ثقافة

الإصر والأغلال

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} الأعراف: 157

تصف الآية الكريمة رسول الله “ص” بأوصاف خمسة:

  • 1ـ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ.
  • 2ـ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ.
  • 3ـ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ.
  • 4ـ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ.
  • 5ـ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ.

وفيما يلي توضيح لهذه النقاط الخمسة:

1ـ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ

المعروف في تفسير الأُمّي: الذي لا يقرأ ولا يكتب. وقد كان رسول الله “ص” لا يقرأ ولا يكتب، يقول تعالى:

{وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}[1].

وعلى هذا الأساس يمكن تفسير النبي الأُمّي بالذي لا يقرأ ولا يكتب، وهو تفسير معروف، تؤيده الآية السابقة، وقد وردت هذه الكلمة بالذات في القرآن وصفاً للجماعة التي بعث الله تعالى منهم رسوله “ص”، يتلو عليهم آياته ويزكّيهم، يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}[2].

ويفسّر المفسرون (الأُمّيّين) في هذه الآية بنفس المعنى السابق، أي «من لا يقرأ ولا يكتب».

الأُميّة الفطرية

غير أنه لا يمكن استبعاد أن يكون المقصود من الاُمّيّين في هذه الكلمة: الجماعة التي لم تتلوث فطرتهم بالثقافات الجاهلية السائدة في عصرهم.

وقد كان العرب في الجزيرة العربية في هذه الفترة يعيشون في رقعة نائية من الصحراء في عزلة تامة عن الحضارات المعروفة يومذاك…

وهذه العزلة التي فرضتها عليهم طبيعة الصحراء يومئذ حفظتهم من التلّوث الأخلاقي والثقافي بالحضارات الجاهلية المعروفة.

وقد اختار الله تعالى هذه الأُمّة بالذات من بين سائر الأُمم التي كانت تعيش يومئذ على وجه الأرض لحمل رسالة التوحيد إلى البشرية.

وقد كانت البشرية كلها يومئذ بحاجة إلى هداية الوحي، ولم يكن العرب وحدهم بهذه الحاجة، وكان لابُدّ من أن يختار الله تعالى شعباً من شعوب الأرض مهبطاً للوحي، لينهض هذا الشعب فيما بعد برسالة الله إلى شعوب الأرض جميعاً.

وقد اختار الله تعالى العرب لذلك، دون سائر الشعوب، وكان في شعوب الأرض يومئذ مَن كان أقدم من العرب في الثقافة والعلم والحضارة بالتأكيد، مثل اليونان والرومان والفرس والهند.

فما هو السبب في هذا الاختيار، والله يختار ما يشاء، وله الخيرة.

اعتقد أنّ في آية البعث نفسها في سورتي آل عمران والجمعة إشارة رقيقة إلى السبب في هذا الاختيار.

إن السبب في هذا الاختيار كامن ـ والله العالم ـ في كلمة (الأُمّيّين)؛ فقد كان العرب يومئذ بحكم العزلة الحضارية التي فرضتها عليهم طبيعة الحياة الصحراوية أُميّين بالنسبة إلى الثقافات الجاهلية يومئذ.

ولا اقصد بالأمّيّين أنّهم كانوا لا يقرؤون ولا يكتبون، وإنما أقصد بذلك أن فطرتهم لم تتلوث بعد بالثقافات الجاهلية السائدة يومئذ. وهي الفطرة القريبة من فطرة الإنسان، عندما يولد من أُمّه.

ولست أريد أن أقول أنّ العرب لم يكونوا يومئذ جاهليين. فقد كانوا جاهليين قبل الإسلام بالتأكيد، وما في ذلك من شك ولكن هذه الجاهلية كانت جاهلية ساذجة غير معقّدة ولا مقنّنة بالتعقيدات والتنظيرات الثقافية المعروفة يومئذ، كالثقافة اليونانية والهندية والفارسية والرومانية… ولم تكن الذهنية الجاهلية العربية مشبّعة بهذه الثقافات بعد، بحكم البيئة والوسط، ولذلك كانت البيئة العربية في الصحراء أنسب من كل بيئة لهبوط الوحي. والجاهلية السائدة في الصحراء كانت أقل خطراً على نقاوة هذا الدين وصفائه وشفافيته من الجاهليات المعروفة يومئذ.

