ثقافة

الفريضة المهجورة

{وَالْعَصْرِ  إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ  إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}   تمهيد: إنَّ عمود الدين إذا تدهورَ أو سقطَ أصبحت مظلةُ الدينِ مضطربةً ومهددةً بالسقوط مع أيِّ هبّةِ ريحٍ أو تغيُّرِ وضع، فقول رسول الله (ص): (الصَلاةُ عِمادُ الدِّين)(1) هو بيانٌ واضحٌ لأهمية هذه الفريضة العظيمة ولكن ما تُقامُ به هذه الفريضة و غيرها(2) لابد أن يكون أفضل منها أو في عرضها ومستواها.

وفقهاؤنا الأعلام يصرِّحون دائماً بأنَّ فريضة (الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنْكر) هي الفريضـة التي (بهـا تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتُحلُّ المكاسب، وتمنع المظالم وتعمّر الأرض و ينتصف للمظلوم من الظالم..)(3) وهي من ضروريات الدين ومنكرها  مع العلم بوجوبها  كافر ووجوبها على جميع المسلمين وجوباً كفائياً، من السلطان والرعية إلى القوي والضعيف، والرجل والمرأة، كل ذلك مع تحقق الشرائط.

فعلى هؤلاء جميعاً أن ينهضوا بهذا الواجب الديني ويجسّدوه عملياً من خلال الالتزام بشروطه الخاصة  كما سيأتي  وأنها كالصلاة والصيام و..، وأنها من أهم احتياجات الإسلام لضمان بقائه وديمومة حياته، وتعدّ واحدةًً من أهم عناصر الإسلام في الحؤول دون التخلّف عن الأحكام، وقوى و أفضل وأعمق أثراً من المؤسسات (البوليسية) المختلفة التي تلجأ إليها بقية المناهج الاجتماعية.

 وموضوع بحثنا  هذا  هو هذه الفريضة الاجتماعية المهملة!؟ المهجورة، الغائبة!؟، وسيحوم البحث في ثلاثة محاور رئيسة هي:

 1 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من القرآن الكريم. الآيات الواردة في ذلك، معناه، مصاديقه. مع الاستفادة الكبرى من السُّنة المطهرة.

 2  الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في فتاوى الفقهاء والبحوث الفقهية.

 3  الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الواقع الاجتماعي. وسيكون الكلام  إن شاء الله  في هذه المحاور بشكل متداخل وسيختتم البحث بعبرٍ وقصصٍ موجزة للعِظة والتذكُّر وإحياء القلوب. من الآيات الواردة فيها:{ولْتَكُنْ مِنْكُم أمَّةٌ يَدْعُون إلى الخَيرِ ويَأمُرُونَ بالمعروفِ ويَنْهَونَ عنِ المُنْكَر}، {كُنْتُم خَيْرَ أمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعْروفِ وتَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرِ وتُؤْمِنُونَ بالله}. وهناك الكثير الكثير.

 أولاً: معنى المعروف والمنكر ومصاديقهما:  المعروف: لغةً. هو كل ما عرفه العقل بالحسن ويستحسنه، أو عَرِفَ الشيء وعَلِمَهُ بمعنى المعرفة المطلقة.

وأمّا شرعاً: فهو عمل الواجب والمندوب  المستحب  مطلقاً.  المنكر: لغةً. ما ينكره العقل ويستقبحه، أو النكران يعني الجحود.

وأمّا شرعاً: فهو القبيح الذي جعله الشرع في دائرتي الحرمة والكراهة بالإضافة إلى ترك المندوب  لدى البعض (4).

 ولتحديد مصاديقهما بشكل أوضح، ننظر للأشياء بمنظار الشرع  لأنه يمثل العقل في الخارج  وسنوجز ذلك بذكر بعض ما جاء في الكتاب الكريم: (المعروف: الإيمان، التفكّر، التقوى، حُسْن الخلق التوبة، والاستغفار، و.. ) (المنكر: الكفر، العصيان، الجهل، التخلف والتأخر، انكار الحق والروح والآخرة، والهمّ والحزن، و..). ثانياً: شرائط وجوبهما  كما يذكرها الفقهاء الأعلام  في رسائلهم وكتبهم و بحوثهم الفقهية: الأول: أنْ يعرف الآمر أو الناهي أنَّ ما تركه المكلف أو ارتكبه معروف أو منكر، أي العلم شرط الوجوب، والبعض(5) يعمم بقوله ولو المعرفة الإجمالية.

