التفسير عند السيد الخوئي
مقدمة: لا تنتهي المخاضات العلمية ورؤى التجديد في الحوزات العلمية المباركة، وإنّ مفردة إشكالية ثنائي العمل بـ«القرآن والسنة» من الجدليات المطروحة اليوم بنحو وآخر، فالدراسات الفقهية لا تنفك عن علومٍ آليةٍ مقدميةٍ لها، أهمها علما: أصول الفقه، والتفسير، إلا أنّ الباحث يجد السّعة الكمية والكيفية في الدورات والموسوعات الفقهية الأصولية في المكتبة الإسلامية، إلا أنّه قد لا يجد مثلها في الموسوعات الفقهية التفسيرية؛ فيلاحظ التنامي الواسع للدراسات المعنيّة بالفقه وأصوله، وذلك لطبيعة الارتباط الوثيق بينهما؛ حتى صارا مداراً للمنافسات العلميّة في الأوساط العلمية في الحوزات، وهو أمر طبيعي حين تكون عملية الاستنباط تعتمد بشكل أساسي على دوائر معينة وهي العمل على المقدمات الفقهية المباشرة والقريبة الموصلة لما تفرغ معه ذمة المكلّف تجاه تكاليفه الشرعية، وهو ما يمثّله علم الأصول بدرجة كبيرة وهو الأداة المهمة لفهم النصوص الشريفة والتي من أبرزها آيات الأحكام أو ما يعبّر عنه بـ«التفسير الفقهي»؛ إلا أنّ هذا لا يعني أبداً ما يقال من إقصاء القرآن وتفسيره من الوسط الحوزوي؛ فإنّه هو المصدر الأول للتشريع وأخذ الأحكام الشرعية، وبالتالي هو محور البحوث والدراسات عند الفقهاء، وما السنة الشريفة إلا شارحة ومبيِّنة له ومفصِّلة لأصوله وكلياته، فكلُّ ما يدرس من علوم مختلفة في الحوزة العلمية كـ(علوم اللغة والمنطق والأصول والفلسفة) إلا مقدمات لفهم كتاب الله وتفسيره وتبيين مراداته، وهكذا فإنّ الغاية الأساسية من دروس التفسير هي وضع الأدوات التي يمكن للطالب أن يطبّقها في مقام التعامل مع الآيات الشريفة وشرحها وبيانها وهي غاية متحققة جزماً في الدروس اليومية الحوزوية خصوصاً منها الدروس الفقهية الاستنباطية؛ لأنّ محور التحقيق فيها هو الآيات الكريمة والروايات الشريفة.
السيد الخوئي فقيهاً ومفسِّراً مكانة السيد الخوئي (قدِّس سرُّه) العلمية والتحقيقية الفقهية والأصولية والتفسيرية مما لا يخفى على مطّلع على تاريخ الحوزات العلمية المعاصر، وقد أُطنب الكلام في بيان منزلته العلمية في بُعديها الأوّلين دون الثالث -أعني البعد التفسيري-، لذا سأسعى هنا للتركيز عليه فأقول: يتميّز الفقيه بفهمه الواعي الأقرب للمراد الواقعي لله تعالى؛ لأنه يعتمد في فهمه واستنباطه على الجمع بين الآيات والاهتداء بالسنة المطهرة الصحيحة الثابتة، ولذا يكون قريب الأفق من المعاني الحقيقية للآيات القرآنية.
فكيف بمن سبر أغوار الكتاب والسنة ونقّح مقدمات فهمها، وأصّل لها أسساً متينة وقواعد علمية دقيقة؛ وهو الإمام المحقق الخوئي (رحمه الله). * تاريخ علاقة السيد الخوئي بالقرآن وتفسيره لقد تنبّه (رحمه الله) مبكّراً(1) على أهمية الدراسات القرآنية والتفسير وهو ما يعود إلى أربعينيات القرن الماضي؛ حيث يقول في رسالة كتبها لأحد تلامذته: “بدأتُ منذ الشهر الماضي -وبما أن الأيام أيام عطلة- بإلقاء البحوث التفسيرية وكتابتها، وأعتقد أن آثارها ستكون أكثر من غيرها بالنسبة للدين بشكل عام وللعالم الشيعي بشكل خاص، أسألك دعاء خاصّاً أن أوفّق لإنهائها، وبفضل الله ستكون دائرة معارف للعلوم الإسلامية”(2).
ورغم كثرة انشغالاته في تدريس العلوم المختلفة وتربية مئات العلماء والفقهاء ورعايتهم ومن ثم التصدي لشؤون المرجعية إلا أنه آثر العمل على دراسات وتحقيقات تفسيرية وكتابتها بنفسه؛ وقد ذكر ذلك في رسالة أخرى يقول فيها: “بالنسبة لنسخ أجزاء التفسير، فإنّ جناب الشيخ سلمان(3) أبدى استعداده لنسخها إمّا بنفسه أو بتكليف أحدٍ آخر، ولكن كتاباتي في التفسير غير قابلة لنسخ بواسطة أحد آخر غيري لوجود الكثير من التعديلات والحواشي عليها”(4).
ولقد كانت أمنيته إتمام مشاريعه القرآنية والتفسيرية على وجه الخصوص؛ لما كان يراه من نفعها الكبير وأثرها البالغ للدين والأمّة أكثر من سائر مؤلفاته، وهو ما سأل الباري سبحانه التوفيق له، وقد صرّح بهذا بقوله: “منذ عدّة سنوات وفي حرم الكاظميين المطهر طلبت من حضرة الحق جل وعلا أن لا يجعل من نصيبي المرجعية بالدرجة التي لا أقدر على القيام بأعبائها، والتي تسبّب لي الأذية من الجهات الشرعية -وفي حال كانت حياتي ملازمة لهذا الأمر، أن يجعل الله نصيبي عالم الموت- وأن أترك بعد مماتي آثاراً مكتوبة وأشخاصاً أكون قد ربيتهم؛ حتى يكونوا من أسباب الرحمة عليّ.
أستجيب الجزء الثاني من دعائي وبحمد الله أنا مسرور للآثار المكتوبة التي من جملتها «البيان»… كنت أرغب كثيراً بإنهاء التفسير، لكنّ ضعف المزاج وكثرة المشاغل لا تسمح لي بذلك، وقد لاحظت أنّ إتمام هذا التفسير بهذه الكيفية يحتاج إلى عشرين سنة من النشاط والفراغ، وهذا الأمر بدون شك لن يتهيّأ لي؛ لذلك قررت بالتوفيق الإلهي كتابة آيات الأحكام تحت عنوان «فقه القرآن على المذاهب الخمسة»(5) ربما كان هذا الأثر أهم من باقي الآثار التي كتبتها”(6)، وهذا ما يكشف عن دوره الشخصي المميّز والفريد من نوعه علمياً في الحوزات العلمية والأبحاث الفقهية والتفسيرية، وقد ذكر بعض تلامذته أنه كتب بالفعل تفسيراً لبقية السور غير الفاتحة والإخلاص في «البيان» ولكنها لم تطبع(7)، وأما ما ذكره صاحب كتاب الروح المجرد في ضمن قصة حيث قال: “نقل المرحوم آية الله الشيخ مرتضي المطهريّ للحقير عن سماحة آية الله الحاجّ السيّد رضي الشـيرازيّ دامت بركاته أنّه قال: قلتُ لأحد المراجع العظام المشـهورين والمعروفين في إحدى سفراتي الأخيرة إلى العتبات المقدّسة: لماذا لا تشرعون بدرس التفسير في الحوزة؟ قال: ليس ذلك ممكناً مع وضعنا وموقعنا الحاليّ! قلتُ: لماذا كان ذلك ممكنا للعلاّمة الطباطبائيّ حين جعله درساً رسميّاً في حوزة قم العلميّة؟! قال: لقد قام بتضحية حين فعل ذلك”(8) وقيل أن المسؤول هو السيد الخوئي (قدِّس سرُّه)، فيحتمل في قوله: قام بالتضحية وجوه عدة: منها أن درس التفسير يحتاج إلى تفرّغ وهذا لا يكون إلا بالتضحية له على حساب أشياء أخرى للتصدي للمرجعية.
ومع ذلك فإنّ الحوزات العلمية بعلومها وأدواتها العلمية هي التي أهّلت وخرّجت كبار المفسرين والمبدعين في الدراسات والبحوث القرآنية، وفي ذلك بُعد مهم في الحوزات العلمية وهو وجود التخصصات واحترامها وذلك لضرورة التنوّع في الأدوار وهو ما يقتضيه اختلاف الميول والرغبات الذي يصب في سد مختلف الحاجات وإثراء المكتبات الإسلامية.
وهكذا فقد ذكر بعض من عاصر السيد الخوئي أنّه كان يحثّ تلامذته على البحوث القرآنية بقوله: “لقد حثّ الخوئي تلاميذه على الانتباه مليّاً للقرآن، تاريخه ومناحيه السياقيّة.
وما يؤكِّد هذا الأمر أنّ اهتمامه بالقرآن تأسَّس على سعيه لإيجاد منهجيّةٍ موسّعةٍ في ممارسة الفقه.
مضافاً إلى ذلك أراد الخوئي أن يقدِّم مقدّمةً تعريفيّةً لتفسير القرآن من وجهة النظر الشيعيّة، ولا سيّما أنّ المادّة المتوفِّرة حول الموضوع كانت أساساً من وجهة النظر السنّيّة”(9).
ما هي شروط المفسّر عند السيد الخوئي؟ ذكر العلماء شروطاً كثيرة للمفسر عند الخاصة والعامة يكمّل بعضها بعضاً، إلا أنّ ما ذكره الإمام الخوئي (رحمه الله) في ذلك فريد ومتميّز، ومما ذكره: الموضوعية: في مقابل الذاتية، ونعني بها التجرّد من الفكر القبلي، وعدم ليّ عنق الآية وفقاً لما يتبناه من رأي وفكر فـ”على المفسر: أن يجري مع الآية حيث تجري، ويكشف معناها حيث تشير، ويوضح دلالتها حيث تدل”.
الشمولية: في مقابل النظرة الجزئية والفهم المبتور، فحيث إنّ القرآن يمثل دائرة معارف في حقول علمية مختلفة فلا بد من أن يكون المفسّر له شمولياً في معرفة العلوم وصاحب نظر فيها وله رؤيته الواسعة في ذلك فـ”عليه أن يكون حكيماً حين تشتمل الآية على الحكمة، وخلقياً حين ترشد الآية إلى الأخلاق، وفقيهاً حين تتعرض للفقه، واجتماعياً حين تبحث فى الاجتماع، وشيئاً آخر حين تنظر فى أشياء أخر”.
العمق: فكما يجب أن يكون واسعاً أفقياً في العلوم المختلفة كذلك لا بد من أن يكون واسعاً عمودياً يتعمّق في فهم الآيات من مختلف زواياها بتأمّل ونظر “وعلى المفسر: أن يوضح الفن الذي يظهر في الآية، والأدب الذي يتجلى بلفظها، عليه أن يحرر دائرة لمعارف القرآن إذا أراد أن يكون مفسراً، والحق أنّي لم أجد من تكفّل بجميع ذلك من المفسرين”(10) وهو حين يتصدّى لذلك يرى أنّ الله قد وهبه قدرة لتحرير دائرة معارف من خلال تفعيله لعلمه وتوظيفه لقدراته وقدرته في التفسير.
عدم اتباع ما لا حجية له: فلا ينبغي للمفسّر حين يسعى لفهم كتاب الله العزيز المليء بالعلم القطعي أن يتوسل بأدوات ظنية بحتة فـ«لا يجوز الاعتماد فيه على الظنون والاستحسان، ولا على شيء لم يثبت أنه حجة من طريق العقل، أو من طريق الشرع، للنهي عن اتباع الظن، وحرمة إسناد شيء إلى اللّه بغير إذنه قال اللّه تعالى: {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}(11)، وقال اللّه تعالى: {وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(12).
ضرورة الاجتهاد والاستقلال في فهم النصوص: الاجتهاد الفقهي يعني الاجتهاد والاستقلال في آيات الله وعدم التقليد فيها للآخرين فالحجة في حق المجتهد بينه وبين الله هو اجتهاده لا اجتهاد غيره؛ لأنّ «الآيات والروايات الناهية عن العمل بغير العلم، والروايات الناهية عن التفسير بالرأي مستفيضة من الطريقين؛ ومن هذا يتضح أنه لا يجوز اتباع أحد المفسرين في تفسيره، سواء أكان ممن حسن مذهبه أم لم يكن، لأنه من إتباع الظن، وهو لا يغني من الحق شيئا».
اتباع ظواهر القرآن الكريم: وهو بحث مهم بحثه السيد الخوئي مفصلاً في علم الأصول وذكر الأدلة الساطعة على حجية ظواهر الكتاب العزيز و«لا بد للمفسر من أن يتبع الظواهر التي يفهمها العربي الصحيح».
اتباع العقل الفطري: فالعقل حجة في فهم الكتاب والتمسك بأوامره والانتهاء عن نواهيه فلا يمكن للمفسر أن يبلغ مرام الباري سبحانه إلا بضم النقل إلى العقل فهما الحجتان من الله تعالى فلا بّد له أن «يتبع ما حكم به العقل الفطري الصحيح فإنّه حجة من الداخل كما أن النبي (صلَّى الله عليه وآله) حجة من الخارج»(13).
اتباع ما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام): فهم القرآن الناطق وهم عِدل الكتاب وترجمانه كما جاءت بذلك الروايات المتواترة فلا بد للمفسر أن «يتبع ما ثبت عن المعصومين (عليهم السلام) فإنّهم المراجع في الدين، والذين أوصى النبي (صلّى الله عليه وآله) بوجوب التمسك بهم فقال: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا»(14).
هل يجب أن يكون الفقيه مفسِّراً والعكس؟ من خلال ما اشترطه الإمام الخوئي من شروط ينبغي توافرها في المفسّر فإنّه يرى بوضوح ضرورة كون المفسّر فقيهاً وأنّه لا يمكن أن يكون المتصدي لتفسير القرآن بمستوى دون الفقاهة والاجتهاد، خصوصاً من خلال الشرط الخامس بل وسائر الشروط، وقد ذكر بعض الأعلام أنّه: “لا بد للفقيه من معرفة تفسير القرآن، وخصوص آيات الأحكام منه، وقد قالوا: إنّها نحو من خمسمائة آية، ولكننا نرى أنّها تزيد على ذلك كثيراً، ولبيان وجه هذا الرأي والآيات الزائدة على العدد المذكور مكان آخر”(15).
وعبارته صريحة في حاجة المجتهد إلى علم التفسير، وهذا يكشف عن مرجعية مطلقة للقرآن الكريم، وأساسية، وعدم حصر دوره في خصوص آيات الأحكام.
وهكذا فقد ذكر صاحب الكفاية في بحث الاجتهاد والتقليد ما يحتاجه المجتهد من علوم وقال: “ومعرفة علم التفسير كذلك”(16) أي: أن لا يكتفي المجتهد بالتعرف على آيات الأحكام فحسب بل معرفة علم التفسير بقواعده وأدواته وإن كان لا يجب عليه معرفته تفصيلاً وإنّما في الجملة وفي ما يبتني عليه الاجتهاد وذلك بقوله «كذلك».
وقد بسط هذا الأمر وأوضحه مفصّلاً بعض العلماء المعاصرين حيث يقول: “التفسير للقرآن الكريم وكذلك الاجتهاد في الشريعة الإسلامية واحد من التخصصات التي يتوقف التوفر عليها على دراسة مستفيضة للعلوم المرتبطة بهذا التخصص كعلوم العربية والنحو والصرف وعلم المعاني والبيان والبديع وعلم المنطق وعلم الرجال والدراية والطبقات وعلم الأصول وعلم الفقه بتمام تشعباته والتأريخ الإسلامي وغيرها من العلوم.
فإذا استوعب الإنسان كل هذه العلوم وبلغ فيها مستوى الملكة الراسخة كان قادراً على التفسير والاجتهاد وإلا كان متطفلاً ومتقمِّصاً لمقام على غير أهليّة، فهو كمن مارس الطبابة لمجرد معرفته بعض قواعدها العامة، فأخذ يدّعي تشخيص الأمراض ووصف الأدوية ومباشرة العمليات الجراحية.
أيكون ذلك مقبولاً منه بنظر العقلاء؟! وهل يُعذر مَن يقبل بتشخيصه ووصفه للدواء ويسلِّم نفسه إليه ليعالجه بجراحة قد لا تكون مضاعفاتها متداركة، ألا يرى العقلاء أن في ذلك سفاهة من المريض وتجنِّياً من المدعي؟ وهذا المتقمِّص لمهنة الطبابة على غير أهلية لو كان فيلسوفاً أو مهندساً فهل يخوِّله ذلك بنظر العقلاء مزاولة مهنة الطبابة والحال إنّها تخصص آخر غير الفلسفة والهندسة”(17).
مكانة القرآن في البحوث الفقهية: اتفقت أغلب كلمات علماء المسلمين على أنّ أوّل مدرك من المدارك المقررة ومصدر للأحكام الشرعية وعملية الاستنباط وهو القرآن الكريم، وصرحوا بأنّها أربعة أركان أصلية «الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل» وهي التي تسمّى بـ«الأدلة الأربعة»، فالقرآن الكريم هو المصدر الأوّل الذي يستمد منه المسلمون تعاليمهم الشرعية، وقوانينهم العامة في كافة مجالات حياتهم، وأمور معاشهم، ويكتسب القرآن الكريم مكانته من خلال كونه كلام الله سبحانه، وأنّه أهمّ وأوّل المصادر التي يعتمد عليها في استنباط الأحكام الشرعية لفراغ ذمّة المكلف مما اشتغلت به من تكاليف، وهو مقدم على السنة الشريفة، بل إنّ السنة المباركة تكتسب حجيتها من خلاله، كما سوف نبحثه لاحقاً إن شاء الله.
وقد تناول القرآن الكريم في آياته الحياة الإنسانية من جوانب مختلفة، بحيث يمكن تصنيف الآيات الشريفة من خلال ذلك إلى أصناف كثيرة: العقائدية، الأخلاقية، القانونية، آيات الأحكام الفقهية وهي الآيات التي تضمنت الحديث عن الأحكام الموجهة للمكلف سواء في مجال العبادات، أم في مجال المعاملات.
ومنه يتضح أنّ دور الفقيه في التعامل مع القرآن الكريم لن يكون منحصراً في استنباطه للأحكام الفرعية من آياته، بل إنّ تعاطيه معه يشمل نظره في الآيات العقدية، وبالتالي استخراج أحكام عقدية منها، وكذا استخراج أحكام أخلاقية من الآيات الأخلاقية، وأحكام اقتصادية من الآيات الاقتصادية، وحتى القوانين والآداب الاجتماعية، وهكذا.
دور علم أصول الفقه في فهم وتفسير القرآن: علم أصول الفقه هو ما يمكن التعبير عنه بـ«منطق الفقه»(18) فهو المعيار والمنهج الذي تعصم مراعاته عملية الاستنباط من الخلل والزلل.