وهذه الأُمّيّة مشتقة من (الأُم) لا (الأُمّة) كما يقول بعض المفسرين. ومناسبة هذه الحالة الحضارية البدائية بـ (الأُمومة)؛ إنها تكاد تشبه حالة الإنسان الفطرية عند ولادته من أمة، وهي الأُمّية الثقافية والحضارية التي تشير إليها الآية الكريمة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}.

ورسول الله “ص” كان من هؤلاء العرب، لم يلتق بالثقافات الجاهلية، وحفظ الله له نقاوة الفطرة وسلامتها، لم تُلِّوثها الجاهليات القائمة يومئذ، بما في ذلك الجاهلية العربية، التي كانت أخفّها وأيسرها جميعاً، وآتاه الله بصائر الوحي.

لم يلتق رسول الله “ص” بهذه الجاهليات قبل الإسلام ولم يتلق منها.

يقول تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}[3].

وقد ورد في زيارة وارث (لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسك من مُدْلَهِمّاتِ ثيابها).

ويبقى بعد ذلك أن نقول: إِن رسول الله “ص” لم يكن يعرف القراءة والكتابة، قبل الإسلام وبعده بصريح القرآن، وهذا حق لا نشك فيه.

2ـ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ

وهذه نقطة ثانية، تصلح لوحدها أن تكون أمارة على صدق الأنبياء.

إن الأنبياء أسرة واحدة، تجمعهم الدعوة إلى الله تعالى، وتوحيد الله بالعبودية، وربط الناس بالله في كل شؤون حياتهم، وتأكيد وتعميق قيم التوحيد في حياة الإنسان، و إعادة الإنسان إلى فطرته وذاته التي تسلخه عنها الثقافات الجاهلية.

ومن يقرأ دعوة الأنبياء في القرآن يجد أنها دعوة واحدة في أُصولها وجذورها والكثير من تفاصيلها وفروعها.

(والذي يستعرض مراحل حياه هذه الأُسرة الربانية في التاريخ، ويلاحظ الوحدة والانسجام والتشابه بين هذه الرسالات، على اختلاف مراحلها وفتراتها… يَطْمَئِنُّ بأن هذه الرسالات تنبع ـ جميعاً ـ من مصدر واحد، وتحمل ـ جميعاً ـ دعوة واحدة، وتواجه ـ جميعاً ـ مصيراً واحداً، وتملك ـ جميعاً ـ ولاءً واحداً وبراءة واحدة.

ولا يمكن أن تلتقي هذه الرسالات جميعاً ـ على اختلاف أزمانها وتباعد فتراتها ـ بهذه الصورة في الخط والدعوة والمنطلق والغاية والمسير والولاء والبراءة والعمل… بصورة عفوية ومصادفة.

ويتعمق لدينا هذا الإحساس بوحدة الرسالات وارتباطها جميعاً بالمصدر الرباني الواحد، عندما نلاحظ أن هذا اللقاء بين الرسالات يتجاوز حدود الانسجام والتناسق والتشابه إلى التصديق والتبشير.

فالمتقدمة منها تبشّر بالمتأخرة، والمتأخرة منها تصدّق المتقدمة، ولم يصادف أن إحداها تناقض الأخرى أو تحصي عليها خطأً أو نقصاً.

وبغض النظر عن أي اعتبار آخر، وعن الإعجاز، وعن الغيب اللّذَين يمكِّنُ الله تعالى أنبيائه منهما كلما يشاء… فإنّ هذا اللقاء والتناسق والانسجام والترابط ووحدة المنطلق والدعوة والغاية والمسير والمعاناة والحب والبغض، بين هذه المجموعة الكبيرة من الرسالات على امتداد التاريخ الطويل، ليبعث الثقة والطمأنينة في نفس الإنسان، بارتباط هذه الرسالات جميعاً ـ وهي معروفة ومشخّصة في التاريخ ـ بالله سبحانه وتعالى.

ولا يمكن أن تلتقي هذه الرسالات جميعاً على خط واحد، ودعوة واحدة، ومنهج واحد، وحب واحد، وبغض واحد… مصادفة، وبصورة عفوية.