الثاني: أنْ يحتمل تأثير الأمر و النهي، فلو علم أو اطمأن بعدمه فلا يجب، والبعض يحتاط وجوباً بإظهار الكراهة  فعلاً أو قولاً  حتى مع عدم احتمال الارتداع.

 الثالث: أن يكون الفاعل  العاصي  مصرّاً على الإستمرار(6)، فلو علم منه الترك سقط الوجوب.

الرابع: أن يكون المعروف والمنكر منجّزاً(7) في حق الفاعل إلا أن يكون مشتبهاً أو ما بحكمه، لم يجب شيء.

 الخامس: أن لا يلزم من الأمر والنهي ضرر على الآمر  في نفسه أو عرضه أو ماله  الضررَ المعتد به أو الوقوع في الحرج، ولا فرق بين أن يظن أو يعلم بالضرر وحتى لو أنه سيصيب بعض المسلمين  في أنفسهم أو أعراضهم أو أموالهم  الضررَ المعتد به؛ فإنه يسقط وجوبهما، و لكن إذا كان المعروف أو المنكر من الأمور الراجحة شرعاً فلابد من الموازنة بل الترجيح بتقديم الأهم  شرعاً  على المهم.

 ثالثاً: مراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر: إنَّ من أهم ما يركِّز عليه الإسلام في الجانب المعاملاتي مع كل الأطراف والجهات الحرص والتأكيد على السلم والتسالم والرحمة والخُلُق الحسن واللِّين، ولكن مع عدم الجدوى بل التعنُّت مع مَنْ يُرى منه التمادي والتلاعب والتسيب في أخطر وأهم الأمور وهي (قضايا الدين) فيُتّخذ معه الإجراءات المناسبة، فكما قال بشير الأمة ونذيرها(ص): (مَنْ رأى منكم مُنْكراً فليُغيِّره بيده فإنْ لم يستطِع فبِلسَانِه فإنْ لم يَسْتطِع فبِقلبِه وذلِك أضعفُ الإيمان)(8) فهنا مراتب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من منظار الفتاوى الفقهية: المرتبة الأولى: بيان وإظهار الإنزجار القلبي، وله درجات أيضاً منها: غمض العين، العبوس والانقباض في الوجه، والإعراض بوجهه أو ببدنه وهجره و ترك مراودته ونحو ذلك.

المرتبة الثانية: الأمر والنهي باللسان والقول، أي بالعِظة والنصيحة والتذكير بنِعَم الله عليه، وذكر ما أعد الله سبحانه للعاصين من العقاب الأليم والجحيم.. المرتبة الثالثة: الإنكار باليد، وهذا أيضاً على درجات وهي كما يعبَّر عنها أيضاً (بإعمال القدرة)، ويقول البعض أنَّ في جواز بعض درجات هذه المرتبة من غير إذن الإمام (ع) أو نائبه إشكال.

 وكثيرٌ من الفقهاء بل كلهم مجمعون على أنَّ هذه المراتب لابد من العمل بها بشكل رُتْبِي لا اختياري؛ أي العمل في أول الأمر بالمرتبة الأولى وإلا فباللسان فإن لم يكفِ ذلك أنكره بيده والبعض يقول بأنَّ القسمين الأولين في مرتبة واحدة فيختار الآمر والناهي ما يحتمل التأثير به.

 رابعاً: صفات الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر: فعن الإمام الصادق (ع) أنَّه قال: (إنَّما يأمُرُ بالمعروفِ وينهى عنِ المُنْكرِ مَنْ كانت فيهِ ثلاثُ خصالٍ: عاملٌ بما يَأمُر وتاركٌ لِما يَنْهى عَنه عادلٌ فيما يَأمُر عادلٌ فيما يَنْهى، رفيقٌ فيما يَأمُر رفيقٌ فيما يَنْهى)(9) 

 1  التسلّح بالعلم: لابد من التوفر على العلم بالأحكام الشرعية الإلزامية وغيرها؛ لكي يكون قادراً على التشخيص الدقيق ومعرفة المعروف  المراد الأمر به  والمنكر  المراد النهي عنه .

 2  التوفر على التقوى والورع: لأن فاقد الشيء لا يعطيه وما يخرج من القلب يدخل إلى القلب فينبغي القوة في شخصية المتصدي لمثل هذا الأمر العظيم والسلوك الفاضل.

 3  الخُلُق الحسن: ولاسيما الصبر والحلم وسعة الصدر كما قال الإمام الصادق (ع): (مَنْ أمر بمعروفٍ فلْيَكن أمرُهُ ذلك بمعروف)(10) فمن طبيعة هذا المسلك وجود المعوقات، والصعوبات، والمشاكل أحياناً، ولكن بالخُلُق الحميد يصل إن شاء الله لمبتغاه.

 4  القدوة الحسنة: وهذه ترتبط ارتباطاً وثيقاً بما قبلها، وهي أنَّ هذا المتصدّي لهذا الأمر إذا أراد أنْ يُصلحَ في الآخرين لابد أن يصلح ويصنع نفسه أولاً وقول الإمام الصادق (ع) في ذلك أبلغ وهو (كُونُوا دُعَاةً لنا بِغَيرِ ألسِنَتِكُم)(11) والمقولة (مَنْ نَصَبَ نفسه للنّاس إماما ربَّا نفسه أولاً)

 5  الحزم: وهذه أيضاً تندرج ضمن النقطة رقم ثلاثة ولكن أُفردت لأهميتها وكما قال الأمير (ع): (الحزمُ كَيَاسة)(12) وهي صفةٌ ضروريةٌ للآمر والناهي و هي أنْ لا يخاف في الله لومة لائم، ولأنَّ (الحقّ مرّ) (فلا تستوحشوا طريق الحق لقلّة سالكيه)(13)، وليس الهدف إرضاء جميع الناس وكل الأطراف بل رضا الله هو الغاية، ولكن مع الحفاظ على الأساليب المُثلى.

 6  ينبغي  أيضاً  الإلمام بمعرفة طرق وأساليب النصح والإرشاد والمهارة الخاصة بذلك  أي بالمحببات والمرغبات وعدم التنفير  مع الأخذ بالوسائل الحديثة والمتطورة وخصوصاً (وسائل الإعلام الإتصالاتية.) واستثمار بعض الأوقات والمناسبات المهمة والمؤثرة.

 7  الإطلاع والإحاطة بالأوضاع والظروف الاجتماعية والسياسية على المستوى المحلي والدولي والإقليمي والعالمي وفي كل الأصعدة ومتابعتها.

 خامساً: المسؤولية الملقاة على عاتق العلماء:  بعد ذكر الشرائط والصفات التي ينبغي توافر الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عليها، نذكر المسؤولية  الخاصة  الملقاة على عاتق العلماء في تأدية هذه الفريضة العظمى، حيث أنه قد تتعيُّن هذه الفريضة بالوجوب العيني بالعنوان الثانوي  أحياناً، ولكن تتعين وبالدرجة الأولى على هذه الطائفة  العلماء  المستجمعة لهذه الشروط  غالباً  فعن النبي (ص): (إذا ظَهَرَتِ البِدَع في أمّتي فَلْيُظْهِر العَالِمُ عِلمَه فَمَن لم يَفْعلْ فَعليهِ لَعْنةُ الله)(14)، ولا يعادلهم ولا يشاركهم في درجة تصديهم لها أحد من عامة الناس ولكن هذا لا ينافي أصل وجوب الأمر والنهي على جميع أفراد الأمة على نحو الكفاية وقد يجب عيناً في بعض مراتبه وقوله تعالى شأنه: {لو لا يَنْهاهُمُ الرَبَانِيونَ والأحْبَارٌ عَن قَوْلِهِمُ الإثم وأكلِهِمُ السُّحتَ لَبِئسَ ما كانوا يصنَعُون}(15) وفي تفسير الصافي عن أمير المؤمنين (ع) في تفسير هذه الآية قال: (إنَّما هَلَكَ مَنْ كانَ قَبلَكم حيثُما عَمِلوا بالمعاصي ولم يَنْههم الربانيون والأحبار).

 وعن الإمام الباقر (ع) قال: (أوحى الله عزّ وجلّ إلى شعيب النبي(ع): إنّي معذبٌ مِن قومِك مئة ألف أربعين ألفاً من شرارهم وستين ألفاً من خيارهم).

