إعرف قدر عمرك
بسم الله الرحمن الرحيم
مراحل عمر الإنسان
قال بعض الحكماء: إن الإنسان مسافر، ومنازله ستة وقد قطع منها ثلاثة وبقي ثلاثة:
فالتي قطعها:
1- من كتم العدم إلى صلب الأب وترائب الأم.
2- رحم الأم.
3- من الرحم إلى فضاء الدنيا.
وأمّا التي لم يقطعها:
فأولها القبر، وثانيها فضاء المحشر، وثالثها الجنة أو النار.
لا شكّ بأنّ هذا القول يختصر لنا كل مراحل عمرنا والتي بدأت من مرحلة التراب والتي تنتهي في نهاية المطاف إلى حيث صنعت وكسبت أيدينا.
فإما إلى الجنة: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾1.
وإمّا إلى النار: ﴿فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾2.
والذي ينبغي علينا للإلتفات إليه هو أننا في هذه الدنيا في حالة قطع المنزل الثالث، ومدة قطعها مدة عمرنا، فأيامنا فراسخ، وساعاتنا أميال، وأنفاسنا خطوات.
فكم من شخص بقي له فراسخ، وآخر بقي له أميال، وآخر بقي له خطوات. وأمام هذا الواقع يجدر بنا الإهتمام بما بقي لنا من مدة في هذه الحياة الدنيا، والإعتبار بما مضى من عمرنا.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: “لو اعتبرت بما أضعت من ماضي عمرك لحفظت ما بقي”3.
وهكذا الحال بالنسبة إلى ما بقي منه حيث إنّ مجيء الأجل وقدوم ملك الموت بيد الله سبحانه وتعالى، وتكليف الإنسان أمام الأجل المكتوب هو المبادرة إلى كل ما يوجب سعادته وهنائه.
ورد في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام: “إنّ العمر محدود لن يتجاوز أحد ما قدّر له، فبادروا قبل نفاذ الأجل…”4.
ولأنّ الأجل يأتي بغتةً فلا تنظر إلى خلفك، واغتنم حاضرك، واعمل لمستقبلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام: “بادروا بالعمل، وخافوا بغتة الأجل، فإنّه لا يرجى من رجعة العمر ما يرجى من رجعة الرزق”5.
ويقول عليه السلام: “ماضي عمرك فائت، وآتيه متَّهم، ووقتك مغتنم”6.
وعنه عليه السلام أيضاً أنه قال: “إنّ ماضي عمرك أجل، وأتيه أمل، والوقت عمل”7.
والمرحلة التي نحن فيها هناك من يعمل فيها، ويأخذ منها، فبادر إلى العمل والأخذ ممّن يعمل ويأخذ منها.
يقول الإمام علي عليه السلام: “إنّ الليل والنهار يعملان فيكَ فاعمل فيهما، ويأخذان منكَ فخذ منهما”8.
العمر السعيد:
ما من أحد إلّا ويحاول جاهداً تحصيل السعادة لحياته وأيام عمره، وليس في ذلك أيّة مخالفة لتعاليم الدين، ولا يتناقض ذلك مع الهدف من وجود الإنسان في هذا الكون حيث خُلِقت الموجودات مسخّرة له وأدوات يستفيد منها في تحصيل هذه السعادة والشرط الأساس الذي يجب أن يواكب مسيرة الحياة الإنسانية وسعي الإنسان إلى تحقيق سعادته هو البقاء في ظلّ طاعة الله سبحانه وتعالى وعدم معصيته.
فالإسلام لم يمنع الإنسان من الحياة الدنيا وزينتها ومتاعها، وفتح الآفاق الواسعة أمامه لتحقيق كل رغباته شرط أن يكون ذلك مصحوباً بطاعته سبحانه وتعالى، ولعلّ ذلك يزيد من سعادة العمر أكثر.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: “عمرك مهر سعادتك إن أنفذته في طاعة ربّك”9.
ويقول عليه السلام: “إحفظ عمرك من التضييع له في غير العبادة والطاعة”.
فمع كل نفس ومع كل وقت من العمر في الحياة الدنيا لا مانع من السعادة شرط تقوى الله تعالى وطاعته.
طول العمر في الطاعة:
هناك سؤال يراود أذهاننا وهو: هل العمر في الدنيا أفضل أم الموت؟
وللإجابة على هذا السؤال دون أيّة مقدمات نقول: إنّه وفقاً لموازين الإسلام يُعتبر العمر فرصة كبيرة للإنسان الذي إذا اغتنمه ولم يضيّعه باللهو والعبث، واستفاد منه بما يرضي الله تعالى فسوف تكون كل لحظة فيه سبباً لعلوّ الدرجات في الآخرة.
فبقدر استغلال العمر في الطاعة أو المعصية تكون صورة الآخرة واضحة. ومن أعطاه الله عمراً وكان في دائرة الطاعة ارتفع في مقابل ذلك درجات في الآخرة، ومن أعطاه الله عمراً وكان في دائرة المعصية إنحطّ في مقابل ذلك درجات.
وهكذا نعلم بأنّ العمر في الطاعة أفضل بكثير لأنه بمقدار ما يطول العمر في ذلك بمقدار ما ترتفع الدرجات.
وبذلك يكون العمر بمثابة رأسمال الإنسان الذي يتعاظم بقدر وجوده في الحياة الدنيا.
ولذا كان من دعاء الإمام علي بن الحسين عليه السلام في مكارم الأخلاق: “وعمّرني ما كان عمري بذلةً في طاعتك فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك…”10.
وبالتالي فإن الموت أفضل وأشرف من العمر مع المعصية، وإلّا فالعمر نعمة كبرى يجدر ويحسن بالإنسان شكر الله تعالى عليها.
وفي دعاء السيدة الزهراء عليها السلام: “اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيراً لي”11.
العمر وحُسنُ العمل:
مع معرفة الإنسان لنفاسة الوقت، وجلالة العمر يحاول بذلك إستدراك ما فاته من تضييع للوقت، واستشراف الحاضر والمستقبل لاغتنام كل لحظة فيهما.
وأول ما ينبغي تداركه هو السعي والعمل لكل ما ينفعه في الدنيا والآخرة، ففي الحديث: “إنّ الليل والنهار يعملان فيكَ فاعمل فيهما، ويأخذان منكَ فخذ منهما”12.
وفي توجيهات أمير المؤمنين عليه السلام: “فاغتنم وقتك بالعمل”13، فالوقت والعمر للعمل والاكتساب والتزوّد، وإلّا كانت الحياة لهواً وعبثاً وهذا يتناقض تماماً مع الهدف السامي للحياة الإنسانية.
حسرة العمر يوم القيامة:
اللحظة الحاسمة التي يلتفت فيها الإنسان إلى قيمة العمر في الأعم الأغلب هي تلك اللحظة التي لا يعود معها نفع ولا إمكانية للعودة إلى الوراء، وهي لحظة الوقوف بين يدي الله تعالى والسؤال عن العمر فيما أفنيته.
والحديث النبوي يحذّرنا قبل الوصول إلى تلك اللحظة حيث ورد فيه: يفتح للعبد يوم القيامة على كل يوم من أيام عمره أربعة وعشرون خزانة – عدد ساعات الليل والنهار – فخزانة يجدها مملؤة نوراً وسروراً فيناله عند مشاهدتها من الفرح والسرور ما لو وزّع على أهل النار لأدهشهم عن الإحساس بألم النار، وهي الساعة التي أطاع فيها ربّه.
ثم يفتح له خزانة أخرى فيراها مظلمة منتنة مفزعة فيناله عند مشاهدتها من الفزع والجزع ما لو قسّم على أهل الجنة لنغّص عليها نعيمها، وهي الساعة التي عصى فيها ربّه.
ثم يفتح له خزانة أخرى فيراها فارغة ليس فيها ما يسرّه ولا ما يسؤوه وهي الساعة التي نام فيها أو اشتغل فيها بشيء من مباحات الدنيا، فيناله من الغبن والأسف على فواتها حيث كان متمكّناً من أن يملأها حسنات ما لا يوصف، ومن هذا قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾14.
إذن ليست المسألة على ضوء الحديث المتقدم هي في تضييع العمر بالمعاصي والسيئات، بل حتى في الفراغ الذي قد لا يكون فيه معصية، وكذلك ليس فيه طاعة لله عزّ وجلّ.
قصة وعبرة:
يروى أن الاسكندر مرّ على قريةٍ، فخرج ينظر في قبور أهلها فرأى قبراً مشيداً فنظر في تاريخ وفاته، فإذا مكتوب على صخرة القبر: إنّ هذا الميت قد عمّر شهرين في الدنيا، فاستغرب ذلك، فتركه ونظر في تاريخ قبرٍ آخر فإذا هو لا يتفاوت عن ذلك العمر إلّا بيسير، فازداد عجبه، ولم يزل يستقصي قبراً فقبراً، فيراه على ذلك المنوال بتفاوت يسير، فاستغرب ذلك جداً، وفكّر في نفسه كيف يكون أهل هذه البلاد هذه أعمارهم؟!
وإن كانت كذلك فما معنى الاهتمام بقبورهم؟
ولم يجد بدّأ من السؤال عن ذلك.
فدخل القرية وازداد تعجّبه أكثر حينما رأى فيها الشباب والشيوخ من مختلف الأعمار، وهذا يتناقض مع ما تدلّ عليه قبورهم التي تشير إلى قِصر أعمار أهل القرية في هذه الحياة الدنيا.
فعمد إلى بعض السّكان وسألهم عن ذلك.
فقالوا له: نعم لا نعدّ عمر الإنسان إلا العمر الذي يُصرف فيما يعود على المجتمع الإنساني بفائدة.
ومفاد ذلك أنّ الإنسان عندهم لو عاش مئة سنة ولم يكن فيها إلا شهرين في خدمة المجتمع البشري، فإنهم يحتسبون عمره بالشهرين لا بالمئة وهذه هي روح الإسلام وتعاليمه التي تدعو الإنسان إلى خدمة المجتمع، والسعي في قضاء حوائج الناس.
هي أعمارنا أوجدها الله تعالى وخلقها لسعادتنا، فتعالوا كي نجمع أمرنا حتى لا تتحوّل إلى حسرة وندامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
والحمد لله رب العالمين
- سماحة الشيخ خليل رزق.
المصادر والمراجع
1- سورة النازعات، الآية: 41.
2- سورة النازعات، الآية: 37.
3- غرر الحكم، الامدي.
4- بحار الأنوار، المجلسي، ج 77، ص 9.
5- نهج البلاغة، الخطبة 114.
6- غرر الحكم، الآمدي.
7- المصدر نفسه.
8- المصدر نفسه.
9- المصدر نفسه.
10- الصحيفة السجادية، الدعاء 20.
11- بحار الأنوار، ج 94، ص 225.
12- غرر الحكم للآمدي.
13- المصدر نفسه.
14- بحار الأنوار، ج 7، ص 262.