وقد جاء هذا العلم مبثوثاً في الشريعة الإسلامية قولاً وعملاً في الكتاب والسنة المطهرة للنبي (صلّى الله عليه وآله) وآله (عليهم السلام) وأخذه الصحابة من الرسول وأهل بيته (عليهم السلام)، إلى أن صار علماً مستقلاً تم تدوينه بين دفتين.
ولا يخفى ما وصل إليه من تطور هائل على يد كبار العلماء والعباقرة، وصار مداراً لعملية الاجتهاد وأساساً لعملية الاستنباط لا يمكن الاستغناء عنه، فصار محوراً في منظومة الدراسة العلمية الحوزوية؛ كل ذلك لأنّه أداة فهم النصوص المقدسة وتحديد الوظيفة العملية للمكلف، فهو: “العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعية الكلية الإلهية من دون حاجة إلى ضميمة كبرى أو صغرى أصولية أخرى”(19)، وبعبارة أخرى هو العلم بقواعد ومبادئ تصديقية لعلم الفقه تكون نتيجتها معرفة الوظيفة الفعلية وتشخيصها في كل مورد، فهو يتكفّل بالتمهيد والتأسيس والتنقيح لقواعد عملية الاستنباط الفقهي.
وهذه القواعد والمبادئ على أقسام كما ذكر السيد الخوئي (قدِّس سرُّه)(20) منها: ما يوصل إلى الحكم الشرعي بعلم وجداني، وما يوصل إليه بعلم تعبدي، وهذا القسم الثاني على ضربين: مباحث الألفاظ، ومباحث الحجج.
والضرب الأول وهي مباحث الألفاظ من أهم مباحث علم الأصول وهي مبتنية على كبرى مسلّمة لم يختلف فيها أحد وهي كبرى «حجية الظهور»، وهذه هي عصب عملية فهم النصوص المباركة وتفسيرها واستنباط الحكم الشرعي منها، فعلم أصول الفقه أداة مهمة للفهم الصحيح والتفسير الأقرب للواقع لكلام الله سبحانه؛ لأنّ ما يحكم فهم الكتاب العزيز ليس علماً واحداً فحسب كعلم اللغة أو النحو أو الصرف، وإنّما كل هذه لا تكون لها قيمة ودور إلا بضميمة كبريات علم الأصول وتطبيق قواعده في الفهم والاستنباط.
ومن أمثلة البحوث الأصولية المهمة في التفسير هي عدة بحوث منها: حجية الظهور.
مباحث الدلالة والوضع. مباحث المفاهيم.
بحث السياق وأثره في دلالات الألفاظ، فدور السياق في فهم النصوص وضبط معانيها مهم جداً.
ملامح المنهج التفسيري عند السيد الخوئي (رحمه الله) كان للإمام الخوئي (رحمه الله) منهجاً علمياً رصيناً في التعامل مع الآيات القرآنية، وكما يمكن استفادة هذا المنهج من استقراء تفسيره للآيات واقتناصه منها فقد أوضحه السيد (رحمه الله) نفسه في طيات بحوثه خصوصاً في تفسيره «البيان» وسنعرض هذا المنهج مستفيدين من مختلف كلماته وبحوثه: أولاً: دور العقل في التفسير عند السيد الخوئي (رحمه الله) دعا القرآن الكريم نفسه في آيات كثيرة لإمعان النظر في آياته، والتدبر فيها، والتعقل في أعماقها؛ بل جعله أفضل سبيل للتأكد من صحة المفاهيم القرآنية، وصدورها عن الله تبارك وتعالى، ومن تلك الآيات: قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}(21).
ثم شدد النكير على أولئك القوم الذين لا يعون حقائق القرآن، ولا يستمعون لنداءاته، فقال سبحانه: {فَمَالِ هَـٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}(22).
ثم أثنى على أولئك القوم الذين يتفاعلون مع الآيات القرآنية، ويتحركون في ضوء دلالاتها وتوجيهاتها ومعانيها، فقال عزّ من قائل: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}(23).
فنرى أنّ كل هذه الآيات تؤكد أنّ القرآن الكريم أراد منّا التعامل معه على أساس وحي العقل وتأملاته واستنـتاجاته المنطقية؛ ذلك لأنّ آياته تنسجم مع المسلّمات العقلية تمام الانسجام، وقد صرّح الخوئي بهذه الحقيقة عندما كان يقارن بين الجاهلية ونظام الإسلام التشريعي فيقول: “فإنّ للقرآن في أنظمته وتعاليمه مسلكاً يتمشى مع البراهين الواضحة، وحكم العقل السليم، فقد سلك سبيل العدل، وتجنّب عن طرفي الإفراط والتفريط”(24).
إذاً لا يمكن للمفسّر أن يستغني عن العقل في الوصول إلى مرادات الشارع: إما بأن يوصله بفطنته وذكائه وحدسه إلى معنى الآيات الشريفة من خلال الجمع بين الآيات والروايات والقرائن المختلفة المحتفة بها، وقد سمي العقل هنا بـ«المصباح».
وإما باستنباط معانيها من المبادئ التصورية والتصديقية النابعة من المصدر الذاتي للعقل البرهاني والعلوم المتعارفة، وقد سمّي هنا بـ«المصدر»(25).
فلا بد للمفسر -كما يصرّح الخوئي (رحمه الله)- من أن “يتبع [في التفسير] ما حكم به العقل الفطري الصحيح فإنّه حجة من الداخل كما أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) ؤحجة من الخارج”(26)، بل إنّ الحجة الظاهرة وهو المعصوم (عليه السلام) حجيته ترجع إلى العقل، فحجية العقل هي أساس الحجج الأخرى -وهو مذهب العدلية القائلين بالحسن والقبح العقليين-؛ ولذا يرى الخوئي (رحمه الله) ضرورة التزام ما ثبتت حجيته بالعقل في التفسير، وعدم جواز الحياد عنه، حيث قال: “التفسير هو إيضاح مراد الله تعالى وكتابه العزيز فلا يجوز الاعتماد فيه على الظنون والاستحسان ولا على شيء لم يثبت أنّه حجة من طريق العقل أو من طريق الشرع للنهي عن إتباع الظن وحرمة إسناد شيء إلى الله بغير أدلة…”(27)، وقد التزم الإمام الخوئي نفسه بهذا المنهج في تفسيره وقد صرح بذلك بقوله: “وسيجد القارئ أنّي لا أحيد فى تفسيري هذا عن ظواهر الكتاب ومحكماته وما ثبت بالتواتر أو بالطرق الصحيحة من الآثار الواردة عن أهل بيت العصمة، من ذرية الرسول (صلّى الله عليه وآله) وما استقل به العقل الفطري الصحيح الذي جعله اللّه حجة باطنة كما جعل نبيه (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) حجة ظاهرة”(28).
ثانياً: نظرية تفسير القرآن بالقرآن هي طريقة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فإنّ المتابع لرواياتهم يلاحظ أنّهم كثيراً ما يفسرون آية بذكر آية أخرى توضح المراد منها، وهم بهذا يرشدون أتباعهم إلى كيفية تفسير القرآن والتدبر في آياته بالاستفادة من الآيات الأخرى في تفسير ما أُبهم من معانيها، يقول العلامة الطباطبائي: “وقد كانت طريقتهم (عليهم السلام) في التعليم والتفسير هذه الطريقة بعينها على ما وصل إلينا من أخبارهم في التفسير، هذا هو الطريق المستقيم والصراط السويّ الذي سلكه معلّمو القرآن وهداته صلوات الله عليهم”(29).
بل صرّحوا (عليهم السلام) بهذه الحقيقة في عدد من الروايات: «وإن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً، ولكن نزل يصدّق بعضه بعضاً»(30) وفي النهج الشريف عن الأمير (عليه السلام): «ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض»(31).
بل وتعتمد هذه النظرية على أساس أنّ القرآن الكريم يمثل بمجموعه كتاباً واحداً من مصدر واحد، وبالتالي فهو يمثل رؤية واحدة للقضايا لا اختلاف فيها، كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً}(32).
ويمكن أن يقال بأن القرآن الكريم يدعو إلى هذا المنهج، فلاحظ قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ}(33)، حيث إنّ هذه الآية واضحة في عدم السماح بتبعيض القرآن الكريم وفهم معانيه على أساس النظرة التجزيئية لآياته وسوره.
ويجدر بنا الوقوف هنا مع ما يتبناه الإمام الخوئي (رحمه الله) من مباني لهذه النظرية، بعد تسليم قبوله لها، بل واطرائه لها فقد سُئل (رحمه الله) عنها، فأفتى: “أحسن التفسير تفسير القرآن بالقرآن، حيث فهم الآية من خلال آيات أخرى”(34).
فما هي حقيقة هذه النظرية عند الخوئي والذي قد يختلف رأيه في مبانيها عن رأي زميله(35) العلامة الطباطبائي رائد هذه النظرية في العصور المتأخرة؟ وحيث إنّها نظرية لها أبعاد وقواعد تفسيرية وقواعد على صعيد أصول الفقه وقواعد على صعيد نفس الفقه ولها مناشئ كلامية أو معرفية لذا لا بد من تتبع كلمات الإمام الخوئي (رحمه الله) في هذه الأبحاث وجمعها.
وحتى تتضح هذه الفروق بين النظريتين أكثر نقف أولاً مع رؤية ومباني النظرية عند العلامة الطباطبائي؛ ثم آراء ومباني الإمام الخوئي المباينة والمختلفة معه ثانياً، ثم ملاحظات الفروق الأساسية بين النظرية عند العلَمين، فالبحث في جهات ثلاث: الجهة الأولى: مباني نظرية تفسير القرآن بالقرآن عند العلامة الطباطبائي أوضح العلامة (قدِّس سرُّه) نظريته في مواضع متعددة في تفسيره «الميزان» والتي تبتني على كبرى «هيمنة القرآن» وأعظمية حجية القرآن على السنة وأن حجية النبي (صلّى الله عليه وآله) منبثقة من حجية القرآن، وقد استدل لها بثلاثة أدلة على الأقل منها: الدليل الأول: إنّ القرآن نورٌ كما عرّف نفسه في آيات عديدة(36)، والنور لا يحتاج إلى غيره ليستنير به، فيقول (رحمه الله): “وجعله هدى ونوراً وتبياناً لكل شيء، فما بال النور يستنير بنور غيره؟ وما شأن الهدى يهتدي بهداية سواه؟ وكيف يتبين ما هو تبيان كل شيء بشيء دون نفسه”(37)، وقد قال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}(38).
الدليل الثاني: إنّ تحدّي القرآن لجميع الخلق حتى الكفار في الوصول إلى معارفه ومكنوناته يعني أن فهمه ميسّر لهم جميعاً بمقتضى معجزيته، ولا يحتاج إلى بيان غيره حتى النبي (صلّى الله عليه وآله)، يقول (رحمه الله): “فإن قلت: لا ريب أنّ القرآن إنّما نزل ليعقله الناس… قلت: قد مرّ فيما تقدم أنّ الآيات التي تدعو الناس عامة من كافر أو مؤمن ممن شاهد عصر النزول أو غاب عنه إلى تعقّل القرآن وتأمّله والتدبر فيه، وخاصة قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً}(39) ؛ تدل دلالة واضحة على أن المعارف القرآنية يمكن أن ينالها الباحث بالتدبر والبحث، ويرتفع به ما يتراءى من الاختلاف بين الآيات، والآية في مقام التحدي”(40).
الدليل الثالث: في روايات كثيرة جاء الأمر بالتمسك بالقرآن وعرض الروايات عليه، وهذا يعني أنّ كل ما في الروايات يمكن استفادته من القرآن الكريم، وعليه: لو توقف فهم القرآن على الروايات للزم من ذلك الدور، يقول (رحمه الله): “على أنّ الأخبار المتواترة عنه (صلّى الله عليه وآله) المتضمنة لوصيته بالتمسك بالقرآن، والأخذ به، وعرض الروايات المنقولة عنه (صلّى الله عليه وآله) على كتاب الله لا يستقيم معناها إلا مع كون جميع ما نقل عن النب (صلّى الله عليه وآله) مما يمكن استفادته من الكتاب، ولو توقّف ذلك على بيان النبي (صلّى الله عليه وآله) كان من الدور الباطل، وهو ظاهر”(41)، ويقول في موضع آخر: “والمحصل أنّ النهي عنه إنّما هو الاستقلال في تفسير القرآن واعتماد المفسر على نفسه، من غير رجوع إلى غيره، ولازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه، وهذا الغير لا محالة: إما هو الكتاب والسنة، وكونه هي السنة ينافي القرآن ونفس السنة -الآمرة بالرجوع إليه وعرض الأخبار عليه-؛ فلا يبقى للرجوع إليه والاستمداد منه في تفسير القرآن، إلا نفس القرآن”(42).
ومن خلال كلمات العلامة هذه وغيرها نستنتج أبعاد هذه النظرية عنده، وما وصل إليه من نتائج، والتي منها: أولاً: أنّ السنة لا تنسخ القران الكريم فالكتاب لا يُنسخ إلا بالكتاب.
ثانياً: أنّ عموم الكتاب لا يخصص بالسنة(43).
ثالثاً: أنّ دور السنة ليس تبيينا لمفاد ومرادات الآيات والسور وإن كانت تبيّن ذلك إلا أنّ دورها هو أن تبيّن المنهج في نظام دلالة الآيات والسور، فالمفسر في بداية أمره يحتاج إلى الروايات كي يتدرب ويتعلم منهج التفسير وبعد ذلك يقوم هو بالتفسير فإنّ القران هو يفسر نفسه وهذا من تفسير القرآن بالقرآن.
الجهة الثانية: نظرية تفسير القرآن بالقرآن عند الإمام الخوئي (رحمه الله) لقد عرّف الخوئي (قدِّس سرُّه) تفسير القرآن بالقرآن بقوله: “تفسير القرآن بالقرآن حيث فهم الآية من خلال آيات أخرى”(44)، وهو في هذا لا يختلف عن العلامة الطباطبائي وهو ما وردت به الروايات الكثيرة، ووظّفه الخوئي نفسه في موارد كثيرة من كتابه البيان وموسوعته وقد عبّر عنه بأنّه: “أحسن التفسير تفسير القرآن بالقرآن”(45)، بل وصرّح في مقدمة البيان باعتماده له كأسلوب من أساليب فهم القرآن بقوله (رحمه الله): “وسيجد القارئ أيضاً أنّي كثيراً ما أستعين بالآية على فهم أختها، واسترشد القرآن إلى إدراك معاني القرآن، ثم أجعل الأثر المروي مرشداً إلى هذه الاستفادة”(46).
إلا أنّ مباني هذه النظرية عند الخوئي تختلف عن الطباطبائي، فإنّه لا يقبل الكبرى التي بنى عليها الطباطبائي نظريته، وهو بذلك لا يلتزم باللوازم والنتائج التي وصل إليها الطباطبائي وهو ما سنتعرّض له في العناوين لاحقاً.
مباني نظرية تفسير القرآن بالقرآن عند الإمام الخوئي تبتني هذه النظرية على أبعاد: البعد الأولى: حقيقة العلاقة بين الآيات ببعضها: يقول (رحمه الله): “وسيجد القارئ أيضاً أنّي كثيراً ما أستعين بالآية على فهم أختها، وأسترشد القرآن إلى إدراك معاني القرآن، ثم أجعل الأثر المروي مرشداً الى هذه الاستفادة”(47) فهو يرى أنّ العلاقة بين الآيات فيما بينها هي علاقة المصادقة والموافقة والتناغم والانسجام، فالآية طريق لفهم الآية الأخرى، وقنطرة لمعرفة مراد الباري من بقية الآيات، وقد جعل الله سبحانه في الآيات قابلية خاصة تكشف أسرار بعضها البعض، بل يرى أنّ القرآن سبب لإدراك ما يراد منه، والإدراك حالة متطورة جداً للمعرفة.
كل ذلك منطلقه قاعدة مهمة أصّل لها الخوئي (رحمه الله) في بحوثه الأصولية وهي الاتكاء على القرائن المتصلة والمنفصلة وقرينة السياق لفهم النص، وقد فرّق -في بحث حجية الظواهر- بين التفسير بالرأي المنهيّ عنه والتفسير بالظاهر، على أساس أنّ التفسير بالظاهر هو التفسير بما يفهمه العرب من اللّفظ، وهو ما تدلّ عليه القرائن المتّصلة والمنفصلة، فإنّ حمل اللّفظ على ظاهره لا يكون إلا بعد الفحص عن القرائن المتّصلة والمنفصلة من الكتاب والسنّة.
فهو يرفض التفسير بالرأي، ولكنّه يقبل التفسير بالظاهر لهذا الفرق بينهما، الذي يتلخّص في أنّ التفسير بالرأي هو العمل بالعمومات، أو المطلقات من غير فحص عن المخصّص أو المقيّد، بينما التفسير بالظاهر أخذ بظاهر اللّفظ ولكن بعد الفحص عن المخصّص أو المقيّد.
البعد الثاني: دور نصوص المعصومين (عليهم السلام) في فهم القرآن: صرّح الخوئي (رحمه الله) تحت عنوان «مدارك التفسير» في ما يعتبره مصدراً لفهم القرآن الكريم وما لا يمكن للمفسّر أن يحيد عنه بقوله: «أو يتبع ما ثبت عن المعصومين (عليهم السلام) فإنّهم المراجع في الدين، والّذين أوصى النبي (صلّى الله عليه وآله) بوجوب التمسك بهم فقال: “إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً”(48).
بل اشترط السيد الخوئي (رحمه الله) عند بحثه لشروط المفسّر ضرورة: أن “يتّبع ما ثبت عن المعصومين (عليهم السلام) فإنّهم المراجع في الدين…”(49) فهو يرى أنّ نصوصهم (عليهم السلام) مفسِّرة للآيات الشريفة وهو ما يختلف فيه عن الطباطبائي (قدِّس سرُّه) الذي ذهب إلى أنّ نصوص المعصومين (عليهم السلام) لا تفسِّر القرآن بل هي معلّمة فقط.
وقد عمل هو بنفسه بهذا الأمر في تفسيره لذا يقول: “وسيجد القارئ أنّي لا أحيد فى تفسيري هذا عن… ما ثبت بالتواتر أو بالطرق الصحيحة من الآثار الواردة عن أهل بيت العصمة من ذرية الرسول (صلّى الله عليه وآله)ر وما استقل به العقل الفطري الصحيح الذي جعله اللّه حجة باطنة كما جعل نبيه (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) حجة ظاهرة»(50).
بل جعل الرواية في أسلوبه في تفسيره مرشدة لفهم القرآن بالقرآن حين يقول: “وسيجد القارئ أيضاً أنّي كثيراً ما أستعين بالآية على فهم أختها، واسترشد القرآن إلى إدراك معاني القرآن، ثم أجعل الأثر المروي مرشداً إلى هذه الاستفادة”(51)، وهو في هذا أيضاً يخالف الطباطبائي (رحمه الله).
كل ذلك يرجع إلى حقيقة مهمة في عقيدة الخوئي ألا وهي اختصاص فهم واقع القرآن عليهم يقول (رحمه الله): “فهُمُ المخصوصون بعلم القرآن على واقعه وحقيقته، وليس لغيرهم في ذلك نصيب”(52) فكون العترة عدلاً لا ينفك عن القرآن يعني حصر فهم واقعه عليهم (عليهم السلام).
وقد أوعز (رحمه الله) ذلك إلى مقامات أهل البيت (عليهم السلام) مع القرآن الكريم، فذكر أنّهم (عليهم السلام) الشركاء والقرناء والأدلاء عليه؛ ولهذا يقول في بحث فضل القرآن: “من الخير أن يقف الإنسان دون ولوج هذا الباب، وأن يكل بيان فضل القرآن إلى نظراء القرآن، فإنّهم أعرف الناس بمنزلته، وأدلهم على سموّ قدره، وهم قرناؤه في الفضل، وشركاؤه في الهداية، أما جدهم الأعظم فهو الصادع بالقرآن، والهادي إلى أحكامه، والناشر لتعاليمه، وقد قال (صلّى الله عليه وآله): «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»(53).
فالعترة هم الأدلاء على القرآن، والعالمون بفضله.
فمن الواجب أن نقتصر على أقوالهم، ونستضيء بإرشاداتهم”(54).
ولذا يُحتَّم اللجأ إليهم والرجوع إليهم حين يعجز الإنسان وتقصر إمكاناته عن بلوغ وإدراك مرامي الباري سبحانه في كتابه.
البعد الثالث: معنى قبول روايات التفسير وحدوده:
– إشكال ورد: إنّ الروايات الواردة في تفسير القرآن لا حجية لها؛ لأنّ حجية خبر الواحد -كأحد الأدلة الظنية- منوطة بالجهل بالواقع وترتيب الآثار عليه، كما يحصل في موارد الجهل بالحكم الشرعي فيأتي خبر الواحد فتترتب عليه آثار ما لو قطع به، وهذا لا يتحقق في أخبار التفسير الواردة عن المعصومين (عليهم السلام).
– الرد: إنّ معنى الحجية في الأمارة الناظرة إلى الواقع هو جعلها علماً تعبدياً في حكم الشارع عند الخوئي (رحمه الله)، فيكون الطريق المعتبر فرداً من أفراد العلم، ولكنّه فرد تعبدي لا وجداني فيترتب عليه كلما يترتب على القطع من الآثار، فيصح الإخبار على طبقه كما يصح أن يخبر على طبق العلم الوجداني، ولا يكون من القول بغير علم.
ويدلنا على ذلك سيرة العقلاء، فإنّهم يعاملون الطريق المعتبر معاملة العلم الوجداني من غير فرق بين الآثار، فإنّ اليد مثلاً أمارة عند العقلاء على مالكية صاحب اليد لما في يده، فهم يرتبون له آثار المالكية، وهم يخبرون عن كونه مالكاً للشيء بلا نكير، ولم يثبت من الشارع ردع لهذه السيرة العقلائية المستمرة(55).
أما حدود ما يقبل من الروايات المفسِّرة: فقد حسم الخوئي ذلك في حدود المقطوع منها حيث يقول: “ولا شبهة في ثبوت قولهم (عليهم السلام) إذا دل عليه طريق قطعي لا شك فيه -إذ لا وجود للتحريف أو الكذب أو الدس فيها- كما أنه لا شبهة في عدم ثبوته إذا دل عليه خبر ضعيف غير جامع لشرائط الحجية، وهل يثبت بطريق ظني دل على اعتباره دليل قطعي؟ فيه كلام بين الأعلام”(56)، فهو يرى بوضوح القبول للروايات الصحيحة المفسرة للقرآن الكريم.
البعد الرابع: هل يُخصَّص الكتاب بخبر الواحد؟ اتضح مما سبق العلاقة بين الكتاب الكريم والسنة المطهرة على مستوى التفسير والبيان، ولكن السؤال المطروح الآن هو: هل يمكن تخصيص عموم الآيات القرآنية بخبر الواحد من السنة الشريفة؟ يجيب الإمام الخوئي: “التحقيق هو ما ذهب إليه علماؤنا (قدّس اللَّه أسرارهم) من جواز تخصيصه [الكتاب الكريم] بخبر الواحد مطلقاً”(57)، وقال: “الظاهر أنّه لا خلاف بين الطائفة الإمامية في جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد فيما نعلم، والمخالف في المسألة إنّما هو العامة”(58).
أما ما هو الوجه في اعتبار تخصيص الكتاب بأخبار الآحاد مطلقاً، فيقول الخوئي (رحمه الله): “والسبب في ذلك: هو أنّنا إذا أثبتنا حجية خبر الواحد شرعاً بدليل قطعي، فبطبيعة الحال لا يكون رفع اليد عن عموم الكتاب أو إطلاقه به إلا رفع اليد عنه بالقطع، لفرض أنّا نقطع بحجيته”(59).
الجهة الثالثة: نتائج الفرق بين النظرية بين الخوئي والطباطبائي اتضح أنّ الفرق يكمن في نظرة كلٍّ من العلَمين إلى القرآن الكريم وعلاقة الأحاديث الشريفة به، وما هي العلاقة بينهما، خصوصاً في ما هو دور الحديث في فهم القرآن عند الخوئي (رحمه الله)، ومن الفروق: أولاً: إنّ الخوئي يرى تخصيص الكتاب بخبر الواحد، بخلاف الطباطبائي الذي يرى أنّ الكتاب لا يُنسخ إلا بالكتاب ولا يخصص بالسنّة.
ثانياً: يعتقد الخوئي بأنّ السنّة الصحيحة لها دور في بيان مفاد ومرادات الآيات والسور، وليس تبيينها لذلك تعليماً فقط كما يذهب الطباطبائي، الذي يرى أنّ المفسر في بداية أمره يحتاج إلى الروايات كي يتدرب ويتعلم منهج التفسير وبعد ذلك يقوم هو بالتفسير فإنّ القرآن هو يفسر نفسه.
ثالثاً: إنّ توسيط الروايات في الاستعانة بالآية في فهم أختها عند الخوئي، أما الطباطبائي فيرى أنّ القرآن نور لا يحتاج إلى غيره.
* نماذج تطبيقية لنظرية تفسير القرآن بالقرآن عند السيد الخوئي: النموذج الأول: يستفيد السيد الخوئي لتحديد بعض المفاهيم التي تعد موضوعات لأحكام شرعية من خلال الاستعمالات القرآنية وذلك ليرتب عليها آثار فقهية ومنها مفهوم الزوجية حيث يقول: “الزوجية من المفاهيم المتضايفة المتشابهة الطرفين، بحيث يكون المضاف إلى كل منهما عين المضاف إلى الآخر نظير الأخوة المضافة إلى الطرفين على حد سواء، فكما أنّ هذا أخ لذاك فذاك أخ لهذا بلا اختلاف في النسبة، وليست هي كالأُبوة والبنوّة؛ ومن هنا فكما أنّ الرجل زوج للمرأة فهي زوج له، كما استعمل ذلك في جملة من الآيات الكريمة: قال تعالى: {وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}(60) وقال تعالى: {ولَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ}(61) وقال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلا}(62)، وقال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْواجِكَ وبَناتِكَ ونِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}(63)، وقال تعالى: {وإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}(64)، وقال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ}(65)، إلى غير ذلك من الآيات.
فالزوجية مفهوم في مقابل الفردية، وهي عبارة عن انضمام أحدهما إلى الآخر مع وحدة علاقتها إليهما.
وعليه فلكل منهما إنشاؤها واعتبار الآخر زوجاً له أو لها، فإذا تحقّق ذلك من أحدهما وتحقّق القبول من الآخر صدق العقد والمعاهدة، ومن ثَمَّ شملته أدلّة اللّزوم.
والحاصل أنّه لا موجب للقول بلزوم كون الإيجاب من الزوجة خاصة والقبول منه، فإنّه لا دليل عليه وإن كان هو الغالب خارجا»(66).
– حقيقة النكاح شرعاً: وهكذا نلاحظه يتتبع الآيات حين يتطرق إلى معنى النكاح الشرعي ليحدده موضوعاً لكثير من الأحكام والتطبيقات فيقول: “كلمة النكاح ومشتقاتها قد وردت في الكتاب العزيز فيما يزيد عن عشرين مورداً، وهي مستعملة في جميع تلك الموارد في التزويج.
كقوله تعالى {وأَنْكِحُوا الأَيامى مِنْكُمْ والصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وإِمائِكُمْ}(67).
وقوله تعالى {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ}(68).
وقوله تعالى {ولا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}(69).
و قوله تعالى {ولا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}(70).
و قوله تعالى {ولا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}(71) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.
نعم، هي مستعملة في مورد واحد في الوطء هو قوله تعالى {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}(72) وذلك على ما اختاره في محلّه، وإلّا فقد ذهب المشهور إلى أنّها مستعملة في التزويج أيضاً.
ومن هنا فحمل النكاح في المقام على الوطء من غير قرينة خلاف الظاهر جدّاً بل الظاهر منه ولا سيما بملاحظة استعمالاته في سائر الموارد هو التزويج.
نعم، لا يبعد دعوى اشتراك هذه الكلمة لفظاً بين التزويج والوطء، وعلى هذا فتحتاج معرفة المراد بها في كل مورد إلى القرينة وإن كان الغالب استعمالها في التزويج.
وأما احتمال كونها مشتركة معنوية بينهما بمعنى كونها موضوعة للجامع بينهما فهو بعيد جدّاً، إذ لا جامع حقيقي بين الأمر الاعتباري والأمر الحقيقي، والجامع الانتزاعي وإن كان ممكناً في حدّ ذاته وثابتاً في متعلقات الأوامر، إلّا أنّه لا دليل عليه في باب الوضع بل لم يعهد ذلك في شيء من موارده”(73).
النموذج الثاني: قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ والْمَساكِينِ والْعامِلِينَ عَلَيْها والْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وفِي الرِّقابِ والْغارِمِينَ وفِي سَبِيلِ اللَّهِ وابْنِ السَّبِيلِ}(74).
1. معنى المسكين: ذكر السيد الخوئي (رحمه الله) معنى المسكين من خلال الاستفادة من المعنى اللغوي والقرآني لتطبيقه فقهياً يقول: “وأمّا المسكنة فهي مطلق الذلّة، قال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ والْمَسْكَنَةُ} (75)، في قبال العزّة، فإنّ اليهود كانوا مطرودين أذلّاء وإن كانوا أغنياء، فالمسكين هو الذليل والضعيف، قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ} (76) أي لضعفاء أذلّاء، ولم يعلم أنّهم كانوا فقراء»(77)، ويقول في موضع آخر: “إنّ المذكور في الآية المباركة والنصوص وإن كان هو المسكين الذي قد يُطلق على من هو أشدّ حالًا من الفقير، إلّا أنّ المراد منه إذا استُعمِل منفرداً هو الفقير كما ادّعاه غير واحد، ويناسبه المعنى اللغوي، فإنّ المسكنة في اللغة على معانٍ منها: الفقر والذلّ والضعف، فيُطلق المسكين على الفقير في مقابل الغني، وعلى الذليل في مقابل العزيز، وعلى الضعيف في مقابل القوي.
إذاً، فاعتبار شيء آخر زائداً على الفقر بأن يكون أسوأ حالًا منه لا دليل عليه، ومقتضى الأصل العدم بل قد يدلّ عليه قوله (عليه السلام) في موثّقة إسحاق بن عمّار الواردة في كفّارة الإطعام:… قلت: فيعطيه الرجل قرابته إن كانوا محتاجين؟ قال: «نعم»(78)، حيث يظهر منها أنّ مجرّد الحاجة التي هي مناط الفقر كافٍ في كونه مصرف الكفّارة، ولا يُعتَبر أزيد من ذلك، فيكون هذا بمثابة التفسير للفظ المسكين»(79)، وقد ذكر صاحب الميزان (رحمه الله) معنى واحداً للذليل فقط بقوله: “أما المسكين فهو الذي حلّت به المسكنة والذلة مضافة إلى فقدان المال وذلك إنّما يكون بأن يصل فقره إلى حد يستذله بذلك كمن لا يجد بدا من أن يبذل ماء وجهه ويسأل كل كريم ولئيم من شدة الفقر وكالأعمى والأعرج فالمسكين أسوأ حالا من الفقير”(80)، وهذا بخلاف السيد الخوئي الذي ذكر له أكثر من معنى مستفيداً من الآيات القرآنية والاستعمالات اللغوية بلحاظ المقابل لها.
– ما هو الفرق بين الفقير والمسكين؟ يقول السيد الخوئي: “الظاهر أنّهما صنفان والمفهومان متغايران وإن انطبقا على موضوع واحد واجتمعا في مورد واحد، فإنّ الفقر بمفهومه العامّ هو الاحتياج والفقير هو المحتاج، قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ واللَّهُ هُوَ الْغَنِيُ} (81)، فإنّ البشر بل كلّ ممكن فهو في جميع شؤونه من معاشه ومعاده وحركاته وسكناته بل حتّى في وجوده فقير، أي محتاج إلى اللَّه تعالى.
ولكن كثيراً ما يستعمل في صنف خاصّ من الاحتياج، وهو الاحتياج من حيث المال، فيقال: زيد فقير، أي محتاج إلى المال، قال تعالى: {ومَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}(82)، وقال تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما}(83).
ولا يعتبر في هذا الاستعمال عدم السؤال جزماً… وقد أُطلق الفقير على البائس الذي هو أسوأ حالًا من المسكين فضلًا عن الفقير في الذكر الحكيم، قال تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ}(84).
نعم، يطلق المسكين على الفقير أيضاً باعتبار أنّ من لا مال له فهو ذليل حقير عند أبناء الدُّنيا، ومن ثمّ كان يشقّ على جبابرة قريش الخضوع والإيمان برسول اللَّه (صلّى الله عليه وآله)، لكونه (صلّى الله عليه وآله) ذليلًا في نظرهم، لمكان فقره (صلّى الله عليه وآله)، كما حكاه سبحانه عنهم بقوله تعالى: {وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}(85).
ولا يعتبر في هذا الاستعمال أيضاً السؤال وإن اختصّ به في الصحيحتين الآتيتين، لصدق المسكين عرفاً على مطلق الفقير وإن لم يكن سائلًا كما أُطلق عليه في الكتاب العزيز، كقوله تعالى {عَشَرَةِ مَساكِينَ، فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} إلى غير ذلك ممّا هو كثير جدّاً، فإنّ إطعام المسكين في باب الكفّارات لا يختصّ بالسائل قطعاً، بل لعلّ غير السائل الذي يظهر مناعة الطبع أولى من غيره كما لا يخفى.
فتحصّل: أنّ الفقر هو الاحتياج إمّا مطلقاً أو في خصوص المال، والمسكنة هي الذلّة، فالفقير والمسكين متغايران مفهوماً وإن صدقا على موضوع واحد بالاعتبارين.
وأمّا بحسب الروايات فقد فرّق بينهما في صحيح ابن مسلم بالسؤال وعدمه عن أحدهما (عليهما السلام): أنّه سأله عن الفقير والمسكين «فقال: الفقير: الذي لا يسأل، والمسكين: الذي هو أجهد منه، الذي يسأل»(86).
لكن لا ينبغي التأمّل في عدم كونه (عليه السلام) بصدد بيان المفهوم من اللفظ لغةً أو عرفاً ليكون منافياً مع ما قدّمناه، بل لم نعهد حتّى رواية واحدة تكون واردة لبيان شرح اللفظ وبيان مفهومه اللغوي أو العرفي، لخروج ذلك كلّه عن شأنه ومنصبه الساميين.
فالصحيحة واردة لا محالة لبيان المراد من هاتين الكلمتين الواقعتين في الآية المباركة أعني قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ والْمَساكِينِ} فهي تفسير للآية لا بيان لمفهوم اللفظ بما هو، ولا ضير في ذلك، فيلتزم بأنّ مصرف الزكاة هو مطلق من لا مال له سأل أم لم يسأل، فأُريد من المسكين الأوّل، ومن الفقير الثاني.
وأوضح حالًا صحيحة أبي بصير التي صرّح فيها بيان المراد من الآية، قال: قلت لأبي عبد اللَّه (عليه السلام): قول اللَّه (عزَّ وجلَّ) {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ والْمَساكِينِ} «قال: الفقير: الذي لا يسأل الناس، والمسكين: أجهد منه، والبائس: أجهدهم»(87).
وأمّا سند هذه الرواية فالظاهر أنّها صحيحة كما وصفناها» (88).
وقد ذكر صاحب الميزان (رحمه الله) هذا المعنى بقوله: “والفقير والمسكين وإن كانا بحسب النسبة أعمّ وأخص فكل مسكين من جهة الحاجة المالية فقير ولا عكس غير أنّ العرف يراهما صنفين متقابلين لمكان مغايرة الوصفين في نفسهما فلا يرد أنّ ذكر الفقير على هذا المعنى مغنٍ عن ذكر المسكين لمكان أعمّيته وذلك أنّ المسكنة هي وصف الذلة كالزمانة والعرج والعمى وإن كان بعض مصاديقه نهاية الذلة من جهة فقد المال»(89).
النموذج الثالث: قوله تعالى: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(90).
1. معنى {الرِّجْسَ}: أما لغة فقد نقل السيد الخوئي بعض ما ذكره علماء اللغة واستفاد منه: “رجس أي: خبيث، وفي مفردات الراغب: الرجس الشيء القذر.
يقال: رجل رجس ورجال أرجاس، والرجس على أربعة أوجه: إما من حيث الطبع، وإما من جهة العقل، وإما من جهة الشرع، وإما من كل ذلك. وفي القاموس: الرجس بالكسر القذر، والمأثم، وكل ما استقذر من العمل، والعمل المؤدي إلى العذاب. وفي المنجد: رجس رجاسة عمل عملاً قبيحاً»(91).
أما ما يستفيده السيد الخوئي من المعنى اللغوي ومن سياق الآيات القرآنية فقد قال: “الرجس ليس معناه هو النجس وإنّما معناه الخبيث والدني المعبّر عنه في الفارسية بـ«پليد» لصحة إطلاقه على الأفعال الدنيئة كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ والْمَيْسِرُ والْأَنْصابُ والْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ}.
فإنّ الميسر من الأفعال ولا معنى لنجاسة الفعل”(92).
وقال في موضع آخر: “إنّ الرجس في الآية لا يراد منه القذارة الظاهرية لكي ينازع في اختصاصه بالأعيان النجسة، أو شموله الأعيان المتنجسة أيضاً.
بل المراد منه القذارة المعنوية: أي الحسية الموجودة في الأمور المذكورة في الآية، سواء كانت قدرة بالقذارة الحسية أيضاً أم لم تكن، والذي يدل على ذلك من الآية إطلاق الرجس على الميسر والأنصاب والأزلام، فإنّ من البديهي أنّ قذارة هذه الأشياء ليست ظاهرية، ولا شبهة في صحة إطلاق الرجس في اللغة على ما يشمل القذارة الباطنية أيضاً، وعليه فالآية إنّما تدل على وجوب الاجتناب عن كل قذر بالقذارة الباطنية التي يعبر عنها في لغة الفُرس بلفظ (پليد) فتكون المتنجسات خارجة عنها جزماً… إنّ الرجس قد يطلق على مطلق القبائح والمعاصي، وقد عرفت ذلك في الهامش من القاموس وغيره»(93).
وهذا ما ذكره مختصراً صاحب الميزان (رحمه الله) بقوله: “والرجس -بالكسر فالسكون- صفة من الرجاسة وهي القذارة، والقذارة هيئة في الشيء توجب التجنب والتنفر منها، وتكون بحسب ظاهر الشيء كرجاسة الخنزير، قال تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنّهُ رِجْسٌ}(94)، وبحسب باطنه -وهو الرجاسة والقذارة المعنوية- كالشرك والكفر وأثر العمل السيء، قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}(95)، وقال: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}(96).
2. معنى {التطهير}: ذكر السيد الخوئي (قدِّس سرُّه) حين تعرض إلى معنى المطهرون في قوله عزّ من قائل {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} ما نصه: “إنّ المطهر غير المتطهر حيث إنّ الثاني ظاهر في من تطهر من الحدث بالوضوء أو الغسل أو من الخبث بغسله، وأما المطهر فهو عبارة عمن طهره اللَّه سبحانه من الزلل والخطأ وأذهب عنه كل رجس، والمذكور في الآية المباركة هو المطهر دون المتطهر ففيها إشارة إلى قوله سبحانه {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} فمعنى الآية على هذا أنّ مسّ الكتاب الذي هو كناية عن دركه بما له من البواطن لا يتيسّر لغير الأئمة المطهّرين فإنّ غير من طهّره اللَّه سبحانه لا يصل من الكتاب إلّا إلى ظواهره”(97) ويؤكد على هذا المعنى حين يبين الوجه في حرمة مس كتابة القرآن من غير طهارة فيقول: “وهذا لا لقوله عزّ من قائل {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} لأنّ معنى الآية المباركة أنّ الكتاب لعظمة معاني آياته ودقة مطالبه لا ينال فهمها ولا يدركها إلّا من طهّره اللَّه سبحانه، وهم الأئمة (عليهم السلام) لقوله سبحانه: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} وليست لها أية دلالة على حصر جواز المس للمتطهر، لأنّ المطهَّر غير المتطهِّر وهما من بابين، ولم يرَ إطلاق المطهر على المتطهر كالمغتسل والمتوضي في شيء من الكتاب والأخبار.
على أن الضمير في يَمَسُّهُ إنّما يرجع إلى الكتاب المكنون وهو اللّوح المحفوظ، ومعنى أنّ الكتاب المكنون لا يمسّه إلّا المطهّرون هو ما قدّمناه من أنّه لا يناله ولا يصل إلى دركه إلا الأئمة المعصومون (عليهم السلام)”(98) ويكرر هذا الوجه مع إضافةٍ في بحث «ما يحرم على الجنب» ومنها مس كتابة القرآن فيقول تعلقياً على الاستدلال بقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}: “الآية المباركة لا دلالة لها على المدعى فإنّ المطهر غير المتطهر، لوضوح أنّ الثاني ظاهر في التطهر من الحدث الأصغر أو الأكبر والمطهر من طهره اللَّه من الزلل والخطأ، والمذكور في الآية المباركة هو الثاني دون الأوّل، ففيها إشارة إلى قوله سبحانه {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.
ومعنى أنّه لا يمسّه إلّا من طهره اللَّه أنّه لا يدركه بما له من البواطن غير المعصومين (عليهم السلام) فالآية إخبار وليست بإنشاء، فإنّ غيرهم لا يدرك من الكتاب إلا ظاهره”(99)، ويقول كذلك في المس للمستحاضة: “مقتضى الأدلّة التي دلت على اشتراط المسّ بالطهارة والعمدة فيه قوله تعالى {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} بضميمة ما ورد في تفسيرها، لأنّها بنفسها لا تدلّ على ذلك، لأنّه من المحتمل بل الظاهر من {الْمُطَهَّرُونَ} هو مَن طهّرهم اللَّه سبحانه كما في قوله تعالى {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}، والمراد بالمس فهم الكتاب ودرك حقائقه دون المسّ الظاهري لكتابته، إلّا أنّ الرواية فسّرتها بالمس الظاهري”(100).
3. التطهير في الآية بمعنى الدفع أو الرفع: إطلاق المطهر بمعنى الدفع أمر لا بأس به وقد وقع نظيره في الآية المباركة {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} لأنّ التطهير فيها بمعنى المنع عن عروض ما يقابل الطهارة عليهم (عليهم السلام) لا الرفع، فإنّهم قد خلقوا طاهرين وأنّهم المطهرون من الابتداء(101) ويصرّح بهذه الحقيقة في موضع آخر بقوله: “قوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} معناه: ليس هو تطهيرهم بعد صيرورتهم غير طاهرين”(102)، وهذا المعنى أوضح وأنسب لاعتقاد الإمامية في أئمتهم (عليهم السلام) مما ذكره السيد الطباطبائي في ذيل تفسيره للآية الشريفة حيث يقول: “فمن المتعين حمل إذهاب الرجس في الآية على العصمة ويكون المراد بالتطهير في قوله: «ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» -قد أكد بالمصدر- إزالة أثر الرجس بإيراد ما يقابله بعد إذهاب أصله، ومن المعلوم أنّ ما يقابل الاعتقاد الباطل هو الاعتقاد الحق فتطهيرهم هو تجهيزهم بإدراك الحق في الاعتقاد والعمل، ويكون المراد بالإرادة أيضاً غير الإرادة التشريعية لما عرفت أنّ الإرادة التشريعية التي هي توجيه التكاليف إلى المكلف لا تلائم المقام أصلاً”(103).
* الوقوف مع قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}(104).
قد تناول السيد الخوئي هذه الآية من جوانب متعددة في مواضع مختلفة:
1. ما تدل عليه الآية الكريمة: ذكر السيد الخوئي ما تدل عليه الآية بقوله: “الآية المباركة دلتنا على أن الطهارة محبوبة للَّه سبحانه، ولا معنى لحبه إلّا أمره وبعثه، فيستفاد منها أن الطهارة مأمور بها شرعاً”(105) وقد طبّق هذه الكبرى على غسل الجنابة بقوله: “لا إشكال ولا كلام في محبوبية غسل الجنابة شرعاً لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}”(106)، وذكر أيضاً أنّها تدل على “استحباب البقاء على الوضوء في جميع الحالات والأزمنة كما يدل عليه قوله عزّ من قائل {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}”(107).
2. المراد من الطهارة في الآية: يقول السيد الخوئي: “المراد بالطهارة في الآية المباركة ما يعم النظافة العرفية، وذلك لما ورد فيما رواه جميل بن درّاج عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام) «في قول اللَّه (عزَّ وجلَّ) {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} مِن أنّ الناس كانوا يستنجون بالكرسف والأحجار ثم أُحدث الوضوء وهو خلق كريم، فأمر به رسول اللَّه وصنعه، فأنزل اللَّه في كتابه {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} «وفي بعض الأخبار أنّ الناس كانوا يستنجون بالأحجار، فأكل رجل من الأنصار طعاماً فلان بطنه فاستنجى بالماء، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى فيه {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} ويقال إن هذا الرجل كان البراء بن معرور الأنصاري» «فإن الاستنجاء بكل من الماء والأحجار وإن كان نظافة شرعية، إلّا أنّ الاستنجاء بالماء يزيد في التنظيف لأنّه يذهب العين والأثر، والأحجار لا تزيل إلّا العين فحسب.
فالآية المباركة دلّت على أنّ اللَّه يحب التطهير بالماء، وحيث إنّ ورود الآية في مورد لا يوجب اختصاصها بذلك المورد، فيتعدى عنه إلى مطلق النظافات العرفية والشرعية.
وعلى الجملة استفدنا من الآية المباركة أنّ النظافة بإطلاقها محبوبة للَّه وأنّها مأمور بها في الشريعة المقدّسة.
ويؤيده ما ورد من أنّ النظافة من الإيمان»(108).
خاتمة: ظهر جلياً بعد هذه الإطلال السريعة أنّ الموسوعات الفقهية لفقهاء الطائفة مليئة بالنكات التفسيرية والإبداعات التحقيقية في فهم وتفسير الآيات القرآنية، وهذا ما وجدناه في موسوعة الإمام الخوئي (رحمه الله)، فإنّها تضمنت تحقيقات رشيقة وأنيقة حول العديد من الآيات الشريفة، وبيان تفسيرها بأسلوب دقيق وجزل، وهو الملاحظ مؤخراً فيما تم جمعه من أنظار الشيخ الأعظم الأنصاري (رحمه الله) مما امتلأت موسوعته الفقهية منه من تحقيقات تفسيرية في العديد من الآيات المباركة، وقد طبع أخيراً تحت عنوان «الأنظار التفسيرية»، وهكذا ما صدر مؤخراً لمؤسسة نشر آثار الإمام الخميني (قدِّس سرُّه) من جمع آرائه في التفسير بلغت خمسة أجزاء، وكذا ما صدر عن مؤسسة الشهيد الصدر من جمع للأنظار التفسيرية للسيد الشهيد محمد الصدر (قدِّس سرُّه).
وقد تميّز الإمام الخوئي عن غيره بلحاظ ما يتمتع به من قدرات وخصائص ذاتية ومميزات علمية وما يمتلكه من آليات علمية نادرة جعلته يتعاملَ مع النصّ القرآني بِذهْنيّةٍ خاصةٍ ذات طابعٍ شمولي؛ وذلك لإحاطته بأكثر جوانب العلوم بل تضلّعه فيها، فأبدع نكاتاً كثيرة لم يسبقه إليها أحد، وقد صرّح بذلك أ.د. صاحب محمد حسين راضي نصار(109) حين كتب حول الخوئي تحت عنوان: «في علوم القرآن والتفسير» ما يلي: “وقد برع السيد الخوئي أكثر من غيره من معاصريه وبدء في كتابه «نفحات الإعجاز» والذي كان خليطا من علوم القرآن وعلم الكلام، لأنّ السبب في تأليفه كان رداً على كتاب «حسن الإيجاز في إبطال الإعجاز»… ورد الشبهات عنه بما معروف من أسلوب السيد الخوئي من قوة الحجة والبرهان… ثم انطلق ليشرح مقدمة لتفسير لم تسنح له الظروف في إكماله لانشغاله بزعامة الحوزة العلمية وتسلمه إمامة المرجعية”(110).
ونحن بحاجة لاستخراج كنوز الفقهاء التفسيرية ببذل جهود علمية لتكون في متناول الباحثين، ومن هذه المجلة الكريمة أدعو العلماء والباحثين إلى تسليط الضوء على هذا الفكر العلمي الرصين لإثراء الساحة العلمية به.
المصادر والهوامش
- (1) قبل بعض معاصريه كالعلامة الطباطبائي الذي بدأ في تفسيره الميزان عام 1374هـ.ق كما في مقدمة التفسير، ومن بعده السيد السبزواري صاحب تفسير مواهب الرحمن.
- (2) مصري العاملي، مصطفى، رسائل أربعين سنة: ص38، الرسالة (2) المؤرخة: 18 جمادى الثانية 1369.
- (3) الشيخ سلمان بن عبدالمحسن الخاقاني، وهو أحد كبار علماء خُرّمشَهْر.
- (4) مصري العاملي، مصطفى، رسائل أربعين سنة، الرسالة (3) المؤرخة 24 ذي القعدة 1369.
- (5) للأسف الشديد لم نعثر على هذا الكتاب، والذي لو صدر لكان نفعه كبيراً وفائدته عميمة جداً.
- (6) مصري العاملي، مصطفى، رسائل أربعين سنة، ص131، الرسالة (40) المؤرخة: 3 شوال المكرم 1377.
- (7) سماحة السيد منير الخباز في الموقع الإلكتروني الخاص بآثاره «شبكة المنير».
- (8) الطهراني، السيد محمد حسن، الروح المجرد: 115.
- (9) مجلة الاجتهاد والتجديد، العدد: 28-29 مقالة: مساهمة الإمام الخوئي في التفسير القرآني، أ. د. عبد العزيز ساشادين.
- (10) الخوئي، أبو القاسم، تفسير البيان 12.
- (11) يونس:59.
- (12) الإسراء:36.
- (13) الخوئي، أبو القاسم، تفسير البيان 397.
- (14) الخوئي، أبو القاسم، تفسير البيان 397.
- (15) الاجتهاد والتقليد بحث فقهي استدلالي مقارن من موقع الشيخ محمد العبيدان.
- (16) الآخوند الخراساني، محمد كاظم، ج2: 329.
- (17) البحراني، محمد صنقور، شؤون قرآنية ج1: 38.
- (18) انظر: دروس في علم الأصول، الحلقة الأولى.
- (19) الخوئي، السيد أبوالقاسم، محاضرات في أصول الفقه ج1: 4.
- (20) الخوئي، السيد أبوالقاسم، محاضرات في أصول الفقه ج1: ص2.
- (21) النساء: 82.
- (22) النساء: 78.
- (23) الأنفال: 2.
- (24) السيد أبو القاسم، الخوئي، البيان في نفسير القرآن: 62.
- (25) لاحظ: تفسير تسنيم (المعرب) ج1 ص214.
- (26) البيان ص397.
- (27) ن.م
- (28) البيان ص13.
- (29) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج1 ص11.
- (30) الدر المنثور ج2 ص8.
- (31) نهج البلاغة: الخطبة 133 المقطع8.
- (32) النساء: 82.
- (33) البقرة: 85.
- (34) مسائل وردود 1/ 144.
- (35) كان الإمام الخوئي، وآية اللَّه الطباطبائي مؤلِّف (الميزان في تفسير القرآن) زميلي دراسة في علوم القرآن عند آية اللَّه البلاغي في النجف الأشرف، وهو إمام المفسِّرين في عصره، وقد وصفه الإمام الخوئي بـ (بطل العلم المجاهد).
- (36) النساء:174، المائدة:15، الشورى:52.
- (37) الميزان في تفسير القرآن: ج1 ص6.
- (38) النحل:89.
- (39) النساء:82.
- (40) الميزان: ج3 ص84.
- (41) الميزان: ج1 ص87.
- (42) تفسير الميزان: ج3 ص77.
- (43) الطباطبائي، محمد حسين، شرح كفاية الأصول.
- (44) مسائل وردود 1/ 144.
- (45) البيان: 267.
- (46) البيان: ص13.
- (47) البيان: ص13.
- (48) الخوئي، السيد أبوالقاسم، تفسير البيان: 397.
- (49) الخوئي، السيد أبوالقاسم، تفسير البيان: 397.
- (50) الخوئي، السيد أبوالقاسم، تفسير البيان: ص13.
- (51) الخوئي، السيد أبوالقاسم، تفسير البيان: ص13.
- (52) الخوئي، السيد أبوالقاسم، تفسير البيان: ص397.
- (53) مسند أحمد: كتاب مسند المكثرين، الحديث:10681. وسنن الترمذي: كتاب المناقب، الحديث:3720.
- (54) البيان: 18.
- (55) الخوئي، السيد أبوالقاسم، تفسير البيان: ص399.
- (56) الخوئي، السيد أبوالقاسم، تفسير البيان: ص398.
- (57) الخوئي، أبوالقاسم، محاضرات في الأصولالفقه، ج4، ص:469.
- (58) محاضرات في الأصولالفقه ج4، ص469 تخصيص الكتاب بخبر الواحد….. ص469، عن الإحكام للآمدي2: 525، المحصول 1: 432، المستصفى 2: 114.
- (59) محاضرات في الأصولالفقه،ج4 ص470.
- (60) البقرة: 35.
- (61) النساء: 12.
- (62) الأحزاب: 28.
- (63) الأحزاب: 59.
- (64) الأحزاب: 37.
- (65) الأحزاب: 50.
- (66) في شرح العروة الوثقى، ج33، ص: 137.
- (67) النور: 32.
- (68) النساء: 3.
- (69) البقرة: 221.
- (70) الممتحنة: 10.
- (71) البقرة: 221.
- (72) النور: 3.
- (73) شرح العروة الوثقي، ج32، ص: 319.
- (74) التوبة 9: 60.
- (75) البقرة 2: 61.
- (76) الكهف 18: 79.
- (77) الموسوعة السيد الخوئي، ج24، ص: 3.
- (78) الاستبصار ج 4 ص 53 الفقية ج 3 ص 237 بتفاوت.
- (79) الموسوعة السيد الخوئي، ج21، ص:395.
- (80) الميزان في تفسير القرآن، السيد محمد حسين الطباطبائي ج1: 309.
- (81) فاطر35: 15.
- (82) النِّساء4: 6.
- (83) النِّساء4: 135.
- (84) الحج 22: 28.
- (85) الزخرف43: 31.
- (86) الوسائل 9: 210/ أبواب المستحقين للزكاة ب 1 ح 2.
- (87) الوسائل 9: 210 / أبواب المستحقين للزكاة ب1 ح 3.
- (88) الموسوعة السيد الخوئي، ج24 ص4.
- (89) الميزان في تفسير القرآن، السيد محمد حسين الطباطبائي ج1: 310.
- (90) الأحزاب : 33.
- (91) مصباح الفقاهة، السيد الخوئي، ج 1، ص213.
- (92) في شرح العروة الوثقي، ج3، ص: 2.
- (93) مصباح الفقاهة من المعاملات، ج1، ص: 130.
- (94) الأنعام:154.
- (95) التوبة: 152.
- (96) الأنعام: 152.
- (97) في شرح العروة الوثقى، ج3، ص: 293.
- (98) في شرح العروة الوثقى، ج4 ص474.
- (99) في شرح العروة الوثقى، ج6 ص305.
- (100) في شرح العروة الوثقى، ج8، ص:140.
- (101) في شرح العروة الوثقى، ج4، ص: 237.
- (102) الموسوعة السيد الخوئي ج2 عدم مطهرية المضاف من الخبث….. ص :24.
- (103) تفسير الميزان، ج 16 ص312-313
- (104) البقرة: 222.
- (105) في شرح العروة الوثقى، ج4 ص 469.
- (106) في شرح العروة الوثقى ج6 348 فصل في كيفية الغسل وأحكامه….. ص :348.
- (107) الموسوعة السيد الخوئي ج4 478 مسألة 1: إذا نذر أن يتوضأ لكل صلاة وضوءا رافعاً للحدث….. ص :478.
- (108) في شرح العروة الوثقى، ج4، ص: 470.
- (109) جامعة الكوفة / كلية الفقه.
- (110) مقالة بعنوان «الجهود العلمية للسيد أبو القاسم الخوئي»، الموقع الإلكتروني لمؤسسة الإمام الخوئي.