 فقال (ع): يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: (داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي)(16) سادساً: الآثار المترتبة على ترك فريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. على الفرد و المجتمع مستخلصة من السُّنة الشريفة: عن الإمام الصادق (ع): (ما أقرَّ قَومٌ بالمُنْكرِ بين أظْهُرِهِم لا يُغيِّرونَه إلا أوشك أنْ يعمَّهُمُ الله عزَّ وجلّ بعقابٍ مِن عنده)(17) يُسْتَقرأ من الروايات الشريفة أنَّ تَرْك هذه الفريضة، يوجب نزول عموم أصناف العقاب والهوان والذُّل على الأمة. ومِن تلك الآثار:

 1  شمول اللعنة من الله على خيار القوم وشرارهم (إشارة للحديث السابق).

 2  حلول خذلان الباري تبارك وتعالى لمن تركها. قال أبو جعفر (ع): (الأمْرُ بالمَعْروفِ والنَّهي عَنِ المُنْكر خُلُقان مِنْ خُلُقِ الله فَمَن نَصَرَهُما أعزّه الله ومَنْ خَذَلَهُمَا خَذَلَهُ الله)(18)

 3  انتزاع البركات وتسلُّط البعض على الآخرين، وابتعاد النصير عنهم في الأرض والسماء. كما قال (ص): (لا تَزالُ أمّتي بِخير ما أمَروا بِالمَعْروفِ ونهوا عن المُنْكر.. فإذا لم يفعلوا ذلك نُزعت منهم البركات و..)(19)

 4  يُولًّى عليهم شرارهم فيدعو خيارهم فلا يستجاب لهم. من وصيةٍ للأمير (ع): (لا تَتْرُكوا الأمْرَ بِالمَعْروفِ والنَّهيِ عَنِ المُنْكرِ فيُولّى عَلَيْكُم شِرَارَكُم ثُمَّ تَدْعُونَ فَلا يُسْتَجَابُ لَكُم)(20) 5  نقصان أرزاقهم. وهذه  أيُّها المسلم الغيور  كوارث عظيمة وفجائع موبقة؟! وأي بلاءٍ أعظم من هذه وأفجع؟! ولقد يسَّر الله هذا للذِّكر فهل مِن مدّكر؟! سابعاً: ومما تقدَّم  ومن واقعنا الاجتماعي  نستخلص هذه الآثار الاجتماعية السلبية الناجمة عن ترك هذا الواجب العظيم، نوجزها في الآتي:

 1 تفكك عرى العلاقات الاجتماعية داخل صفوف الأمّة.

 2 التخلف التوعوي  الإبتعاد عن قيم الدّين  في الأوساط الاجتماعية العامة والخاصة.

 3 تسلُّط الفكر والدعاية الغربية في مجتمعاتنا نتيجةً للغزو الثقافي والإعلامي الغربي.

 4 ازدياد المشكلات الاجتماعية (الأسرية، الأخلاقية، التربوية الاقتصادية وأهمها: الفقر.. ) الخاتمة: ينبغي للغيارى أن لا يسمحوا باستبدال المعايير الإلهية في المجتمع المؤمن، فإذا ما اختل معيار التقوى في المجتمع فمن الواضحٌ جداً حتمية إراقة دم إنسان مثل سيد الشهداء (ع).

وإذا ما غدا الملاك التحايل والتخبط بأمور الدنيا والتلاعب والافتراء وإهمال القيم الإسلامية فستكون النتيجة واضحة؛ بِتربُّع شخصٍ مثل يزيد على مقاليد الأمور، ويصبح شخصٌ مثل بن زياد الشخصية الأولى في العراق.

لقد تركّز عمل الإسلام على تغيير هذه المعايير بالوقوف بوجه المعايير المادية الباطلة في العالم وتغييرها، وخير مثالٍ إمامنا الخميني (قده) فمع حلوله انحسرت صفات القبح والدناءة ومنها: حب الشهوات والتعلق بالدنيا والتبعية والفساد فيما ازدهرت التقوى والزهد والنقاء والنورانية والجهاد والحرص على بني البشر والرأفة والمروّة والأخوّة والإيثار والتضحية.

وهنا لا بأس بذكر بعض التوصيات:  إنَّ هذه الفريضة العظيمة  الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر  ركنٌ من أركان الإسلام الأساسية وهذه الفريضة كفيلة بإقامة سائر الفرائض الإسلامية، ويجب أن تُحيى في مجتمعنا وأنْ يشعر كل فرد من أبناء الأمة بالمسؤولية لبسط الخير والمعروف والصلاح، واقتلاع جذور الشر والمنكر والفساد، وما زالت أمامنا مسافة شاسعة حتى يبلغ المجتمع الإسلامي حقيقته بحيث يكفل لأبنائه السعادة الدنيوية والأخروية بشكلٍ تام، ويجتث منه الضلال والغواية والظلم والانحطاط وهذه المسافة يجب أن تطوى بهمم أبناء الأمة المؤمنين وجهود العلماء والمسؤولين، وذلك ما يتيسر عبر شيوع فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 ولتنشَّط وتعمَّر المساجد التي هي مُنطلق المعنويات والتزكية والهداية يوماً بعد يوم وتُمَارس مهمتها في الحث على إتباع التعاليم النورانية للقرآن والتحلي بالإيمان والخُلُق الكريم والعمل الإسلامي في شتى زوايا المجتمع.

  ويجب أن يأخذ كتاب الله موقعه المتميّز بين أوساط الجماهير وتنتشر ظاهرة تعلُّمه والتَدبُّر والتعمّق فيه بين الجميع؛ ومن الخطورة بمكان المسؤولية التي يتحملها العلماء والمثقفين والكتّاب والخطباء في هذا المضمار.

 وينبغي أن لا تحصر هذه الفريضة الإلهية العظمى في دوائر ضيّقة محدودة، ولا تختص بفئة معينة، بل هي واجب على الجميع وبطبيعة الحال أن لكل تكليفه وكل بحسبه.

  إنَّ هذه الفريضة  وكما أسلفنا  شأنها شأن الصلاة وقابلة للتعلم فعلينا جميعاً بتعلم مسائلها، وأنَّها  كما كررنا ونكرر  تكليف على عامة الناس في المجتمع الإسلامي باللسان، وأمّا إذا امتد الموقف إلى المواجهة فإن ذلك يتحمله المسؤولون المكلفون بذلك.

 القِصَصُ والعِبَرُ الموجَزة عن هذه الفريضة المهمة  الكفر و الإيمان.

نقيضان لا يجتمعان: قبل أكثر من 110 سنوات، في مجلس ضيافة وحفل كبير أقامته الحكومة الإيرانية  آنذاك  وحضره جمع من التجار الذين يرتدون العمامة والجبّة  تشبُّهاً بلباس العلماء  وكان في الاحتفال مطربٌ وفرقةٌ موسيقيةٌ و غيرها من المحرمات.

 نُقِلَ خَبَرُ هذا الإحتفال إلى العالِم الجليل الشيخ محمد حسين اليزدي، الذي تأثر كثيراً لما جرى فجاء يوم الجمعة وبعد صلاة العصر اعتلى الشيخ اليزدي المنبر وبكى طويلاً ثم أخذ يعِظ ثم قال: (أيَّها التجار الذين أصبحتم فجّاراً، لقد كنتم دائماً تسيرون خلف العلماء والروحانيين ثم ذهبتم إلى مجلس فسقٍ ترتكب فيه المحرمات.

وبدل أن تنهوهم شاركتموهم فيه؟ قطّعتم بذلك كبدي، وأحرقتم قلبي، ودمي في أعناقكم) ثم نزل من المنبر وغادر إلى بيته وفي المساء لم يحضر إلى المسجد فذهب الناس إلى بيته فإذا هو مريض وفي كل يوم يزداد مرض الشيخ إلى أن انتقل إلى رحمة الله. 

أقول: لقد تأثر الشيخ اليزدي (أعلى الله مقامه) حين رأى المعاصي ترتكب علناً وازداد تأثراً بمشاركة من يتزيّون بزيِّ العلماء والصلحاء وغَضِبَ لله حتى مَرِضَ وتُوفّي جراء تأثره بما جرى من ارتكاب المعاصي، ولم يتحمّل أنْ يعيش بين من يتظاهرون بالصلاح ويرتكبون المعاصي فمرض ومات؟! نسأل سؤالاً واحداً: يا ترى ماذا كان سيفعل الشيخ لو عاش في عصرنا وشاهد ما نشاهده من المعاصي والمحرمات التي تُرتَكب في كل مكان وزمان وبكل صنف؟؟(21)  نصيحة الدين: ذهب العالم الرباني الميرزا القمي ذات مرة إلى رئيس إيران  آنذالك ، يحمل إليه نصيحة الدِّين فخاطب الشاه قائلاًَ: أيَّها الشاه اعْدِلْ، فإني أخشى على نفسي من نار جهنَّم، لقوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}.

 ومرةً أخرى، دخل العالِم الميرزا على الشاه وأخذ بلحيته الطويله وقال له: (أيَّها الشاه لا ترتكب عملاً فتحترق هذه اللحية غداً يوم القيامة.)  أقول: رأى هذا العالِم أنَّ تكليفه التدرّج في الأمر والنهي، وانطلق من مبدأ النصيحة المباشرة، وهذا  أيضاً  يدلُّ على شجاعة هذا العالِم.  

مثالُ التغيير بغير اللسان: قام رجلٌ وهو يقول: سوف أشتم  هذا السيِّد  بئس شتيمة! بعد دقائق رُأيَ عائداً باكياً وعليه آثار الخجل والندامة؟! سُئل عن السبب؟ فقال: لقد شتمت السيد حتى باب منزله، وهو لا يَرد عند الباب توقف وطلب مني أن انتظره، دخل ثم رجع وبيده مبلغاً من المال، أعطاني ذلك وقال لي: راجعنا عند كل ضيق يعترضُك، إذ أخشى أنْ تُراجع غيرنا فلا يقضي حاجتك..  أقول: إنَّ هذا التغيُّر الذي أُحدِثَ بشكلٍ كبيرٍ في شخصية هذا الرجل؛ كله بفعل الخُلُق الفاضل الحسن، مضافاً لذلك أنَّ هذا السيد  وهو السيد أبو الحسن الأصفهاني  كان يمتلك التشخيص الدقيق نحو التكليف الموجَّه إليه. حكاية، قصة.

لكل مقامٍ أسلوب قبل 33 عاماً، كنّا  على لسان الشهيد الدكتور آية الله السيد محمد حسين البهشتي  مع آية الله (.) وأخوة آخرين وأحدهم الشهيد مطهري نتبادل المشورة حول ذهابنا للتبليغ في شهر رمضان إلى القرى النائية، تلك القرى التي يصعب الوصول إليها ويزهد فيها الآخرون.

 قررنا أنْ نخبر سماحة آية الله العظمى السيد البروجردي (قده) بقرارنا هذا، فأخبرناه بواسطة الإمام الخميني  الذي كان في ذلك الوقت مدرِّساً كبيراً ، فرحّب السيد بهذا القرار ودعى لنا بالتوفيق.

لمّا عدنا وراجعنا التقارير كان أروعها تقرير آية الله (.)، حيث قال فيه: إنني انطلقت إلى أبعد القرى وكان وقت حصاد المحاصيل الزراعية فوجدت الناس القرويين رجالاً ونساءً وأطفالاً يخرجون من منازلهم إلى مزارعهم صباحاً، ويعودون مساءً، ويقومون هناك بدكّ القمح وتنظيفه وتعبئته إذا كان الجو معتدلاً، إلاّ أنهم يستريحون في المزرعة عند تعسّر الجو إلى أن تعتدل الرياح وتتناسب مع عملية الدّكّ والتجميع.

من هنا رأيت أنَّه مِنَ الصعب أن أجمعهم في مكان داخل القرية فالجدير بي أن أشتري بعض الشاي والسكر وأذهب معهم إلى المزارع فأخذتُ أناديهم وقت الإستراحة: تعالوا أحكي لكم قصة! فأبدأ حديثي بقصة مشوّقة ثم أحشّيها بآيات وروايات ومسائل فقهية.

 بعدها يضيف السيد الشهيد البهشتي قائلاً: هذا هو طريقنا طريق العمل مع الناس والحضور معهم، إنّنا لا نحيد عنه بأي ثمن.

 ونضيف: الأسلوب له دورٌ كبيرٌ في إيصال الأفكار، ولكل مقامٍ أسلوب.

(22)  إنَّا أهلُ بَيتٍ مُرُوَّتُنا الَعْفُو عَمَّن ظَلَمَنَا(23) جاء أعرابي إلى مسجد رسول الله (ص)، وكان المسلمون في المسجد بعد ذلك إلتفت وإذا بِصرّةِ مالِهِ ليستْ لديه، وما بقي في المسجد إلاّ الإمام الصادق (ع).

 فذهب الإعرابي للإمام واتهمه بسرقة صرّة ماله  وهو لا يعرف أنّه الإمام  فقال له الإمام: كم في الصرة من مال، فقال: 1000 درهم فأعطاه الإمام مثله.

 فخرج الأعرابي وإذا بصرّة ماله خارج المسجد، فدخل واعتذر من الإمام وعَرِفَ أنّه الإمام وعرف عظمته فأسلم وآمَنَ على يد الإمام (ع). فأهداه الإمام ما أعطاه.

 أقول: إنَّ مقابَلَةَ الإساءة بالإحسان هو قمة الأخلاق وهذا هو سلوك أهل البيت (ع) وهذا ما يأمرونا به، فتغيير النفوس بالأخلاق أقرب وأسهل. فلنعتبِر ونعمل.  الأخلاق الأخلاق. سلاح الصلحاء: في إحدى المناطق وبعد رجوعه في وقتٍ متأخرٍ من الليل إلى سكنه إلتقاه شابٌ منحرفٌ فجاء له يلوّح له بأن أخْرِج ما عندك من نقود وانزع خاتمك، فشَهَرَ ذلك الشاب سكيناً ووجّهها نحو الأخ العزيز، وكان بإمكانه القضاء على الشاب لضعفه وقصر قامته وصغر حجمه، لكنه مسك زنده وأخذ السكين من يده، وأخرج الأخ العزيز ما كان عنده من نقود، ونزع خاتمه وأعطاهم إياه، وأعطاه السكّين أيضاً، فأخذ الشاب ينظر إلى الأخ نظرات متكبّرة متحيّرة وبيده السكّين، فلم يرَ من الأخ أي خوف، بل رأى منه الطيب و الرقّة؛ فأخذ الشاب يبكي و هو يقبّل الأخ وحاول أنْ يقبّل يده.

انهياراً منه أمام سلاح الأخيار.

أقول: قبل قليل كان الشاب في قمة العنفوان و الغطرسة، بعدها تغيّر بل انهارت غطرسته تماماً و قام بالتذلل للأخلاق الرفيعة، فلنكن دعاة بهذه الأخلاق التي تهدِّم جبال الغطرسة و الانحراف. (24)

الهوامش والمصادر

  • 1 ــ كنز العمّال: 18889.
  • 2 ــ إشارة للحديث الآتي ذكره.
  • 3 ــ الكافي: 5: 56، ح1.
  • 4 ــ بحوث فقهية لآية الله الشيخ الهمداني.
  • 5 ــ يقصد بالبعض في ــ الشرائط و المراتب ــ بعض الفقهاء و في الغالب السيد السيستاني (دام ظله).
  • 6 ــ المراد بالاستمرار الارتكاب ولو مرة أخرى (كما جاء في تحرير الوسيلة).
  • 7 ــ أي مصحح للعقاب إذا خالف العبد مولاه في تكليف مقطوع به لديه. 
  • 8 ــ الترغيب والترهيب 3: 223، ح1.
  • 9 ــ الخصال: 109، 79.
  • 10 ــ كنز العمال: 5523.
  • 11 ــ حاشية مجمع الفائدة والبرهان: 24.
  • 12 ــ البحار 71: 339، ح8.
  • 13 ــ حديث عن أمير المؤمنين (ع) ولكن ليس نصاً.
  • 14 ــ الوسائل 11: 510.
  • 15 ــ المائدة: 63.
  • 16 ــ الفروع من الكافي 5: 55.
  • 17 ــ البحار 100: 78، ح34.
  • 18 ــ الوسائل 11: 398.
  • 19 ــ الوسائل: 11: 398.
  • 20 ــ نهج البلاغة، الكتاب: 47. *: هذه النقاط مقتطفة ومستخلصة من كلماتٍ للسيد القائد الخامنئي.. من كتاب (الثقافة وبناء المجتمع) 
  • 21ــ مصدرها.. مجلة العصر، العدد 27، شوال 1425هـ، نقلاً عن السيد دستغيب.
  • 22 ــ المصدر السابق: 431.
  • 23 ــ أمالي الصدوق 7: 238.
  • 24ــ نقلاً عن صاحب القصة..
المصدر
مجلة رسالة القلم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى