مناظرات الإمام الرّضا (ع) وحواراته
كما هي حياة أهل البيت زاخرة في جوانبها العمليّة والأخلاقيّة فهم أصول الكرم وقادة الأمم وساسة العباد وقدوات على طريق الله، كذلك علينا أن نتلمّس حياتهم العلميّة والفكريّة؛ فهي تشكّل منبعاً أصيلاً لمعرفة الإسلام والدّعوة إليه، و-أيضاً- في فهم العقيدة الحقّة وإزالة الشّبهات الفكريّة والعقديّة الّتي تواجه عقائد النّاس وأفكارهم ، ومن هذه السّيرة العلميّة لهم، والّتي كان لها الأثر البالغ في تثبيت العقيدة وتشييد أركانها إضافة لدفع الشّبهات والتّشكيكات عنها، هو اعتمادهم أسلوب (المجادلة الحسنة) مع الآخر أيّاً كان الآخر من أيّ ديانة أو ملّة أو مذهب، وسواء كان ملحداً أو معانداً أو طالباً للحقيقة.
وهو تأصيل لمبدأ قرآنيّ مستمدّ من قوله تعالى {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(النحل:125) فالمجادلة والمناظرة والاحتجاج تمثّل إحدى أهمّ الأدوات الرّساليّة في الدّعوة إلى الله وكشف الحقائق بالأدلّة والبراهين السّاطعة، و-أيضاً-في دحض الشّبهات والافتراءات الّتي تتسلّل عادةً لبسطاء النّاس، بل وحتّى المعتقِد منهم.
في هذا البحث نحاول أن نسلّط الضّوء على هذا الجانب الّذي ربّما ظلّ خافياً عن ساحتنا الفكريّة والعلميّة، وهو منهج المناظرات والمحاورات العلميّة وعلى وجه الخصوص عند الإمام الرّضا، هذا المنهج العلميّ يقوم على أساس تجلية الحقيقة وإثبات الحقائق، ودحض الأباطيل والشّبهات لدى الخصم والمقابل على مستوى الفكر والعقيدة، بأسلوب حواريّ جدليّ وعقلانيّ هادئ.
وللأسف، إنّ مؤرّخي التّاريخ لم ينقلوا الكثير من تراث أهل البيت في هذا الجانب، وإن كان الّذي بين أيدينا كنزٌ ثرّ من معارفهم وعلومهم سواء في مسائل التّوحيد أو النّبوة والإمامة وغيرها …ويوجد مصنّف جمع مناظرات للنّبيّ| والأئمّة الأطهار وهو کتاب (الاحتجاج) للشيخ الطّبرسيّ[1].
وبما أنّنا أصبحنا في عصر يسود فيه الانفتاح بين الأفكار والثّقافات، وتتدفّق فيه المعلومات من كلّ حدب وصوب، إذ هو شبيه بعصر الإمام الرّضا، حيث نجد حالة الإرباك الفكريّ والعقديّ منتشرة عند بعض من مجتمعاتنا؛ نتيجة التّأثر بالثّقافات الأخرى، إضافة لوسائل التّواصل الاجتماعيّ المنفتحة والإعلام الموجّه، كذلك تصدّي بعض من ليس أهلاً للمحاورة والمناظرة في الإعلام وغيره.
لذا أصبح لزاماً إيجاد أطر منهجيّة يقوم على أساسها أيّ حوار سليم ومنتج من وحي مدرسة أهل البيت.
ولا بدّ للمتصدّي للحوار والنّقاش العلميّ أن يكون متمكّناً خبيراً عارفاً بأساليب الاحتجاج والمناظرة من جهةٍ، ويكون مؤهّلاً علميّاً بموضوع الحوار ومضمونه من جهةٍ أخرى.
وهنا لا بأس أن نشير إلى مقدّمة حول أهمّ (آداب المناظرة) والّتي لا بدّ أن يتوفر عليها المناظر:
أوّلاً: لا بدّ أن يقصد وجه الله تعالى والسّعي لإيصال الحقيقة للغير لا أن يقصد المِراء والمجادلة للمجادلة.
ثانياً: أن يتسلّح بالعلم والمعرفة والمنطق العلميّ الموضوعيّ لا أن يعتمد على التّهريج والإثارات الجانبيّة.
