ثقافة

الديانات وتعدد المذاهب

بنظرة عابرة يلقيها الباحث في تاريخ الأديان والمبادئ يجد أن ظاهرة تعدد المذاهب والفرق تشكل سمة وحالة لازمة ثابتة في جميع ا لأديان.

ففي بداية كل دين وأثناء حياة مؤسسه يكون مدرسة واحدة وتيارا واحدا، أما بعد فترة من الزمان وبعد ارتحال المؤسس من الدنيا فعادة ما يحصل الاختلاف والانشقاق بين اتباع ذلك الدين وتتعدد المذاهب والفرق ضمن الدين الواحد، وفي مرحلة لاحقة يحدث الانشقاق والتعدد داخل كل مذهب من المذاهب المتفرعة عن الدين الرئيسي.

فرق اليهودية:
ففي اليهودية مثلا هناك فرق عديدة تختلف فيما بينها على فهم الديانة وطقوسها وتعاليمها منها فرقة “الفريسيين ” أي المنعزلون والمنشقون كما يطلق عليهم بينما هم يسمون أنفسهم “الأحبار” أو “الاخوة في الله ” أو ” الربانيون “.

ويرى هؤلاء “الفريسيون” أن التوراة بأسفارها الخمسة خلقت منذ الأزل، وكانت مدونة على ألواح مقدسة ثم أوحي بها إلى نبي الله موسى.. ويرون أن التوراة ليست هي كل الكتب المقدسة التي يعتمد عليها وإنما هناك بجانبها روايات شفوية ومجموعة من القواعد والوصايا والشروح والتفاسير تعتبر توراة شفوية يتناقلها الحاخامات جيلا بعد جيل وهي التي يطلق عليها “التلمود”.

وهناك فرقة ” الصدوقيون” المنتسبون إلى “صادوق” الكاهن الأعظم في عهد سليمان، أو إلى كاهن آخر بهذا الاسم وجد في القرن الثالث قبل الميلاد.. وينقل عن هؤلاء إنكارهم للبعث والحياة الأخرى والجنة والنار والتعاليم الشفوية ” التلمود”.

ومن فرق اليهودية فرقة “القراؤون” وهم لا يعترفون إلا بالعهد القديم كتابا مقدسا وينكرون “التلمود” ويقولون بالاجتهاد الذي يسمح لهم برفض أو تغيير بعض تعاليم وآراء السلف الماضي.

وأيضا هناك فرقة “الكتبة” و”المتعصبون” وغيرها من الفرق العديدة في الديانة اليهودية.

طوائف المسيحية:
والديانة المسيحية هي الأخرى تعددت فيها المذاهب والطوائف قديما وحديثا. وكان منشأ الخلاف والتعدد هو تحديد طبيعة السيد المسيح عليه السلام حيث يرى مذهب “النسطوريين ” المنسوب إلى ” نسطور ” بطريرك القسطنطينية سنة 431: أن مريم لم تلد إلها بل ولدت عيسى إنسانا غمره اللاهوت فيما بعد فاتحدت فيه طبيعتان الإنسانية واللاهوتية بينما يعتقد المذهب اليعقوبي نسبة إلى داعيته يعقوب البرادعي والذي أخذت به الكنائس الشرقية أن طبيعة المسيح واحدة منذ ولادته فللسيد المسيح- في نظرهم اقنوماً إلهياً واحدا اتحد بالطبيعة الإنسانية اتحادا تاما بلا اختلاط ولا امتزاج ولا استحالة.

وعلى أساس هذين القولين وبالتطوير والتغيير فيهما نشأت طوائف أخرى كالملكانية والمارونية.

ولم يقتصر الخلاف بين الطوائف المسيحية على تحديد طبيعة المسيح بل تطور وتبلور في مختلف المجالات العقيدية والعبادية والسلوكية وأبرز الطوائف المسيحية حاليا هي:
– الكاثوليك: وكنيستهم تسمى الكنيسة الكاثوليكية أو الغربية أو اللاتينية أو البطرسية أو الرسولية نسبة لمؤسسها الأول “بطرس ” كبحر الحواريين ورئيسهم والبابوات في رومـا خلفاؤه.
– الأرثوذكس: وتسمى كنيستهم كنيسة الروم الأرثوذكسية أو الشرقية أو اليونانية فأكثر أتباعها من الروم الشرقيين وروسيا والبلقان واليونان وكان مقرها الأصلي القسطنطينية وقد انفصلت عن الكنيسة الكاثوليكية أيام “ميخائيل كارو لاريوس ” بطريرك القسطنطينية سنة 1054م وهي الآن مؤلفة من عدة كنائس مستقلة.
– البروتستانت: وتسمى كنيستهم الكنيسة الإنجيلية، ويرون انهم يتبعون الإنجيل دون غيره ويعطون الحق لكل أحد في فهم الإنجيل فليس ذلك وقفا على رجال الكنيسة فقط. وتنتشر البروتستانية في ألمانيا وإنجلترا والدانمرك وهولندا وسويسرا والنرويج وأمريكا الشمالية.

ولإقرار مذهب البروتستانت حرية الفكر والاجتهاد فقد تعددت شعبه وفرقه ويختلف بعض هذه الطوائف عن البعض الآخر إلى حد انهم لا يكادون يبدون فرعا لمذهب واحد واستمر انقسام الطوائف البروتستانية حتى اليوم إذ أصبح هناك 200 طائفة مختلفة ولا تزال طوائف جديدة في سبيل الظهور. وفي أوائل عام 1960 م بلغ عدد الكاثوليك في العالم 353 مليونا والأرثوذكس 137 مليونا والبروتستانت 170 مليونا.

اتجاهات البوذية:
رغم أن البوذية المنسوبة إلى ” بوذا ” الذي نشأ في الهند خلال القرن الخاص قبل الميل?د أقرب إلى الحالة الفلسفية الأخلاقية منها إلى الدين العقائدي المتكامل، إلا أنها أيضا تعددت فيها الاتجاهات والفرق.

وقد قسمها العلماء حسب الطابع العام إلى البوذية القديمة والبوذية الجديدة. فالبوذية القديمة صبغتها أخلاقية، وميزتها سذاجة المنطق وإثارة العاطفة، وطابعها الحض على الخضوع لقوانين النظام. أما البوذية الجديدة فهي عبارة عن تعاليم بوذا مختلطة بآراء دقيقة في الكون وأفكار مجردة عن الحياة والنجاة، مؤسسة على نظريات فلسفية، وقياسات عقلية، قد سمحت بها قرائح المتأخرين..

ومن أبرز الفرق الفلسفية البوذية:
– فرقة تقول بوحدانية الله، وانه أوجد أولا عددا محدودا من الأرواح، ثم ترك الإنشاء والتعمير مكتفيا بما وضعه في العالم من قوانين وقوى كالبذور تسير سيرها الطبيعي وهذه الأرواح هي التي تخلق الخير والشر.
– وفرقة ترى أنه أودع هذه الأرواح التي أرسلها للعالم قوى تستطيع منها أن تعرف الخير من الشر، ومن أجل ذلك لا يرسل الله رسلاً اكتفاء بذلك.
– وفرقة ترى أن الله يفرغ الكمالات الإنسانية في كل زمن على إنسان يتجرد لعبادته، ويبتعد عن إرضاء الشهوات الحيوانية، وهذا الإنسان المختار يحل محل الإله في إظهار الرضا عن بعض الناس أو الغضب عليهم، تبعا لما يأتونه من الأعمال.
– وتبالغ فرقة أخرى في تصوير المعنى السابق فتقول أن الله يحل في أية صورة يختارها من صور أفراد الإنسان حلول تطهير وتكميل لا حلول استقرار (كاللاما في بلاد التبت).
– وتتكلم كل الفرق عن التناسخ وارتباطه بالكارما، ولكن بعض الفرق ترى تناسخ النوع الإنساني مقصورا عليه، وتناسخ الحيوان مقصورا عليه، فلا تنتقل روح من إنسان إلى حيوان ولا العكس، وتزيد فرقة أخرى أن روح العالم لا تنتقل إلى صانع وهكذا…

سائر الديانات والاتجاهات:
ولو تتبعنا و استقرأنا سائر الديانات والاتجاهات لوجدناها تشترك جميعا في ظاهرة تعدد المذاهب والطوائف فالديانة السيخية وهي واحدة من أحدث الديانات في العالم حيث ظهرت إلى الوجود في القرن الخامس عشر الميلادي في الهند، على يد ” ناناك ” الذي سعى إلى استحداث ديانة جديدة زعم أنها تصل بين الإسلام والهنديوسية ويصل عدد اتباع هذه الديانة إلى حوالي 13 مليون يتركز حوالي 9 ملايين منهم في (البنجاب) ويتوزع الباقون في سائر أنحاء الهند.
هذه الديانة على محدوديتها وحداثتها تنقسم الآن إلى خمس طوائف رئيسية.

والاشتراكية الشيوعية هي الأخرى لم تعد مدرسة واحدة بل تعددت فيها الاتجاهات ففي حياة “كارل ماركس” (1818- 1883 م) انشقت الاشتراكية على نفسها سنة 1873 م إلى فريق ” باكونين ” وفريق “كارل ماركس ” ثم وقع انقسام آخر في الحركة الاشتراكية في فرنسا وفي مؤتمر رانس سنة 1881 م وبعد ذلك بعام في مؤتمر سانت ايتين بين ” الامكاينين ” والماركسيين فالأولون كانوا يقولون بإجراء إصلاحيات تدريجية في سبيل تحقيق الاشتراكية في النهاية وهاجموا برنامج الحد الأدنى الذي وضعه ماركس.

وقسم ريمون آرون R. ARON) (الماركسية إلى أسر مقدسة متباينة: فهناك ماركسية كنتية (نسبة إلى فلسفة كانت الأخلاقية) حين تضع الاشتراكية هدفا لها إيجاد ضمير أخلاقي تجاه الواقع الرأسمالي وهناك ماركسية هيجلية تستند خصوصا إلى ” ظاهريات العقل ” لهيجل. وهناك ماركسية ذات نزعة علمية مستمدة من كتاب “ضد دورنح “.

ومعروف افتراق الشيوعية في الصين على يد ماوتسي تونغ عن سياسة شيوعية الاتحاد السوفيتي كما أن الأحزاب الاشتراكية في أوروبا الغربية تأخذ إلى حد ما منحى. مستقلا فكريا وسياسيا .


المصادر والمراجع

التعددية والحرية / العلامة محمد مهدي شمس الدين –الفصل الثالث.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى