الحكم على الروايات من دون حجّة دامغة وبرهان صريح، وترك هذا الفن إلى المختصّين المأمونين الثقاة.
ج- لو أخذنا نظرة فاحصة وناقدة لحركة الوضع والوضّاعين في التراثين السنّي والشيعي، وابتعدنا عن التحيّزات والأهواء لوجدنا فرقاً شاسعاً بينهما، فنسبة الوضع وكذلك الوضاعين في المدرسة الشيعيّة أقل كثيراً منه بالنسبة لما هو موجود في المدرسة السنيّة، وأخال أن أعظم ثلاثة عوامل في هذا هي وجود الإمام المعصوم -الذي يعد تجسيداً عملياً لوجود الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ومرجعاً حيّاً يتدخّل في أعتى الظروف، وبالمقدور السؤال منه بأي وقت- ووجود التدابير الخاصّة للشيعة في طريقة التعامل مع الرواية والتصنيف والتي استفادوها من تعاليم أئمتهم (عليهم السلام)، خصوصاً مع الالتفات إلى عدم توقف ومنع تدوين الحديث عندهم منذ بدء نشوئه، وأخيراً عدم ولائهم لسلاطين الجور وربط دينهم بدينه.
الهوامش والمصادر
- (1) أصول الحديث وأحكامه، السبحاني، ص120.
- (2) العين، الفراهيدي، ج2، ص195.
- (3) لسان العرب، ابن منظور، ج8، ص396.
- (4) سورة آل عمران المباركة: 36.
- (5) معجم مصطلحات الرجال والدراية، جديدي نژاد، ص178.
- (6) علم الدراية المقارن، السيد رضا مؤدب، ص230.
- (7) الرعاية في علم الدراية، ص152.
- (8) علوم الحديث، ص98.
- (9) تدريب الراوي، ج1، ص274.
- (10) علوم الحديث ومصطلحه، ص382.
- (11) علم الدراية المقارن، السيد رضا مؤدب، ص229.
- (12) الوضاعون وأحاديثهم، الأميني، ص9.
- (13) ن م، ص 9.
- (14) دروس في علم الدراية، السيد رضا مؤدب، ص159.
- (15) علم الدراية المقارن، السيد رضا مؤدب، ص230.
- (16) نهاية الدراية، السيد حسن الصدر، ص309؛ أيضاً: علوم الحديث، ابن الصلاح، ص99.
- (17) الوضاعون وأحاديثهم، الأميني، ص10.
- (18) علم الدراية المقارن، السيد رضا مؤدب، ص231.
- (19) الرعاية في علم الدراية، ص152.
- (20) الوضاعون وأحاديثهم، الأميني، ص10.
- (21) ن م، ص10.
- (22) أصول الحديث، الفضلي، ص122.
- (23) الكافي، الكليني، ج1، ص62.
- (24) الوضاعون وأحاديثهم، الأميني، ص12.
- (25) ن م، ص13.
- (26) أصول الحديث وأحكامه، السبحاني، ص121.
- (27) الوضاعون وأحاديثهم، الأميني، ص17.
- (28) الموضوعات، ابن الجوزي، ج2، ص17.
- (29) ن م، ج2، ص 23.
- (30) ن م، ج1، ص46.
- (31) الرعاية في علم الدراية، الشهيد الثاني، ص156.
- (32) الوضاعون وأحاديثهم، الأميني، ص312.
- (33) الرعاية في علم الدراية، الشهيد الثاني، ص 162.
- (34) الوضاعون وأحاديثهم، الأميني، ص315 – 318.
- (35) الموضوعات، ابن الجوزي، ج1، ص105.
- (36) ن م، ج3، ص16.
- (37) الوضاعون وأحاديثهم، الأميني، ص 506.
- (38) سورة الأنعام المباركة: 144.
- (39) الرعاية في علم الدراية، ص152