والذي يستعرض آيات القرآن الكريم في ما يقصّ الله علينا من قصص الأنبياء^، يجد في ذلك باباً آخر للإيمان بالأنبياء^ ورسالاتهم وارتباطهم بالله تعالى وصدقهم.

والأُمّة الموحدة لله تعالى هي أسرة واحدة مهما اختلفت مواقعها الزمنية ومواضعها من عمود التاريخ.

قال تعالى{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}[4].

أُمّة واحدة من حيث المنطلق والمسار والغاية والأخلاق والحضارة… وإن كانوا يختلفون بحكم اختلاف مواضعهم في التاريخ وبحكم اختلاف مراحلهم ومستوياتهم في النضج العقلي في جملة من التفاصيل الواردة في منهج التشريع.

والقرآن الكريم يسمي هذه الأُسرة بـ « الأُمّة المسلمة »، ويسمي هذه الطريقة والمنهج بـ «الإسلام ». وهو دين الله تعالى في حياة الإنسان، ولن يقبل الله من الإنسان غيره، ولم يبعث أنبياءه بغيره.

قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}[5].

وقال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[6].

وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ}[7].

والإسلام، هو التسليم والانقياد لله تعالى من دون العباد. والعبودية لله سبحانه وحده.

وبهذه الدعوة يدعو القرآن الكريم أهل الكتاب أن يقفوا معنا ـ نحن المسلمين ـ على كلمة واحدة سواء بيننا وبينهم، وهي كلمة التوحيد والعبودية الخالصة لله، ونبذ أي عبودية لغير الله، و نبذ أي تسليم وطاعة لغير الله ومن دون إذن الله.

فقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[8] وهذه الكلمة تجمع أطراف هذه الأُسرة الواحدة، مهما بعدت مواضعهم على عمود الزمان، واختلفت مناهجهم وشرائعهم، وهذه الأسرة متضامنة متصادقة فيما بينها، يبشّر السابق منهم باللاحق، ويُصدِّق اللاحق منهم بالسابق)[9].

وهذا التصديق والتبشير المتبادل بين اللاّحقين منهم والسابقين من أمارات وحدة هذه الأسرة في الإِرتباط بالله تعالى أوّلاً، وفي الانتهال من معين وحي الله تعالى ثانياً، وفي وحدة المنهج العقائدي والتشريعي والأخلاقي ثالثاً وفي وحدة الارتباط بالله وعلاقة بعضهم ببعض رابعاً.

يقول تعالى في تبشير عيسى بن مريم “ع” برسالة رسول الله “ص” من بعده والتصديق برسالة موسى بن عمران “ع” من قبله: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}[10].

{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}[11].

ويُصَدِّق رسول الله “ص” بالذين جاءوا من قبله من الأنبياء “ع”.

يقول تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ}[12].

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}[13].

{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ}[14].

فالقرآن مصدق لما بين يديه من كتب الله ورسالاته، ومهيمن عليها.

ولأن القرآن مُصَدِّق لما بين يديه من الكتب نؤمن بالأنبياء جميعاً، ولا نفرّق بينهم، ولأن القرآن مهيمن عليها جميعاً، نأخذ بالقرآن كلما وجدنا فيما بين القرآن والكتب السابقة عليه اختلاف، {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}[15].

3 ـ 4 ـ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ

في حياة الناس طيبات وخبائث، في الأفعال، وفي مآكلهم، ومشاربهم، ومناكحهم، ومساكنهم.

فالصدق طيّب والكذب خبيث، والأمانة طيّبة والخيانة خبيثة، والوفاء طيّب، والحنث والخلف خبيث، والعطاء والجود طيب، والشح والبخل خبيث، والحب طيّب، والحقد في غير موقعه خبيثِ، والعدل طيّب والظلم خبيث.

كما أن في ما يأكل الناس وما يشربون طيبات أحلّها الله، وخبائث حرّمها الله، كذلك في مناكحهم طيبات وخبائث.

وقد أودع الله تعالى في فطرة الإنسان من المعرفة والتمييز ما يستطيع به أن يميّز الطيب من الخبيث، فيعرف الإنسان الطيبات بالفطرة ويستجيب لها ويتقبلها.

وكذلك فكلّ طيب معروف، يعرفه الإنسان بفطرته ويتقبله. وبنفس الدرجة التي يعرف الإنسان بها الطيبات، ينكر الخبائث ويرفضها؛ فهي لذلك منكرات ترفضها الفطرة وتُنْكِرُهُ. فالطيب والخبيث إذن هما (المعروف) و(المنكر).

والإنسان قبل أن تتلوث فطرته يميز هذا عن ذاك بشكل واضح، ويقبل على المعروف ويأنس به، وينفر من المنكر ويرفضه، كما يعرف الطفل في براءته أمه وأباه ويأنس إليهما، ويقبل عليهما، وينكر الغريب يستوحش منه ويرفضه.

وهذا الإقبال والإعراض حالتان طبيعيتان وفطريتان في الإنسان، كما يقبل الإنسان على الطيبات من الأكل والشرب وينفر الإنسان من الخبائث بصورة طبيعية، ذلك قبل أن تتلوث فطرة الإنسان، فإذا تلوثت فطرة الإنسان وفقدت نقاوتها وشفافيتها وصفائها، إختل عنده هذا الميزان والمقياس الذي يميز به الطيّب عن الخبيث والخير عن الشر… فيتدخل الوحي عندئذ في تعريف الإنسان بالمعروف والمنكر والطيب والخبيث.

يقول تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ}[16].

ففي الفترة الأُولى من حياة الإنسان التي سبقت بعثة النبيين كان الناس يعيشون أمة واحدة على الفطرة، وكانت تكفيهم في هذه المرحلة من التاريخ هداية الفطرة، فلما اختلفوا وفقدوا شفافية الفطرة ونقاءها، بعث الله إليهم النبيين مبشرين ومنذرين لإكمال دور الفطرة، وليعيدوا الناس إلى فطرتهم.

ونهض الأنبياء بهذه المهمة في حياة الناس.

ومهمة النبييّن تؤول إلى أمرين:

تشريع الحلال والحرام، وتحليل الطيبات وتحريم الخبائث، والتعريف بهما في دائرة التشريع، وهذه هي المهمة الأُولى يشير إليها قوله تعالى: {يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ}.

والمهمة الثانية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في دائرة التنفيذ وضبط ومراقبة سلوك الناس في المجتمع، وإليها يشير قوله تعالى: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ}.

5 ـ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ

وهذه هي (الرسالة) الثالثة للأنبياء في حياة الناس، والثلاثة هي:

  • 1ـ تشريع الحلال والحرام.
  • 2 ـ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
  • 3 ـ ووضع الآصار والأغلال عن الناس.

وهذه الثالثة مهمة تربوية. وفيما يلي شرح وتفصيل لهذه المهمة:

الإصر بمعنى: الثقل، والأغلال معروف: وهي حلقات الحديد التي توضع على ساق السجين أو الأسير، لتكبله، وتمنعه عن الحركة.

والإصر والأغلال في الآية الكريمة تعبير عن العوائق التي تعيق حركة الإنسان إلى الله.

فقد خلق الله تعالى الإنسان ليتحرك إليه تعالى في حركة صاعدة، وهذه الحركة هي عروج الإنسان إلى الله تعالى، وفيها كماله وتحرره من (الأنا) و(الهوى).

و(الإصر) و(الأغلال) يعيقان حركة الإنسان إلى الله.

ومهمّة الأنبياء “ع” في حياة الناس إزالة هذه العوائق من طريق الإنسان، {يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}، كما إن مهمة الطغاة هي تثبيت وتأكيد هذه العوائق في حياة الإنسان، وإبقاء الإنسان في أسر (الأنا) و(الهوى)، وحجزه عن الحركة إلى الله، والتكامل.

ولابُدّ لهذه الخلاصة من شرح وتوضيح، واليك ذلك:

المنطلقات والعوائق

في الحياة منطلقات، منها ينطلق الإنسان إلى الله تعالى، وقد زوّد الله تعالى الإنسان بها لتمكّنه من الانطلاق إليه تعالى في دورة الحياة الدنيا.

كما أَنّ في حياة الإنسان عوائق، تعيق حركة الإنسان وتحجزه عن الحركة إلى الله.

ولكي ينطلق الإنسان في الحياة الدنيا إلى الله، وهي الفترة التي يتمكن فيها الإنسان من الإقلاع عن ذاته إلى الله، لابُدّ لـه من أن يأخذ بالمنطلقات التي أعدها الله تعالى لحركته وانطلاقه، ويزيل من أمامه العوائق التي تعيقه عن هذه الحركة.

وفيما يلي توضيح وشرح لكل منهما:

1 ـ المنطلقات:

أودع الله تعالى في فطرة الإنسان وعقله وقلبه طائفة من (الحوافز) و(القيم) و(المعارف) التي منها ينطلق الإنسان إلى الله، ففي هذه الرحلة الشاقة والطويلة، لابُدّ للإنسان من العزم والقوة والإرادة، والصبر والصمود، والمقاومة والشجاعة.

ومن المعرفة بالله والتوكل على الله والثقة بالله والإقبال على الله واليقين بالله وحب الله والشوق إليه تعالى والأُنس به، والانقطاع إلى الله، والحب في الله والبغض في الله، وحب أولياء الله والبراءة من أعداء الله، والرضا بقضاء الله وقدره، والاطمئنان إلى ذكر الله.

ومن العدل، ورفض الظلم، والصدق والأمانة، والوفاء، والعطاء، والحياء، والإيثار، والغيرة، والعفاف، والنزوع إلى الحق، والعزوف عن الباطل، وإباء الضيم، والعاطفة.

وهذه النقاط وغيرها ـ وهي كثيرة ـ هي المنطلقات التي ينطلق منها الإنسان إلى الله تعالى، وقد أودعها الله تعالى جميعاً في فطرة الإنسان، وضميره، وعقله، وفؤاده، ولابُدّ للإنسان منها في هذه الرحلة الشاقة العسيرة الكادحة إلى الله.

ومهمة الأنبياء “ع” هي تعريف الإنسان بما أودع الله تعالى في فطرته وعقله وفؤاده وضميره من كنوز (المعرفة) و(القيم) و(الحوافز)، واستثارة هذه القيم والمعارف والحوافز من داخل نفوس الناس، إذا تراكمت أنقاض الجاهلية والأهواء والذنوب على نفوس الناس، وحجبت عنهم هذه الكنوز التي أودعها الله تعالى في نفوسهم، ليعينهم ولينطلقوا منه إلى الله تعالى. وهذه هي (المنطلقات) بإجمال.

2 ـ العوائق:

وفي مقابل (المنطلقات)، (العوائق)، وهي: طائفة من العوامل المعيقة لحركة الإنسان إلى الله، وهذه العوائق توجد في داخل (النفس)، كما توجد داخل (المجتمع).

من هذه العوائق ما يوجد داخل النفس مثل: الجهل والخوف والشح والطمع، وغريزة الجنس، وحب المال والموقع والمنصب، والبغض، والحقد، والحسد، والكسل، والتعب، واليأس، والبطر، والأنانية، والاستئثار، والرياء، والميل إلى الترف، وغير ذلك… والصفة الغالبة على هذه الطائفة من العوائق، هي صفة (الهوى) و(الأنا)، وهما يكمنان داخل النفس.

وفي مقابل (الأهواء)، (الفتن)، وهي طائفة واسعة من المعيقات، خارج النفس، مثل: الجنس الآخر، والمال، والموقع، والدنيا، والحروب، والبأساء، والضراء، والسراء، والسلطان.

وبين الأهواء والفتن تفاعل، فتجذب الفتن الأهواء، وتنجذب الأهواء للفتن، وفي هذا التفاعل بين الأهواء والفتن تعطيل وتعويق لحركة الإنسان ونموه وتكامله.

ومن هذه العوائق ما يعطّل حركة الإنسان بشكل كامل، وهي (الأغلال)، مثل: الهوى، والخوف، اليأس، والتعب، والبطر، ومنها ما يثقله مثل: الترف والميل إلى الترف والكسل، وحب العافية، وهي (الآصار).

يقول تعالى في المترفين: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ}[17]، فالترف والبذخ من حالات الترهّل التي تعيق حركة الإنسان.

وهذه هي على نحو الإجمال (العوائق)، وهي (الإِصر) و(الأغلال).

سُنّة الأنبياء وسُنّة الطغاة:

ومن سنن الأنبياء “ع” ومنهجهم في حياة الناس تثبيت المنطلقات وإِزالة العوائق، وتحرير الإنسان وتحضيره للصعود إلى الله تعالى.

ومن نهج الطغاة وسننهم في حياة الناس هدم كل مراكز (القوى) و(المعرفة) و(القيم) في شخصية الإنسان، وصرف الناس عن الله، وتثبيت وتعميق العوائق في شخصية الإنسان.

ولكن، لماذا يسعى الطاغوت إلى هذا النهج المعاكس لنهج الأنبياء، وما هو السر في ذلك؟

إن المعادلات التالية توضّح هذه الحقيقة.

إن الطاغوت لايتمكن من أن يتحكم في رقاب الناس إلاّ بإِذلال الناس وتطويع إرادتهم واستضعافهم وترويضهم لإرادته ونفوذه.

وهذه المعادلة الأُولى.

ولا يتمكن من تطويع الناس لإرادته ونفوذه واستضعافهم إلاّ إذا قام بهدم مراكز القوة والمعرفة والقيم، وتثبيت العوائق وتعميقها في شخصيه الإنسان.

وهذه هي المعادلة الثانية.

ولا يتم للطاغوت هذا الهدم والتثبيت إلاّ بفساد الإنسان، وهي المعادلة الثالثة.

وإليك توضيح موجز للمعادلات الثلاثة:

المعادلة الأُولى:

إنَّ الاستكبار يتطلب دائماً إذلال وتطويع واستضعاف الطرف الآخر، ولايتيسر للطاغوت أن يفرض نفوذه وسلطانه على الناس إلاّ بتطويع الناس لإرادته وإذلالهم واستضعافهم.

وهذه الحقيقة يذكرها القرآن: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[18].

إن القرآن يقرر أن استضعاف الناس وإذلالهم كان سبيل فرعون إلى الاستعلاء والاستكبار، وأن الإِستكبار والاستعلاء لايكون إلاّ بالاستضعاف وتطويع الناس.

المعادلة الثانية:

إن تطويع إرادة الناس واستضعافهم لايتم إلاّ من خلال هدم مراكز القوة والقيمة والمعرفة في شخصية الإنسان.

وما دامت هذه المراكز قوية وفاعلة في شخصية الإنسان لا يتمكن الطاغوت من استضعاف الإنسان وتطويعه؛ فإنّ هذه المراكز تمنح الإنسان ثقلا و وزنا، وتحميه، وتمنعه، وتحصّنه من تطاول الطاغوت وعدوانه.

فإذا استفرغ الطاغوت نفس الإنسان من كلّ القيم والقوى والمعارف التي أودعها الله تعالى فيها، واستخفّه منها، صار الإنسان خفيفاً وفقد ثقله ووزنه، وأصبح عائماً على الموجة، يوجهه الطاغوت كيفما يريد، ويطوّعه لإِرادته.

وذلك قوله تعالى في فرعون: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}[19]، وهذه هي خلاصة مركّزة ووافية بدور الطاغوت وعمله في حياة الإنسان. ليستخفّ الناس، ويسلبهم ثقلهم، ووزنهم، ويسلبهم قيمهم، وأخلاقهم، وشجاعتهم، وكفاءاتهم، وقدراتهم، وصمودهم، وصبرهم، ونزوعهم، وميلهم إلى الحق، وعزوفهم عن الباطل…

وإذا استخفهم الطاغوت، وسلبهم ثقلهم ووزنهم أصبحوا خفافا، وتعوّموا كالخشبة العائمة على الموجة، جرى الناس حيث تأخذهم الموجة… عندئذ يطيعون الطاغوت من غير إرادة، ويتحولون من كائن يفكر ويريد، إلى آلة تابعة وإمّعة يتبع الطاغوت {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}، بل قد يزيد الناس على ذلك، فيرون الأشياء لا كما أراهم الله تعالى، بل كما يرى الطاغوت، فإذا كان الطاغوت يرى الصحيح خطأ والخطأ صحيحاً رأوه كذلك، وإذا رأى الطاغوت الأعوج مستقيماً والمستقيم أعوجاً رأوه كذلك، وإذا رأى الطاغوت المعروف منكراً والمنكر معروفاً رأوه كذلك… وهي حاله التبعية المطلقة.

تأملوا في خطاب فرعون للسحرة في القرآن بعد أن آمنوا بالله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}[20].

إن فرعون يتوقع من الناس أن يستأذنوه في كل شيء حتى في الإيمان والعقيدة، فلا يحق لأحد أن يؤمن أو يعتقد إلاّ أن يأذن لـه فرعون بذلك.

وهذا أقصى ما يمكن أن يتصور الإِنسان من التبعية، وهو الذي يتوقعه الطغاة من الناس إذا أمكنهم ذلك.

المعادلة الثالثة:

وهدم مواقع القوة والقيمة والمعرفة في شخصية الإنسان تساوي إفساد الإنسان.

إن في إعاقة الإنسان عن النمو والحركة إلى الله إفساد له، وفي إعاقة المجتمع عن النمو والكمال إفساد للمجتمع، وفي هلاك الحرث والنسل إفساد للحرث والنسل والحياة، وفي الطغيان على الله تعالى والناس إفساد للمجتمع… والخلاصة إن في كل تخريب وهدم إفساد.

والطاغوت عندما يقوم بهدم مواقع الإِرادة والقيمة والمعرفة والعاطفة في شخصية الإنسان، فهو في الحقيقة يهدم الإنسان، وهدم الإنسان وتخريبه هو إفساده.

ففي الآية 31 من سورة القصص بعد أن يذكر الله استعلاء فرعون وإذلاله للرجال وذبحه للأطفال يحكم الله تعالى على فرعون: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}.

وهذا حكم الله في حق فرعون، من فوق سبع سماوات.

وهذا الإفساد يتحقق بتجهيل الناس وتسفيههم واستعبادهم وإذلالهم.

يقول تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ}[21].

والآية الكريمة تقرر أن هلاك الحرث والنسل من الإفساد الذي يمقته الله.

والطغيان من الفساد. يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ}[22].

والفساد الذي أكثروا منه، هو في إذلال الناس وتجهيلهم واستعبادهم وتطويعهم لنفوذهم واستضعافهم وتسفيه عقولهم، وفي الطغيان على الله وعلى الناس.

إذن هدم مواقع القوة والمعرفة والقيمة في شخصية الفرد والمجتمع، إفساد للفرد والمجتمع.

دور الإِصر والأَغلال في الإِفساد:

والعامل الذي يستخدمه الطاغوت في إِفساد الناس هو (الإصر) و(الأَغلال)، وهي مجموعة العوائق التي تعيق حركة الإنسان إلى الله مثل الخوف، واليأس، والتعب، والحرص، وطول الأمل، والحسد وحب الدنيا، وحب المال والطمع، والاستئثار، والميل إلى الترف، والغريزة الجنسية وغيرها، والوصف الجامع لها (الهوى) وهي مجموعة العوائق الكامنة داخل النفس.

والطائفة الأُخرى من العوائق هي العوائق الموجودة خارج النفس، مثل المال والسلطان، والترف، والبذخ، والموقع الاجتماعي، والجنس الآخر، والأولاد، والأزواج، وهي مجموعة الفتن الموجودة خارج النفس. وقد أوضحنا ذلك من قبل.

وبين الفتن والأهواء تفاعل وتجاذب، وفي هذا التفاعل إعاقة الإنسان من الله تعالى وسقوط الإنسان وفساده.

والطغاة يوظّفون الإِصر والأَغلال لإِعاقة الإنسان عن الله وسقوطه وفساده…

تأمّلوا فيما كان يصنعه فرعون لإفساد الناس: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ}[23].

الغاية من أعمال الإرهاب الذي كان يمارسه فرعون في بني إسرائيل، من الإِضطهاد والتعذيب والذبح، هو إخافة الناس وإشاعة روح الخوف والرعب واليأس في نفوسهم.

يقول تعالى في الوسائل التي كان يستخدمها فرعون لإِذلال بني إسرائيل وتطويعهم: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا}. إن إثارة التفرقة والخلاف في المجتمع من الإِصر والأغلال التي تفسد المجتمع وتعيق حركته وتقدمه وكماله.

ويقول تعالى في الوسائل التي اتخذها فرعون لهذه الغاية: {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ}، والاستضعاف إِمتهان واحتقار وازدراء.

