الحكمة العاطفية في مدرسة آل البيت (ع)
علاقة المعصومين بالبكاء كان الأنبياء و الأئمة(ع) الذين هم المثل الأعلى للإنسان الفاضل، لا يكفكفون دموعهم إذا انبجست أبدا.
فالنبي آدم(ع) بكى حين خروجه من الجنة، حتى صنع الدمع مسيلين في خديه.
والنبي يعقوب(ع) بكى على فراق ابنه يوسف(ع) حتى ابيضت عيناه.
و النبي يوسف(ع) بكى على أبيه يعقوب في السجن حتى ضاق به السجناء معه، فقالوا له: إما أن تبكي الليل وتسكت النهار وإما أن تبكي النهار وتسكت الليل.
وإن النبي الأعظم محمد بن عبد الله(ص) بكى على ولده إبراهيم، وقد توفي عن ثمانية عشر شهرا، حتى كانت تنتفض منكباه فسأله الناس على سبب بكائه وهو يأمرهم بالصبر على النوازل، فأجابهم (ص): (القلب يحترق والدمع يجري ولا نقول ما يغضب الرب).
فقد شرّع الرسول الأكرم (ص) مسألة البكاء من خلال سيرته الشريفة ولو تصفحنا التاريخ لوجدنا أنه (ص) قد أكثر من البكاء أيضا على أبويه وعمه الحمزة وزوجه خديجة وأبو طالب بل وتعدى ذلك إلى البكاء على أحفاده قبل رحيلهم عليهم آلاف التحية والسلام.
ومن خلال ذلك نجد أن أول مشروع تبناه بيت النبوة هو التركيز على إثبات دعائم الحق من خلال التذكير بالأسلوب العاطفي والمنطقي بلا فصل.ومن أهم القضايا التي ركز عليها هي قضية عاشوراء الحسين(ع).
وهناك أخبار كثيرة تدل على أن الله لم يبعث على وجه الأرض نبيا ووصيا إلا ذكره بمصاب الحسين(ع) فبكى عليه قبل استشهاده.
والمعروف كذلك نقلا عن الروايات أن الإمام السجاد(ع) بكى على أبيه الحسين(ع) بقية حياته كما بكى عليه باقي الأئمة(ع) حتى لُقب الحسين(ع) (صريع الدمعة الساكبة) و (عبرة كل مؤمن ومؤمنة).
ومشروعية البكاء التي أعطاها الرسول الأعظم (ص) للأمة في حياته و بكائه على الحسين (ع) بالخصوص هما خير دليل يمكننا الاعتماد عليه لبيان أهميته في خلق الارتباط العاطفي بين القيادة والأمة.
وهناك الكثير من الروايات المروية عن أهل البيت(ع) تبين هذا الجانب ومنها قول التستري(1)(ره) أنه : روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: لما أوحى الله إلى نبيه ليلة المعراج أن الله يختبرك بثلاث لينظر كيف صبرك.
فقال: أسلم أمري ولا قوة لي على الصبر إلا بك.
فأوحى إليه أنه لابد أن تؤثر فقراء أمتك على نفسك.
فقال : أسلم وأصبر.
ولابد أن تتحمل الأذى والتكذيب.
فقال: أسلم وأصبر، ولابد أن تسلم لما يصيب أهل بيتك.
فأما أخوك فيغصب حقه ويظلم ويقهر و أما ابنتك فتظلم وتحرم وتؤخذ وتضرب وهي حامل ويدخل على حريمها ومنزلها بغير إذن وأما ولداك فيقتل أحدهما غدرا ويسلب ويطعن و الآخر تدعوه أمتك ثم يقتلونه صبرا ويقتلون ولده ومن معه من أهل بيته ثم يسبون حرمه فقال إنا لله وإنا إليه راجعون أسلم أمري إلى الله وأسأله الصبر.
ولقد صبر (ص) في جميع ذلك على كل شيء إلا على حالة، واحدة فلم يصبر عن البكاء على الحسين(ع) لأنه لا ينافي الصبر بل هو لازم الشفقة ورقة القلب.
إذ إنه كلما كان يذكر الحسين أو يراه يغلبه البكاء وكان يقول -لأبيه- أمسكه فيمسكه فيقبل نحره ويقول له لم تبكي؟ فيقول أقبل موضع السيوف منك وأبكي وكان إذا رآه فرحا يبكي وإذا رآه حزينا يبكي وإذا لبس ثوبا جديدا يبكي.
فاطمة الزهراء (ع) وبكاؤها على أبيها وقد تبنت كوثر البيت الرسالي السيدة الزهراء البتول(ع) هذا الأسلوب أيضا بعد رحيل أبيها(ص) عن دار الدنيا، فقد اتخذت من البكاء سلاحاً في التعبير عن حزنها على أبيها أولاً، وثانياً عن استيائها مما فعله القوم بها وببعلها أمير المؤمنين(ع) من سلب لحق التطبيق الكامل لشريعة الله.
فكانت في الأيام المتبقية من حياتها لا يهدأ لها أنين، حتى اجتمع شيوخ أهل المدينة وأقبلوا إلى أمير المؤمنين(ع)، فقالوا له : يا أبا الحسن إن فاطمة تبكي الليل والنهار، فلا أحد منا تهنأ بالنوم في الليل على فرشنا، ولا بالنهار لنا قرار على أشغالنا وطلب معايشنا، وإنا نخبرك أن تسألها إما تبكي ليلا أو نهارا، فقال(ع) : حبا وكرامة.
فأقبل أمير المؤمنين(ع) حتى دخل على فاطمة(ع) وهي لا تفيق من البكاء ولا ينفع فيها العزاء، فلما رأته سكنت هنيئة له، فقال لها : يا بنت رسول الله إن شيوخ المدينة يسألونني أن أسألك إما أن تبكين أباك ليلا وإما نهارا، فقالت : يا أبا الحسن ما أقل مكثي بينهم، وما أقرب مغيببي من بين أظهرهم، فو الله لا أسكت ليلا ولا نهارا أو ألحق بأبي رسول الله(ص)، فقال لها علي(ع) : افعلي يا بنت رسول الله ما بدا لك.
ثم أنه(ع) بنى لها بيتا في البقيع نازحا عن المدينة يسمى بيت الأحزان وكانت تقضي يومها كاملا فيه وهي تبكي وتنوح.
ما يهمنا هو لماذا تبنت البتول فاطمة(ع) الخطاب العاطفي في التعبير عن حقها ومظلوميتها؟ وهل كانت(ع) قاصدة بهذا الأسلوب أن تؤرخ هذه القضية في التاريخ وبذلك تُلقي الحجة على من ظلمها؟ هل تكون بذلك قد أرست دعائم التبليغ لمنهج البيت المحمدي؟ من هنا نستطيع أن نستنتج أن الزهراء(ع) كانت تتبع نماذج مختلفة من الإرساءات العاطفية والمنطقية معا للتدليل على ما تريد أن توصله إلى الناس في تلك الفترة.
وبناء بيت الأحزان واتخاذه من قبل الزهراء مكانا للبكاء ما هو إلا أول مشروع يمنهج هذا الدور الرسالي التبليغي الذي لم يقدر أي نظامٍ طاغوتي أن يواجهه أو يخمده والذي يكمن في إقامة مجالس الحزن والعزاء على مصائب أهل البيت(ع).
والأهم من ذلك كله أن الزهراء(ع) أرادت أن تعّرف الناس بالخط المحمدي الأصيل وإثباتا للهوية الإلهية ببكائها بينهم، ولو حدث أن تذمرت فئة من المجتمع على ذلك، لا يعني أن تتوقف مسيرة البكاء مهما تلقى من صعوبات.
نظرة الإسلام إلى البكاء من الطبيعي أن يحبب الإسلام البكاء لأنه يحل العقد النفسية التي يعجز العلم عن معالجتها، لأن الأزمات والخسائر التي تصدم الإنسان تترسب في قلبه على شكل عقد، لا يحلها سوى الانتقام، مما يسبّب له النكبات.
وإذا كان الإسلام دينا متسامحا لا انتقاميا، وإذا كان الإنسان جائرا في كثير من ألوان الانتقام التي يرغب فيها بطبيعته الحيوانية، وتتضافر الأديان والقوانين على صده عن ممارستها، فلا تجد تلك العقد مجالا للتّعبير والتّنفس الذين يروحان عنها، بل تظل في أعماق النفس، تأكل بعضها وتأكل الإنسان، حتى تنقلب تحت الكبت الطويل، إلى حقد يجعل صاحبه شريرا، يحب الوقيعة بكل أحد بعد أن كان يريد الانتقام من خصمه فحسب، بحيث لا يشعر بالراحة، إلا إذا رأى الدماء البريئة تراق، ودموع الثكلى تسفح ولا يطمئن بغير الأنات الجريحة، والآهات الباردة.
ووجود الحقد في النفوس بلاء إذا أصاب مجتمعا يلتهم فيه الرطب واليابس، ولا ينجو من ويلاته مجرم ولا بريء، فلابد من إزالته بمختلف الطرق قبل أن يستفحل ويستعصي على العلاج.
والإسلام حيث يوصي بالبكاء يحاول حل العقد النفسية قبل أن تترسب في النفوس وتعاني الكبت فتتحول إلى حقد.
فالدمع هو المعين الذي يغسل النفس عن العقد التي تترسب عليها من غبار المعارك والأحداث.
فالبكاء محبوب عند الله وفي جميع الأديان، سواء كان من خشية الله، أم على نكبة.
وأما البكاء على مآسي أهل البيت (ع) ومأساة الطف بالذات فإنه مطلوب و مستحب، وعليه ثواب عظيم.
قصة في فضل البكاء على الحسين (ع) روى المجلسي(2) إذ قال: حكى السيد علي الحسيني قال: كنت مجاورا في مشهد علي بن موسى الرضا(ع) مع جماعة من المؤمنين فلما كان يوم العاشر من المحرم عقدنا مأتما للحسين (ع)، فابتدأ رجل منا يقرأ مقتل الحسين (ع) فقرأ رواية عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: من ذرفت عيناه بالدموع على مصاب الحسين ولو كان مثل جناح البعوضة غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر.
وكان في المجلس معنا رجل يدعي العلم ولا يعرفه.
فقال: ليس هذا صحيح وإن العقل لا يقبله، قال: وكثر البحث بيننا ثم افترقنا وهو مصر على ما هو عليه.
فلما نام تلك الليلة رأى في منامه كأن القيامة قد قامت وحشر الناس في صعيد واحد وقد نصبت الموازين وامتد الصراط ووضع الحساب ونشرت الكتب واستعرت النيران وزخرفت الجنان واشتد الحر عليه وعطش عطشا شديدا فجعل يطلب الماء فلا يجده.
فالتفت هناك وإذا بحوض عظيم الطول والعرض فقال في نفسه هذا هو الكوثر فأقبل إليه وإذا عليه رجلان وامرأة أنوارهم مشرقة لابسين السواد.
قال : فسألت عنهم فقيل لي : هذا رسول الله(ص) وهذا علي(ع) وهذه فاطمة(ع)، فقلت: إذا لماذا لابسين السواد؟ فقيل لي : أليس هذا اليوم قتل فيه الحسين(ع)؟ قال فدنوت منها وقلت لفاطمة: سيدتي إني لعطشان، فنظرت إليّ شزراً وقالت لي: أنت الذي تنكر فضل البكاء على ولدي الحسين والله لن تذوق منه قطرة واحدة حتى تتوب مما أنت عليه.
قال: فانتبهت من نومي فزعا مرعوبا وجاء إلى أصحابه وقصّ عليهم رؤياه وقال: والله يا أصحابي أنا ندمت مما صدر مني و أنا تائب عما كنت عليه.
من خلال هذه القصة يتضح لنا أهمية البكاء على أهل البيت وخصوصا على مصاب سيد الشهداء(ع).
أساليب التأثير في النفوس وإبكائها يشير الدكتور الشيخ باقر المقدسي حفظه الله في رسالته للدكتوراه أنهم وجدوا أن أقوى وسيلة للتأثير في النفوس، وحمل السامعين على التعاطف مع الحسين(ع) هي التذكير بمأساته، والتحدث عن ظلامته لأن وعي المأساة يستوجب وعي مفاهيم الثورة التي بسببها حدثت تلك المأساة.
ويقول أن الأئمة حثوا شيعتهم على التذكير بمأساة سيد الشهداء(ع) ونشر ظلامته بكل الوسائل الممكنة، ويمكن أن يتحقق ذلك بعدة وسائل أهمها:
1 – الشعر(3)
2 – القصة(4) إذا نظرنا إلى الوسيلة الأولى ألا وهي الشعر لوجدنا أن أئمة أهل البيت(ع) حثّوا شيعتهم على نظم الشعر في مأساة أبي عبد الله الحسين(ع) ثم إنشاده.
في ذلك قال الإمام الصادق(ع) لجعفر بن عفان الطائي الشاعر المُنشِد : (ما من أحدٍ قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى به إلا أوجب الله له الجنة وغفر له)(5).
ودخل عليه ذات يوم السيد الحميري فقال له الإمام: أنشدني في الحسين شعرا، وقام الإمام وضرب سترا لنسائه وأطفاله وأجلسهم خلف الستر وجلس حزينا باكيا على مصيبة جده الحسين (ع) ومن حوله أصحابه.
يقول السيد الحميري فأنشأت:
أمرر على جدث الحسين وقل لأعظمه الزكية يا أعظما لا زلت من
وطفاء ساكبة روية وإذا مررت بقبره فأطل به وقف المطية وابك المطهر للمطهر
والمطهرة التقية كبكاء معولة أتت يوما لواحدها المنية
يقول الحميري :فرأيت دموع جعفر بن محمد تتحادر على خديه، ارتفع الصراخ من داره حتى أمرني بالإمساك.(6) وأما بالنسبة إلى القصة فهي من أروع ما يعين على الإقناع، ويقرب الغرض إلى الأذهان.
وهنا قد يستعين الخطيب بالأسلوب القصصي من أجل توضيح المعنى وتقريبه إلى أذهان المستمعين وإقناعهم بحيث يمكنه أن يورد الكثير من الأخبار التاريخية والدينية الصحيحة بصورة قصصية وحكايات واقعية لإعانته على التوضيح والإقناع.
في ذلك قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}.
(7) الخلاصة اتضح مما سبق أنه حين سرد تفاصيل القضية العاشورائية نجد أهمية كبيرة جداً في التركيز على البعد العاطفي وخصوصاً الأساليب التأثيرية كالبكاء واستخدام الأبيات الشعرية والأسلوب القصصي في إحداث التفاعل مع المأساة وما تتناولها من مفاهيم حقة، بحيث لا يكون سرد تلك الأحداث التاريخية مجرد استعراض تاريخي فارغ من محتوى التأثير الإيجابي، بل ويمتد إلى ما هو أعمق بكثير من عيش الحالة المعنوية التي عاشها الحسين (ع)، كاستشعار الضيق الذي عاشته زينب(ع) والإحساس بالخوف والهلع الذي عانى منه أطفال الحسين.
وبذلك الأسلوب يستطيع المستمع أيضا تخيل تفاصيل الأحداث وكأنه فعلا كان موجوداً في أرض كربلاء وبالتالي يتمكن مستخدمي هذه الوسائل من إيداع جملة من المفاهيم الصحيحة والسليمة التي من أجلها كانت القضية وعن جوانب المأساة التي حدثت، وزرعها في باطن المتلقي وبالتالي خلق روابط عاطفية عقائدية مندمجة بالمنطق والتي تتوجه نحو تفعيل العلاقة بين القيادة وعامة الناس وعن طريقها تتولد حالة الانقياد التام لكل ما جاء به أهل البيت(ع) والتأثر الكلي لكل ما عانوه في سبيل إعلاء كلمة الله الواحد القهار.
المصادر والهوامش
- (1) سلسلة مجمع مصائب أهل البيت(ع): ج1 صفحة 112
- (2) زاد الخطباء في أيام عاشوراء صفحة18
- (3) قال رسول الله (ص) (إن من الشعر لحكماً) قال ابن الأثير في معناه (أي إن من الشعر كلاماً نافعاً يمنع من الجهل والسفه، وينهى عنهما.قيل أراد بها المواعظ والأمثال التي ينفع بها الناس.والحكم: العلم والفقه والقضاء بالعدل، وهو مصدر حَكَمَ يَحْكُم. ويُروى : إن من الشعر لحكمة) وهي بمعنى الحُكُم- النهاية 1: 419، (حَكَمَ).
- (4) أُنظر عن أثر الحديث والقصة والصفحة : من رسالة الشيخ المقدسي الصفحة 388.
- (5) اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي :289، وعنه في وسائل الشيعة 14 : 594، الباب 104 من أبواب المزار وما يناسبه، الحديث 1.
- (6) سلسلة مجمع مصائب أهل البيت(ع) ج1 صفحة 47
- (7) سورة يوسف:111