ثقافة

الزهد ثقافة وعلاج

طوبى لمن هم دائماً في صلاة:

عندما تتعبّدون وتقرؤون دعاءً بروحيّة عالية، وتُقيمون الصّلاة بخشوعٍ وحضور قلب، أو تُنفقون على مستحقّ، عندها ترون أيّ لذّةٍ حصلتم عليها، وأيّ حظوة وُفّقْتم لها. هذه اللّذة لا يمكن إدراكها بالطّعام، فمن ذاق حلاوة العبادة، حيث يُوفّق لها الإنسان المؤمن في حياته بين الحين والآخر وبنسَبٍ متفاوتة بين شخصٍ وآخر، حاضرٌ للتخلّي عن الدّنيا وما فيها، لتبقى له هذه اللّذّة التي يُدركها في لحظة التوجّه إلى الله، وعبادته، ومناجاته، أو البكاء من خشيته.

من الطّبيعي أنّ الماديّات تُخرجُ الإنسان من تلك الحالات التي تحصل أحياناً، أي حالات اللّذّة المعنويّة، فالذين ليسوا على معرفة بالله والأهداف المعنويّة، لا يتذوّقون طعم هذه اللذّة. وما أكثر النّاس الذين قضوا أعمارهم في ظلّ الأنظمة المادّيّة المشؤومة! ولم تحصل لهم تلك الحالة من التوجّه إلى الله واللذّة الرّوحيّة ولو للحظة واحدة، فهؤلاء لا يُدركون ما نقوله.

يريد الإسلام أن يرفع الناس إلى مستوىً، وأن ينير القلوب إلى حدٍّ، ويخرج السيئات من صدورنا على نحوٍ، بحيث نصل فيه إلى حالة اللّذّة المعنويّة في جميع لحظات حياتنا، وليس فقط في محراب العبادة، بل أن نشعر بها حتى في بيئة العمل وأثناء الدرس، في ميدان الحرب وأثناء التعلّم والتعليم، وفي ساحة الإعمار.

“طوبى لمن هم دائماً في صلاة”، ومعنى ذلك أنّهم مع الله أثناء التّجارة، ومع الله أثناء الأكل والشّرب. فهؤلاء يشعُّون بالنّور في بيئتهم المحيطة، بل في العالم كلّه. وإذا استطاعت الدّنيا تربية هذا النّوع من البشر، فسيُقتَلع منشأ الحروب والظّلم والتّمييز والرّجس. هذه هي الحياة الطيّبة.

معنى الحياة الطيبة:

معنى الحياة الطيّبة إذاً، ليس أن يقوم المرء بالصّلاة والعبادة، وأن لا يتوجّه أصلاً إلى المادّيات وأمور الحياة. الحياة الطيّبة تعني جمع الدّنيا والآخرة معاً. فالحياة الطيّبة تجمع المعنى والرّوح والمادّة معاً، والحياة الطيّبة تعني تلك الأمّة التي تسعى، تبني وترتقي بالصّناعة والتّجارة والزّراعة إلى أعلى المستويات، وتمتلك القدرات العلميّة والتقنيّة في مختلف المجالات، وفي جميع هذه الحالات يكون قلبها مع الله وتعرف الله أكثر يوماً بعد يوم.

هذا هو هدف النّظام الإسلاميّ، وهذا هو الهدف الذي سعى إليه الأنبياء عليهم السلام، وأعلنه مصلحو العالم، ودعت إليه الشخصيّات الإسلاميّة العظيمة خلال المئة والخمسين إلى المئتين سنة الأخيرة1.

الزهد، أعظم مسألة في نهج البلاغة:

في ذلك الزّمان،
 عندما تحدّث أمير المؤمنين عليه السلام عن الزُّهد، أشار إليه كعلاج لآفة المجتمع الإسلاميّ الأساسيّة. وقد قلتُ مراراً إنّنا اليوم أيضاً بحاجة لتلاوة آيات الزُّهد هذه، فأمير المؤمنين عليه السلام عندما يقول في ذلك الزمان: إيّاكم والانجذاب إلى ملذّات الدّنيا وحلاوتها، لم يكن المقصود الذين لا يَصِلُون إلى هذه الملّذات، وهم كثر، بل كانت أحاديثه لأولئك الذين قَوَّتهم الفتوحات الإسلاميّة، وآثرتهم السنون المتوالية لانتشار الإمبراطوريّة الإسلاميّة في العالم ومكّنتهم من الامتيازات، فهؤلاء مَن كان أمير المؤمنين عليه السلام يُحذّرهم.

مراتب الزهد، في الحلال والحرام:

اليوم، ما إن نقول كلمتين عن الزُّهد، أنّه عليكم الانتباه قليلاً، يقول بعضهم: مولانا إنّ أكثر النّاس لا يملكون ما تشيرون إليه، والجواب: إنّنا لا نقول لأولئك، إنّما نقول للمُتَمَكِّنين، للذين بَسَطت ملذّاتُ الدّنيا ذراعيها لهم، للّذين يقدرون أن يُوصِلوا أنفسهم عن طريق الحرام إلى حلاوة العيش ورَغَدِها. ومن المؤكد أيضاً، نقول ذلك في المرتبة الثانية، للّذين يستطيعون الوصول إلى تلك الملذّات عن طريق الحلال.

من المؤكد، أنّ اجتنابَ المحرّمات هو أَوجَب الزُّهد وأعلاه، الورع، وحفظ الباطن وطهارته، أمّا الزُّهد في الملذَّات الحلال فهو مرتبةٌ ساميةٌ. من الطبيعي أن يكون هذا الخطاب للشّريحة الأقلّ. فعَصرُنا الحاضر هو كتلك الأيام، مع الاختلاف في ظروف الزّمان والخصوصيّات التّاريخيّة المرتبطة بكلّ مرحلة، فيجب على المُتَمَكِّنين ومبسوطي اليد، والذين بإمكانهم تحصيل النِّعم والملذَّات والرَّفاهية والدَّعَة وجمع الأموال والثّروات، أن يتذكّروا خطابات الزُّهد هذه لأمير المؤمنين عليه السلام.

من الطبيعيّ أنّ هذا الأمر بالنسبة للمسؤولين هو أشدّ وأثقل، أمّا الذين ليست لديهم مسؤوليّات حكوميّة، فالخطاب نفسه موجه إليهم، إنّما بدرجةٍ أقلّ.

تحويل الزهد إلى ثقافة:

إذا استطاع مجتمعنا الإسلاميّ الذي يواجه كلّ هذه المخاطر وكل هؤلاء الأعداء، الالتفات إلى هذه المسائل بدقّة، وتحويلها إلى ثقافة، ليطّلع عليها الجميع، بحيث يتحدّثون عنها ويطلبونها، عند ذلك فإنّ إعمال هكذا عدل وزُهد لن يكون فيه أيّ إضعافٍ للنظام الإسلاميّ، لا بل يبعث فيه القوة أكثر، فهو يُقوّي النظام الإسلاميّ ويُحصّنه من الأضرار.

إنّ الأشخاص الذين لا ينخدعون بالملذّات والمطامع والشّهوات الدّنيويّة، ولا يغفلون عن أنفسهم، يستطيعون الوقوف مقابل الأعداء والعداوات، ويمكنهم إنقاذ المجتمع والنّظام في لحظة الخطر، في مقابل كلّ هذه العداوات مع النّظام الإسلاميّ.

والمسؤوليّة كبيرة على الجميع، وبالأخصّ على الشّباب والمسؤولين، وبالأخصّ العلماء والذين ينظر النّاس إليهم كقدوة.

فأمير المؤمنين عليه السلام أضاء هذين المشعلين لينير بهما التّاريخ كلّه، وما زال يُضيئه، فإن انحرف بعض النّاس فهم الخاسرون، أمّا اسم عليّ عليه السلام وذِكره ودروسه، فإنّها لا تُنسى في التّاريخ، وستبقى دائماً2.

الزُّهد، باب الارتقاء المعنوي:

من المتيقّن به أنّ أحد عوامل ارتقاء الإسلام هو الثّقة بالله وبالأحكام الإلهيّة، ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾3. لقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون في صدر الإسلام معتقدين بالإسلام في أعماق قلوبهم، آمنوا بالإسلام إيماناً عميقاً، واعتقدوا بكفايته للنجاة، وآمنوا بالشعارات والحقائق الإسلاميّة، وهذا الإيمان هو عامل مهمّ جدّاً.

ومن العوامل الأخرى، والذي كان بالحدّ الأدنى على رأس هذه الحركة، هو تَنَزُّه الإنسان عمّا هو متعلّقٌ بشخصه وبمنافعه المادّيّة التي تعود على نفسه، وهذا عاملٌ جدُّ مهمّ.

وكل ما لدينا في الرّوايات، في نهج البلاغة وفي الأحاديث الشّريفة للنّبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليه السلام والعظماء، من وصايا حول الإعراض عن الدّنيا وعدم التعلّق بزخارفها والتّأكيد على ذلك، سببه التّأثير الكبير لهذا العامل.

من المؤكّد أنّ أعداء الإسلام ومنحرفي الفهم من المسلمين، اعتقدوا أو توهّموا أنّ المراد من الزُّهد في الإسلام هو عدم السعي وراء مظاهر عالم الوجود والحياة، بينما القضيّة ليست كذلك، إنّما المقصود هو الدّنيا المذمومة. فالمذموم أن نضع نصب أعيننا – أنا وأنتم – منافعنا الشّخصيّة هدفاً لحركتنا وأن نسعى لها. هذا هو المقصود، وهذا هو الشّيء المُدمّر والمُخرِّب وأساس التّعاسة.

وأولياء الله الذين استطاعوا حمل هذه الرّاية، وطَوَوا هذا الطّريق الصّعب بلا تعبٍ ولا ملل، كانوا أشخاصاً عبروا هذا الامتحان.

لذلك نرى في بداية “دعاء النُّدبَة” العالي المضامين “الحمدُ لله على ما منَّ به على أوليائه”. وأحد أجمل تلك المفاهيم وأكثرها عُمقاً، يندرج في الجمل الأولى للدّعاء، حيث يقول: “بعد أن شَرَطت عليهم الزُّهد في درجات هذه الدّنيا الدّنيّة وزُخرُفِها وزِبرِجِها”، أَوصَلْتَهُم إلى أسمى المراتب ومدارج التّكامل، وتلك نِعَمٌ “لا زوال لها ولا اضمحلال”، لكنّك وَضعتَ لهم شرطاً، فمقام الرّسول هو في أعلى مرتبة سموّ الوجود الإنساني، وهذا الأمر لا يُمكن دون العون الإلهي، ودون التّهيئة والإعداد من الله تعالى. هذا المقام هو مقابل شرط معيّن من قبل الله تعالى: “الزُّهدَ في درجات هذه الدّنيا الدَّنِيَّة وزُخرُفِها وزِبرِجِها، فَشَرَطُوا لكَ ذلك”، فنتيجة قبول هذا الشّرط كان وجودُ أشخاص كالرّسول صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام، أشخاص يمتلكون من الإرادة والتّصميم الرّاسخ ما يُمَكِّنُهم من تحمّل مسؤولية، وإيجاد حركة لا تنتهي بانتهاء أعمارهم.

هذه الحركة مستمرّة، وبإمكانكم أن تلاحظوا أنّه بعد انقضاء أربعة عشر قرناً لا يزال الإسلام مُتألِّقاً، وذلك كلّه يتمحور حول نفس هذا الوجود المبارك وجهاده. وهو ما أعطى لهذه الحركة هذه الاستمراريّة، وقد ساعد أيضاً على ما قام به المسلمون والمؤمنون والعظماء على امتداد هذه المسيرة4.

* مفتاح الخير، شذرات من عبق الإمام الخامنئي في الزهد والنزعة الدنيوية.


المصادر والمراجع

1- حديث الإمام الخامنئي في حشد من سكّان مدينة مشهد، وزوّار الإمام الرّضا عليه السلام، 18/04/1991.
2- كلامه في لقاء مع عامّة أفراد الشّعب، 25/11/1996.
3- البقرة، 285.
4- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاءٍ مع مسؤولي الحكومة، 06/11/1999.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى