فن الإلقاء
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وأخص المرسلين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين المعصومين المنتجبين واللعن الدائم على أعداء الدين من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين.
إن الموضوع يدور حول محور من المحاور المهمة التي تشغل بال المبلغ وهو فن الإلقاء وكيفية استخدام بعض الطرق الفاعلة في عملية التبليغ.
فالمبلغ دائما يحتاج إلى آليات من أجل إيصال المعلومة وهذه الآليات تتغير بتغير الزمان والمكان.
إن كل إنسان يمتلك معلومة ولكن كيفية إيصال تلك المعلومة إلى طرف آخر تحتاج إلى آليات وفرضيات متناسبة مع الجو بشكل عام، ومع المستمع بشكل خاص.
سنبدأ بهذه الآية المباركة { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ}(1)، وذلك من باب تسليط الضوء على بُعد من أبعادها.
في هذه الآية الكريمة إشارة إلى أهمية الفصاحة.
إذ أن نبي الله موسى عليه وعلى نبينا واله أزكى الصلاة والتسليم لا يستطيع إيصال المعلومة كما باستطاعة هارون.
فهارون بما كان يمتلكه من مهارة في البلاغة والسبك اللغوي قادر على الإقناع وتقديم الحجة ببلاغة أكثر من موسى.
من هذا المنطلق دعت الحاجة نبي الله موسى إلى أن يطلب من الله جل وعلا إن يسنده بأخيه هارون حتى يتمكن من إلقاء الحجة على فرعون بفصاحة وبلاغة.
وهنا سنشير إلى بعض النقاط والآليات المهمة في فن الإلقاء منها أهمية الخطاب في التبليغ.
إذ لابد أن ينتبه الإنسان وخصوصا طالب العلم إلى المادة التي يطرحها إذ يجب أن تكون متينة وقوية حتى يقنع الطرف الآخر.
كذلك يجب أن يكون هناك إخلاص في النية فجميعنا نعرف أن ما يخرج من القلب يقع في القلب. بمعنى إذا تكلم الإنسان من قلبه فالطرف الآخر يتقبل الكلام ويكون له بالغ الأثر في نفسه.
أما إذا لم يكن مقتنعا أساسا بالكلام الذي يخاطب به الأفراد فلن يكون ذا أثر على المستمع فعلى سبيل المثال إذا كان هناك شخص يمتلك آليات في فن الإلقاء وأراد إقناع الطرف الآخر بها لن تؤثر إذا كان هو شخصيا لم يكن مقتنعا بها.
وعلى هذا يجب على الإنسان أن يتمتع بأسلوب قوي وجدير.
هذا من جانب أما الجانب الآخر وهو إشغال الذهن بالهم التبليغي.
بمعنى أنه لو كان هناك خطيب ما يذهب إلى بلد للترزق من الخطابة لا نقول أنه لا يؤثر بتاتا على المستمع.
ولكن مستوى التأثير عندما يكون الشخص يمتلك الهم يكون الوقع مختلف عند الطرف الآخر.
ودعني أنتقل بك الآن إلى معنى الإرساء قبل الدخول إلى النقطة الثانية.
الارساء في اللغة هو الرسوخ ومرسى السفينة أي مكان توقفها.
فالمعلومات هكذا تحط في الذهن.
فالإنسان يرسي في ذهنه معلومات صحيحة وفي بعض الأوقات معلومات خاطئة.
بمعنى آخر نستطيع أن نقول أن الإنسان يلقن نفسه تارة تلقينا إيجابيا وتارة أخرى تلقينا سلبيا.
وأبسط مثال على ذلك هو أن الطفل حينما يلقنه الوالدين على سبيل المثال بأنه “غبي”
وهذه الكلمة تتردد يوميا على مسامعه فأن حصيلتها في الشهر هو ثلاثين مرة.
ولو أن هذا الطفل لقن هذه الكلمة ثلاث مرات في اليوم فإن المحصلة في آخر الشهر هي تسعين.
وفي نهاية السنة ستبلغ 1095 كلمة سلبية تربعت في ذهنه.
في نهاية السنة هل سيكون هذا الطفل فاعلا في المجتمع؟ وهل سيؤدي وظيفته بأكمل وجه؟ قطعا لا.
وذلك بسبب تلقنه لتلك الكلمة السلبية فإنه ستتكون لديه في نهاية العام قناعة شخصية تقول له إنك غير فاعل في المجتمع وإنك لا تستطيع تحقيق أي شيء في هذه الحياة.
وستؤدي إلى حدوث ردة فعل بالنسبة إليه.
وبالإمكان إيصال المعلومة بأسلوب آخر وهو عن طريق التلقين الإيجابي.
فلو عكسنا القضية على سبيل المثال ولقنّا الطفل يوميا بأنه ذكي فإنك تقنعه بأنه نابغة وبهذه الكيفية فأنك في نهاية العام هذبت شخصيته تهذيبا إيجابيا وخلقت منه شخصا فاعلا في المجتمع لأن تلقينه كان إيجابيا من الأساس.
ولا ننكر الحاجة إلى التأديب أحيانا وهو من مستلزمات التربية ولكن يجب ألا يكون عن طريق إرساءات سلبية في الذهن.
وإذا انتقلنا إلى النقطة الأخرى وهي القول بأن هناك مستويات منطقية يحتاجها المبلغ من أجل تحقيق أهدافه.
فعلى سبيل المثال عندما يريد ان يلقي خطابا معينا، يصعد على المنبر أو تكون عنده كلمة بوجود عدد كبير من الجمهور عادة ما تكون هناك رهبة أو خوف من الإخفاق لديه.
وللسيطرة على هذه المخاوف وضع علماء النفس آليات تمكنه من تلقين نفسه إيجابيا.
فلا يقول لنفسه إنني لا أستطيع أو سأنسى كل ما في ذهني، أو سأتلعثم وإنني غير قادر على مواجهة الجمهور.
من أجل ذلك أعدت أسئلة من قبل هؤلاء كأساسيات يستطيع أن يوجهها الإنسان إلى نفسه ومن هذه الأسئلة: بمعية من ؟ إذا كان ممثلا مسرحيا وارتقى خشبة المسرح يلقن نفسه إيجابيا بأنني آت من قبل مخرج محترم أو عالي المستوى.
مثال آخر إذا كنت مبلغ وارتقيت المنبر مثلا وسألت نفسك هذا السؤال فيجب عليك أن تلقن نفسك بأنك موظف من موظفي مؤسسة الإمام الحجة المنتظر(عج) فهذا هو التلقين الإيجابي.
شخص آخر يجيب عن هذا السؤال بأنه لا يعلم بمعية من أتى.
فهذا هو التلقين السلبي.
سؤال آخر من أنا؟ ننظر إليها من المنظور النفسي وليس من المنظور الأخلاقي فنستطيع الإجابة بأنه جندي من جنود الحجة ويسعى لإيصال المعلومة من هذا الباب وهذا يعتبر تلقينا إيجابيا.
أما إذا كانت إجابة سؤال من أنا بلاشيء فهذا هو التلقين السلبي.
و بهذا لا يستطيع إيصال المعلومة إلى الآخرين لأنه في قرارة نفسه لا يمثل شيئا بالنسبة لهم.
لماذا أفعل؟ إذا كانت الإجابة أطبق التكليف فهذا هو التلقين الإيجابي للنفس أما قول لا اعلم للإجابة على هذا السؤال فهو التلقين السلبي.
كيف أفعل؟ وهو سؤال مهم للمبلغين إذ نلاحظ أنه يرتبك في بعض الأوقات إذ لا يعرف ماذا يقول، ما هي الكلمة المناسبة أو كيفية ترتيب الموضوع وهذه تحدث وفقاً لمقتضيات حاجة المبلغ.
ماذا أفعل؟ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مثلا هو تلقين إيجابي أما إذا كانت الإجابة لا أعرف فهي تلقين سلبي.
أين ؟ ومتى؟ وهو سؤال مهم كذلك يشغل فكر المبلغين.
إذ يجب أن يعرف أين تُلقَى الكلمة وأن يعرف متى يلقيها.
إذ أنه من المستحيل الذهاب إلى المدرسة المسيحية ويلقي عليهم درس حوزوي مثلا.
فهذا تباين وعليه يجب اختيار الكلمة المناسبة والملائمة للمكان والزمان.
نقل لنا أحد الأساتذة الفضلاء قصة ما مضمونها أن السيد القائد الخامنئي يسأل الإمام الراحل رضوان الله عليه منذ متى وأنت تفكر في إقامة دولة إسلامية؟ تبسم رضوان الله عليه ثم سكت وقال: آليت على نفسي أن لا أعمل إلا بالتكليف والوظيفة الشرعية فكانت تارةً تقتضي مني إلقاء بيانٍ وتارةً تقتضي مني أن أتكلم ضد الشاه فكنت أتكلم حتى أصبحت الجمهورية الإسلامية.
فالوظيفة الشرعية هي التي حددت لروح الله الخميني (قدس سره) مكان الإلقاء ومتى يلقي وكيفية الإلقاء أيضا.
ومن أجل السيطرة على المخاوف أوجد علماء النفس بعض الطرق للتغلب عليها.
إذ ينبغي على المتحدث قبل الشروع في كلمته أن يغمض عينيه ويتنفس بعمق ويقوم بعمليتي الشهيق والزفير وذلك لهدف التخفيف من حدة ضربات دقات القلب.
كما باستطاعته أن يستحضر ذكرى مفرحة أو مبهجة أثناء ذلك حتى يتمكن من إشغال الذهن والوعي والعكس صحيح إذا أراد أن يهيج أحزان الحضور.
فبإشغال الوعي يغض النظر عن الأشياء والحسابات المنطقية التي يرتبها الفرد من أجل برمجة سلوكه ويشغل ذهنه عن هذه المسائل ويتوجه بالتفكير إلى هذا الشيء المفرح أو المبكي.
فيتبرمج السلوك برمجة إيجابية عن طريق إلهائه في أمر أخر وحين البدء يكون قد سيطر على الموقف الأول ألا وهو مسألة الخوف في كيفية الشروع.
أما المرحلة الثانية وهي الخوف أثناء الإلقاء.
فمن المفترض أن يحاول المتكلم أن لا ينظر مباشرة في عين الجمهور بل أن يوزع النظرات على الجمهور ويركز على الجبهة وكأنه بذلك ينظر إلى أعينهم. فهنا يسيطر على الخوف الثاني وذلك لأن العين لها أثر كبير في النفس.
ففي بعض الأوقات ترى بأن شخص ما موجود في داخل المجلس يؤثر على اتزان المتحدث بسبب نظرة منه إليه.
وفي هذا يقول الشاعر: إن العيون لتبدي في نواظرها
ما في القلوب من البغضاء والاحن ويقول آخر: فالعين تنطق والأفواه صامتة حتى ترى من صميم القلب تبيانا وفي ذلك يقول المأمون عليه لعائن الله : أيها الناس، لا تضمروا لنا بغضا، فإنه والله من يضمر لنا بغضا ندركه في فلتات كلامه، وصفحات وجهه، ولمحات عينه.
أحد علماء النفس ويدعى ألبرت مهارابيان من جامعة هارفارد الأمريكية وجد أن الإنسان يمتلك 93% من عمليات الاتصال الغير ملفوظة.
إذ رأى أن عملية الاتصال مع الأفراد تتشكل عن طريق هذه الأوجه الثلاثة:
1- بصري (تعبيرات الجسم ) وهي تشكل 55% في عملية الاتصال مع الطرف الآخر.
ومن الملاحظ تركيز الأساتذة في الحوزة العلمية على مسألة حضور الدروس من أجل أن ترسخ المعلومة في الذهن فلابد أن توجد روابط للمعلومة وهي عادة ما تكون مرتبطة بلغة الجسد.
2- صوتي أي مراعاة النبرة الصوتية وهي تشكل 38% في عملية الاتصال.
إذ أنه في بعض الأوقات قد يرتاح الإنسان إلى سماع صوت شخص ما حتى لو كان ما يقوله هذا الشخص ليس له أي معنى.
والعكس صحيح حين نقول أنه أحيانا لا يستطيع الإنسان أن يستمع إلى شخص ولو لعدة دقائق حتى وان كان على مستوى عال من العلم والثقافة وذلك نتيجة تقزز المستمع من النبرة الصوتية.
يجب كذلك الانتباه إلى متى يجب أن ترفع نبرة الصوت ومتى تخفض وهي تؤثر بشكل كبير على السامع ويكون لها وقع خاص في نفسه ولكن المهم معرفة متى يكون من المناسب القيام بذلك وفي أي كلمة بالذات وبالاستطاعة اتخاذ هذه الخطوة حين الرغبة في شد انتباه شخص ما في الجلسة أو تبيان أهمية كلمة ما عند الجمهور.
3- لفظي وهي الكلمات والمعلومات التي تريد توصيلها للطرف الآخر وهي تشكل 7% في عملية الاتصال فقط.
وأقرب مثال إلى ذلك أنه قد ألقيت على مسامعي في إحدى الدورات دورة لمدة نصف ساعة تقريبا وأخبرنا المُلقي من البداية أن عنوان الدورة هي لاشيء وضمن لنا أننا سنخرج من الدورة بلا شيء ولكننا في نفس الوقت سنبهر بما يقدمه لنا.
وفعلا كان كل ما قاله الملقي عن هذه الدورة قد تحقق وقد كانت من أفضل الدورات على الرغم من أنها لا تحتوي على أية معلومات.
وهذا إثبات على أن الإنسان بإمكانه أن يتكلم لمدة ساعات ويسمعه الناس وينصتون له ويشكرونه على كلماته على الرغم من أنها لا تحتوى علي أي معنى.
وعلى اثر ذلك لابد من وجود هذه الآليات عند المبلغ وكما يجب معرفة طرق اختيار الألفاظ حتى يكون لها الوقع الكبير في النفوس.
كما لصياغة المادة بالغ الأثر لتحقيق ذلك.
ومن أجل التأثير كذلك في نفوس المستمعين ينصح علماء النفس بابتداء الموضوع بقصة وختمه بقصة أخرى. أو بالإمكان أن يبدأ بجزء من قصة ما ويؤجل إكمالها في نهاية الموضوع وهذا ما يدعى (SANDWICH WA)(2). يجب كذلك ملاحظة فهم المخاطب بمعنى من هو هذا المخاطب؟.
وعليه يجب أن تكون الكلمات ملائمة للطرف الآخر حتى يستقبل المعلومات استقبالا إيجابيا كما يجب استخدام المصطلحات المحببة له من أجل إيقاع التأثير.
على سبيل المثال حين التحدث مع الأطفال يجب أن نتكلم معهم باستخدام كلمات أو مصطلحات ملائمة لسن الطفل وفهمه.
كذلك بالنسبة للمهندسين أو الأطباء وغيرهم بحيث يكون الخطاب بما يناسب تخصصهم ومصطلحاتهم.
وعليه وجد النظام التمثيلي الذي يقسم الناس إلى ثلاثة أنماط لاستقبال المعلومة وهم:
1- سمعي بحيث يكون التأثير عليه أكثر عن طريق المسموعات والصوتيات.
2- بصري وهنا يكون التأثير عليه بشيء يراه بعينيه ومرئيا لديه.
3- حسي ويكون هذا الشخص يتأثر بما هو ملموس ومحسوس بحيث يستطيع أن يلمسه بيديه مثلا. و بذلك على المبلغ أو المتكلم أن يكثر من الأمثلة في خطابه لضمان إيصال المعلومة لجميع الأنماط بحيث يدرج مثالا حسيا، وسمعيا وآخر بصريا من أجل أن يتأكد أن المعلومة مفهومة لدى الجميع وهذا ما سيكون له بالغ الأثر في هيمنته ونجاح بيانه.
المصادر والهوامش
- (1) سورة القصص: 34.
- (2) وهي تعني بأسلوب الشطيرة وذلك من أجل أن تكون المادة في الوسط وربطها بالمعلومات في البداية والمعلومات في النهاية من أجل أن ترسخ في الذهن وهذا عن طريق الروابط القصصية الموجودة في الموضوع.