ثالثاً: أن يمارس الأسلوب الهادئ بعبارات مهذّبة ورصينة قائمة على الأدلّة والبراهين المعتمدة.
ومن أهمّ الأسس المنهجيّة للمناظرة: ـ لا بدّ للمناظر ـ مهما أمكن ـ أن يسند كلامه إلى كتاب اللّه المتفقّ عليه عند الشّيعة والسّنّة مستفيداً من كلام المفسّرين المعتمدين عند المناظِر المخالف له في الرأي.
ـ ويجب أيضاً أن يستفيد من الكتب المعتبرة عند الطّرف المقابل ولا يتعب نفسه بالنّقل عن الكتب الّتي لا قيمة لها عنده.
ـ كما يجب على المناظر أن يستدلّ بالرّوايات الواردة في السّنّة المتّفق عليها بين الطّرفين، أو يحتجّ من السّنّة بما هو حجّة عند المخالف ـ وإن لم يكن حجّة عنده ـ كالاستدلال بالأحاديث الّتي صرّح علماء الجرح والتّعديل عندهم بوثاقة رواتها أو حكم علماؤهم وفقهاؤهم بصحّتها لكي يلتزم بتلك الرّوايات، وقد أشار إلى هذا الأساس ابن حزم في قوله: “لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا، فهم لا يصدّقونها، ولا معنى لاحتجاجهم علينا برواياتهم فنحن لا نصدّقها، وإنّما يجب أن يحتجّ الخصوم بعضهم على بعض بما يصدقّه الّذي تقام عليه الحجّة به”[2]، ولا يخفى أنّ المخالف الّذي لا يقبل بروايةٍ قد فرض صحّتها على ضوء كلمات علماء الجرح والتّعديل من أئمّة مذاهبه، فلا مجال للتّكلم مع هذا الشّخص أبداً، فلا بدّ من تركه؛ لأنّ الجدال معه عقيم ولغو، ونحن منهيّون عن اللغو فيترك.. فإذاً لا معنى لاستدلال المناظر الشّيعيّ على العامّيّ بكتاب الكافيّ والتّهذيب وأمثالهما، كما أنّه لا معنى لاحتجاج العامّيّ على الشّيعيّ بصحيح البخاريّ ومسلم وأشباهما.
ـ ويجب ألّا يقاطع أحدهما كلام خصمه في المناظرات الكلاميّة المباشرة؛ لأنّ ذلك يوجب عدم وصول كلّ من الطّرفين إلى ما قصد من كلامه، ويشوّش الفكر ويخرج البحث عن المِحْور الصّحيح، فلا يكون ناجحاً..[3].
ويمكن الاطّلاع بشكل أوسع على الجوانب الفنّيّة والاستدلاليّة في صناعة الجدل من كتاب المنطق للشّيخ المظفّر .
إطلالة على بعض مناظرات الإمام الرّضا وحواراته مع مجيء الخليفة العبّاسيّ (المأمون) عمل من أجل تثبيت حكمه على سياسة تختلف نوعاً ما عن أسلافه من الخلفاء العبّاسيّين القائم حكمهم على أساسٍ من القهر والبطش، فقد مارس سياسة تقوم على المكر والخديعة والاحتواء ، فبعد أن عرض على الإمام الرّضا ولاية العهد من جهة، فتح المناظرات والاحتجاجات أمام الملل والنّحل والأديان والمذاهب وغيرها من جهة أخرى، لمواجهة فكريّة مع الإمام الرّضا، وغرضه أن ينال من مقام الإمام العلميّ الشّامخ ويهزّ ثقة النّاس بالإمام بعد أن حقق مآربه السّياسيّة، وفي نفس الوقت يريد خلق اهتزاز فكريّ تّجاه كيان التّشيّع الّذي أخذ في التّوسع والامتداد الفكريّ والشّعبيّ، وأيضاً صرف الإمام والنّاس عن الوضع السّياسيّ… ولكن مخطّطات المأمون السّياسيّة كلّها باءت بالفشل، بل تفاجأ ورأى أنّ النّتائج جاءت عكسيّة وعلى خلاف ما كان يأمل فكانت في صالح الإمام.
وسنحاول استعراض بعض مناظرات الإمام الرّضا علّنا نقف على شيء من علمه الغزير ونوره السّاطع في كيفيّة عرضه للبراهين والحقائق السّاطعة من القرآن والسّنّة الطّاهرة.
1ـ دليل: صانعُ العالمِ واحدٌ روى الصّدوق عن الفضل بن شاذان: سأل رجلٌ من الثّنويّة أبا الحسن علي بن موسى الرّضا وأنا حاضر فقال له: إنّي أقول: إنّ صانع العالم اثنان فما الدّليل على أنّه واحد؟ فقال: >قولك: إنّه اثنان دليل على أنّه واحد لأنّك لم تدّع الثّاني إلاّ بعد إثباتك الواحد، فالواحد مجمع عليه وأكثر من واحد مختلف فيه<[4].
2ـ بيان فضل العترة من خلال القرآن الكريم لما حضر الإمام عليُّ بن موسى الرّضا‘ مجلس المأمون وقد اجتمع فيه جماعة علماء أهل العراق وخراسان أخذ المأمون يسأل الإمام بأمثلة منها: هل فضَّل الله العترة على سائر النّاس؟ فقال الرّضا: >إنَّ الله العزيز الجبّار فضّل العترة على سائر النّاس في محكم كتابه<.
قال المأمون: “أين ذلك من كتاب الله”؟ فقال الرّضا: في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(آل عمران:33-34)، وقال الله في موضع آخر : {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً}(النساء:54)، ثمّ ردَّ المخاطبة في أثر هذا إلى سائر المؤمنين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ }(النساء:59)، يعني الذين أورثهم الكتاب والحكمة وحُسِدوا عليهما بقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً}(النساء:54)، يعني الطّاعة للمصطفين الطّاهرين والمُلْكُ ههنا الطّاعة لهم .
قال العلماء: “هل فسَّر الله تعالى الاصطفاء في الكتاب”؟ فقال الرّضا: >فسَّر الاصطفاء في الظّاهر سوى الباطن في اثني عشر موضعاً.
فأوّل ذلك قول الله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}(الشعراء:214) -ورهطك المخلصين- هكذا في قراءة أُبيّ بن كعب وهي ثابتةٌ في مصحف عبد الله بن مسعود فلمّا أمر عثمان زيدَ بن ثابت أن يجمع القرآن خَنَسَ هذه الآية وهذه منزلةٌ رفيعة وفضلٌ عظيم وشرف عال حين عنى الله بذلك الآل فهذه واحدة<.
والآية الثّانية: في الاصطفاء قول الله تعالى: {إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(الأحزاب:33) وهذا الفضل الّذي لا يجحده معاند لأنَّه فضلٌ بيِّن.
والآية الثّالثة: حين ميَّز الله الطّاهرين من خلقه أمر نبيَّه في آية الابتهال فقال: {قل -يا محمّد- تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}(آل عمران: 61) فأبرز النّبي عليّاً والحسنَ والحسينَ وفاطمةَ فقَرَن أنفسهم بنفسه.
فهل تدرون ما معنى قوله: {وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ}؟ قالت العلماء: عنى به نفسَه. قال أبو الحسن: >غلطتم، إنّما عنى به عليّاً.
وممّا يدلُّ على ذلك قولُ النبي| حين قال: لينتهينَّ بنو وليعةَ أو لأبعثنَّ إليهم رجلاً كنفسي يعني عليّاً. فهذه خصوصيَّة لا يتقدَّمها أحدٌ. وفضل لا يختلف فيه بشر.
وشرف لا يسبقه إليه خلقٌ؛ إذ جعل نفسَ عليٍّ كنفسه فهذه الثّالثة…<[5]. وهكذا أخذ الإمام يسرد الأدلة تلو الأخرى ويمكن الرّجوع إليها مفصلاً في المصدر.
3ـ فضل الإمامة وبيان مقام الإمام عن القاسم بن مسلم، عن أخيه عبد العزيز بن مسلم قال: “كنّا في أيّام عليِّ بن موسى الرّضا بـ (مَرو)، فاجتمعنا في مسجد جامعها في يوم جمعة في بدو مَقْدمنا، فأدار النّاس أمر الإِمامة وذكروا كثرة اختلاف النّاس فيها، فدخلت على سيّدي ومولاي الرّضا فأعلمته ما خاض النّاس فيه، فتبسّم ثمّ قال: >يا عبد العزيز! جهل القوم وخُدعوا عن أديانهم، إِنَّ الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيّه| حتّى أكمل له الدِّين، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كلّ شيء، بيّن فيه الحلال والحرام، والحدود والأحكام، وجميع ما يحتاج إليه كاملاً فقال: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}(الأنعام: 38)، وأنزل في حجّة الوداع وهو آخر عمره: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}(المائدة: 3).
فأمرُ الإِمامة من تمام الدِّين، ولم يمض| حتّى بيّن لأُمّته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم، وتركهم على قصد الحقّ، وأقام لهم عليّاً علَماً وإِماماً، وما ترك شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إِلاَّ بيّنه، فمن زعم أنّ الله لم يُكمل دينه فقد ردّ كتاب الله، ومن ردّ كتاب الله فهو كافر.
هل تعرفون قدر الإمامة ومحلّها من الأُمّة فيجوّز فيها اختيارهم؟! إِنَّ الإِمامة أجلّ قدْراً وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها النّاس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، فيقيموا إِماماً باختيارهم.
إِنَّ الإِمامة خصّ الله بها إِبراهيمَ الخليل بعد النّبوّة والخُلّة، مرتبةً ثالثة وفضيلة شرّفه الله بها، وأشاد بها ذكْره فقال: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً، فقال الخليل ـ سروراً بها ـ: وَمِنْ ذُرِّيّتي قال الله: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ، فأبطلت هذه الآية إِمامةَ كلّ ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصّفوة، ثمّ أكرمه الله بأنْ جعل في ذرّيّته أهل الصّفوة والطّهارة، فقال تعالى: {وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ * وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ}.
فلم تزل في ذرّيّته يرثها بعض عن بعض قَرناً فقرناً، حتّى ورثها النّبيّ|، فقال الله:{إِنَّ أوْلَى النّاسِ بِإِبراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَليُّ المُؤْمِنِينَ}، فكانت له خاصّة فقلّدها النّبيّ| عليّاً بأمر الله على رسم ما فرضها الله، فصارت في ذرّيّته الأصفياء الّذين آتاهم الله العلم والإِيمان بقوله: {وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَالإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَومِ البَعْثِ}، فهي في ولْد عليّ خاصّةً إِلى يوم القيامة، إِذ لا نبيَّ بعد محمّد|، فمن أين يختار هؤلاء الجهّال؟! إِنَّ الإِمامة: هي منزلة الأنبياء وإِرث الأوصياء.
إِنَّ الإِمامة: خلافة الله، وخلافة الرسول|، ومقام أمير المؤمنين، وميراث الحسن والحسين.
إِنَّ الإِمامة: زمام الدَّين، ونظام المسلمين، وصلاح الدّنيا، وعزّ المؤمنين.
إِنَّ الإِمامة: أُسّ الإِسلام النّاميّ، وفرعه السّاميّ.
بالإِمام: تمام الصّلاة والزّكاة والصّيام، والحجّ والجهاد، وتوفير الفيء والصّدقات، وإِمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثّغور والأطراف.
الإِمام: يُحلّ حلال الله ويحرّم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذبّ عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجّة البالغة.
الإِمام: كالشّمس الطّالعة للعالَم وهي في الأُفق، بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار.
الإِمام: البدر المنير، والسّراج الزّاهر، والنّور السّاطع، والنّجم الهاديّ في غياهب الدّجى والبيداء القفار ولجج البحار.
الإِمام: الماء العذب على الظِّماء، والدّالّ على الهدى، والمنجي من الرّدى. الإِمام: النّار على اليَفاع الحارّة لمن اصطلى، والدّليل في المهالك، من فارقه فهالك.
الإِمام: السّحاب الماطر، والغيث الهاطل، والشّمس المضيئة، والأرض البسيطة، والعين الغزيرة، والغدير والرّوضة…<“[6] وأخذ يبين مقام الإمامة الشّامخ ما يعجز اللسان وصفه…
4ـ من أدلّة التّوحيد عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرّة المحدّث صاحب شبرمة أن أُدخله على أبي الحسن الرّضا، فاستأذنه فأذن له، فدخل فسأله عن أشياء من الحلال والحرام، والفرائض والأحكام، حتّى يسأله في مسائل التّوحيد.. قال أبو قرّة: أين الله؟ فقال أبو الحسن: >الأيْن مكان، وهذه مسألة شاهد عن غايب، فالله تعالى ليس بغائب، ولا يقدمه قادم، وهو بكلّ مكان موجود، مدبّر صانع حافظ ممسك السّماوات والأرض<.
فقال أبو قرّة: أليس هو فوق السّماء دون ما سواها؟ فقال أبو الحسن: >هو الله في السّماوات وفي الأرض، وهو الّذي في السّماء إله وفي الأرض إله، وهو الّذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء وهو معكم أينما كنتم، وهو الّذي استوى إلى السّماء وهي دخان، وهو الّذي استوى إلى السّماء فسوّاهنّ سبع سماوات، وهو الّذي استوى على العرش، قد كان ولا خلق وهو كما كان إذ لا خلق، لم ينتقل مع المنتقلين<.
فقال أبو قرّة: فما بالكم إذ دعوتم رفعتم أيديكم إلى السّماء؟ فقال أبو الحسن: >إِنّ الله استعبد خلقه بضروب من العبادة، ولله مفازع يفزعون إِليه، ومستعبد فاستعبد عباده بالقول والعلم والعمل والتّوجّه ونحو ذلك.
استعبدهم بتوجّه الصّلاة إلى الكعبة، ووجّه إِليها الحجّ والعمرة، واستعبد خلقه عند الدّعاء والطّلب والتّضرّع ببسط الأيدي ورفعها إلى السّماء؛ لحال الاستكانة وعلامة العبوديّة والتّذلّل له<.
قال أبو قرّة: فمن أقرب إلى الله: الملائكة، أو أهل الأرض؟ قال أبو الحسن: >إن كنت تقول بالشّبر والذّراع، فإنّ الأشياء كلّها باب واحد هي فعله لا يُشغل ببعضها عن بعض، يدبّر أعلى الخلق من حيث يدبّر أسفله، ويدبّر أوّله من حيث يدبّر آخره، من غير عناء ولا كلفة ولا مؤونة ولا مشاورة ولا نصب.
وإن كنت تقول مَن أقرب إليه في الوسيلة، فأطوعهم له. وأنتم تروُون أنّ أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد، ورويتم أنّ أربعة أملاك التقوا: أحدهم من أعلى الخلق، وأحدهم من أسفل الخلق، وأحدهم من شرق الخلق، وأحدهم من غرب الخلق، فسأل بعضهم بعضا فكلّهم< قال: >من عند الله أرسلني بكذا وكذا، ففي هذا دليل على أنّ ذلك في المنزلة دون التّشبيه والتّمثيل<[7].
5ـ بين الجبر والتّفويض عن يزيد بن عمير بن معاوية الشّاميّ قال: دخلت على عليّ بن موسى الرّضا (مرو) فقلت له: يا ابن رسول الله! رُوي لنا عن الصّادق جعفر بن محمّد‘ أنّه قال: >لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين، ما معناه؟ فقال: من زعم أنّ الله يفعل أفعالنا ثمّ يعذّبنا عليها فقد قال (بالجبر)، ومن زعم أنّ الله فوّض أمر الخلق والرّزق إلى حججه فقد قال (بالتّفويض) والقائل بالجبر كافر، والقائل بالتّفويض مشرك.
فقلت: يا ابن رسول الله! فما أمر بين الأمرين؟ فقال: وجود السّبيل إلى إتيان ما أُمروا به، وترك ما نُهوا عنه. قلت له: وهل لله مشيّة وإرادة في ذلك؟ فقال: أمّا الطّاعات، فإرادة الله ومشيّته فيها: الأمرُ بها والرّضا لها والمعاونة عليها، وإرادته ومشيّته في المعاصي: النّهي عنها والسّخط لها والخذلان عليها.
قلت: فلله فيها القضاء؟ قال: نعم، ما من فعلٍ يفعله العباد من خيرٍ أو شرٍّ إلّا ولله فيه قضاء. قلت: ما معنى هذا القضاء؟ قال: الحكم عليهم بما يستحقّونه من الثّواب والعقاب في الدّنيا والآخرة<[8].
6ـ ضدّ تحريف الحديث عن إبراهيم بن أبي محمود قال: قلت للرّضا: يا ابن رسول الله! ما تقول في الحديث الّذي يرويه النّاس عن رسول الله|: >إنّ الله تبارك وتعالى ينزل كلّ ليلةٍ إلى السّماء الدّنيا<؟ فقال: >لعن الله المحرّفين الكلم عن مواضعه، والله ما قال رسول الله| كذلك، إنّما قال|: (إنّ الله تبارك وتعالى يُنزل ملَكاً إلى السّماء كلّ ليلة في الثّلث الأخير وليلة الجمعة في أوّل اللّيل، فيأمره فينادي: هل من سائلٍ فأعطيه؟ هل من تائبٍ فأتوب عليه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ يا طالب الخير أقبل، يا طالب الشرّ أقصر! فلا يزال ينادي بهذا حتّى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر عاد إلى محلّه من ملكوت السّماء) حدّثني بذلك أبي، عن جدّي، عن آبائه، عن رسول الله|<[9].
لمَ سمّي الإمام بـ (الرّضا): روى الشيّخ الصّدوق بسنده عن أبي نصر البزنطيّ قال: قلتُ لأبي جعفر محمّد بن عليّ بن موسى (الإمام الجواد): إنّ قوماً مِن مخالفيكم يزعمون أنّ أباك إنّما سمَّاه المأمونُ (الرضا)، لما رضيه لولاية عهده! فقال: >كذبوا والله وفَجروا! بل اللهُ تبارك وتعالى سمّاه الرضا؛ لأنّه كان رضىً لله في سمائه ورضىً لرسوله والأئمّة بعدَه صلوات الله عليهم في أرضه<.
فقلت: ألم يكن كلُّ واحدٍ من آبائك الماضين رضىً لله ولرسوله والأئمّة مِن بعده؟! فقال: >بلى<، فقلت: فَلِمَ سُمّيَ أبوك مِن بينهم (الرّضا)؟ قال: >لأنّه رَضِيَ به المخالفون مِن أعدائِه، كما رضيَ به الموافقون مِن أوليائِه، ولم يكن ذلك لأحدٍ من آبائهِ، فلذلك سُمّيَ مِن بينهم الرضا<[10]
المصادر والهوامش
- [1] كتاب الاحتجاج للشّيخ الطّبرسيّ.
- [2] الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، ج4، ص94.
- [3] قصّة الحوار الهادي، السيد محمّد حسين القزوينيّ، ص14.
- [4] التوحيد، الصدوق، ص250.
- [5] تحف العقول، ابن شعبة الحرّانيّ، 313.
- [6] إِكمال الدِّين، الصّدوق، ج2، ص675، باب 58 برقم 31.
- [7] رواه الكلينيّ& في الكافيّ، ج1، ص130، باب في إبطال الرّؤية، الرقم2: عن أحمد ابن إدريس، عن محمّد بن عبدالجبّار، عن صفوان بن يحيى..؛ والشّيخ الصّدوق^ في التوّحيد، ص110، الباب 8، رقم9 مثله.
- [8] رواه الصّدوق& في عيون أخبار الرّضا×، ج1، ص124، الباب 11، الرقم17: عن تميم بن عبدالله بن تميم القرشيّ، عن أبيه، عن أحمد بن عليّ الانصاريّ، عن بريد بن عمير ابن معاوية الشّاميّ … ونقله المجلسيّ في بحار الأنوار، ج5، ص11.
- [9] رواه الصّدوق+ في التّوحيد، ص176، الباب 28، الرقم7: عن عليّ بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقّاق وعليّ بن أحمد بن موسى، عن محمّد بن هارون الصوفيّ، عن عبيدالله بن موسى الرّؤيانيّ، عن عبدالعظيم بن عبدالله الحسنيّ، عن إِبراهيم بن أبي محمود.
- [10] عيون أخبار الرّضا ×، الصدوق، ج1، ص13، ح1.