وإذا كان طغاة عصرنا يستخدمون لإفساد الناس من الإصر والأغلال ما يختلف عما كان يستخدمه أسلافهم في إِفساد الناس، فإنّ هذا الفارق في الشكل والإخراج وليس في جوهر هذه الوسائل.

سنة الأنبياء في إزالة الإصر والأغلال:

وإذا عرفنا معنى (الإِصر والأَغلال)… نعرف دور الأنبياء في حياة الناس.

فمن مهام الأنبياء^ تثبيت المنطلقات في حياة الناس وتحرير الناس من الإِصر والأَغلال ويتحقق ذلك بتزكية النفوس، وتطهيرها من سلطان الأهواء والذنوب، التي تحبس الإنسان عن الله.

والى جانب ذلك يقوم الأنبياء بتعليم الناس وهدايتهم إلى صراط الله العزيز الحميد، وحدوده وأحكامه ومعارفه وتوحيده.

وهاتان مهمّتان في حياة الأنبياء.

يقول تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}[24].

ويقول تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}[25].

تحرير الإنسان من الهوى والطاغوت:

الهوى والطاغوت يعيقان الإنسان ويحبسانه عن الله تعالى. الهوى من داخل النفس، والطاغوت من الخارج، والطاغوت فتنة ومصدر لكثير من الفتن في حياة الإنسان.

ومادام الإنسان يتبع الهوى ويتولى الطاغوت فهو في أَسر هذا وذاك لا يستطيع أن يتقدم إلى الله ويتكامل.

ورسالة الأنبياء تحرير الإنسان من الهوى والطاغوت.

يقول تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}[26].

ويقول تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[27].

ويقول تعالى: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}[28].

ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى}[29].

ويأمرنا الله تعالى بمكافحة الطاغوت وإِزالته من حياة الناس.

يقول تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ}[30].

والحقيقة الّتي يقرّرها القرآن أنّ الطاغوت من اكبر الإصر والأغلال في حياة الإنسان، ومصدر لكثير من الفتن، وإن لم يتضافر الناس على إزالة هذه العقبة عن طريقهم إلى الله، فإنّ الطاغوت يحبسهم ويعيقهم عنه تعالى بما يثير في حياتهم من الفتنة والفساد.

يقول تعالى في تحريض المؤمنين على قتال الطاغوت: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}[31].

وإذا أزال الناس عن طريقهم فتنة الطاغوت، فإنّ فطرة الإنسان لوحدها قادرة على هدايته إلى الله، لأن الفطرة من أقوى منطلقات الإنسان إلى الله تعالى، يقول عز شأنه: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}[32].

أقرأ ايضاً:


المصادر والمراجع

  • [1] ـ العنكبوت: 48.
  • [2] ـ الجمعة: 2.
  • [3] ـ النحل: 103.
  • [4] ـ المؤمنون: 52، وبنفس المضمون تتكرر هذه الآية الكريمة في سورة الأنبياء:92.
  • [5] ـ آل عمران: 19.
  • [6] ـ آل عمران: 85.
  • [7] ـ النساء: 125.
  • [8] ـ آل عمران: 64
  • [9] ـ في رحاب القرآن 4: 76 لكاتب هذه السطور، الطبعة الاُولى.
  • [10] ـ المائدة:46.
  • [11] ـ الصف: 6.
  • [12] ـ آل عمران: 3.
  • [13] ـ الأنعام: 92
  • [14] ـ المائدة: 48.
  • [15] ـ البقرة: 285.
  • [16] ـ البقرة: 213.
  • [17] ـ الإسراء: 16.
  • [18] ـ القصص: 3.
  • [19] ـ الزخرف: 54.
  • [20] ـ الأعراف: 123 ـ 124.
  • [21] ـ البقرة: 204 ـ 205.
  • [22] ـ الفجر: 6 ـ 13.
  • [23] ـ البقرة: 49.
  • [24] ـ البقرة: 151.
  • [25] ـ الجمعة: 2.
  • [26] ـ النحل: 36.
  • [27] ـ النازعات: 40 ـ 41.
  • [28] ـ سورة ص: 26.
  • [29] ـ الزمر: 17.
  • [30] ـ البقرة: 193.
  • [31] ـ الأنفال: 73.
  • [32] ـ الروم: 30.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

أثبت إنسانيتك: 3   +   8   =  

زر الذهاب إلى الأعلى